{ 108 } { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزا ، بل مشروعا في الأصل ، وهو سب آلهة المشركين ، التي اتخذت أوثانا وآلهة مع الله ، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها .
ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين ، الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب ، وآفة ، وسب ، وقدح -نهى الله عن سب آلهة المشركين ، لأنهم يحمون لدينهم ، ويتعصبون له . لأن كل أمة ، زين الله لهم عملهم ، فرأوه حسنا ، وذبوا عنه ، ودافعوا بكل طريق ، حتى إنهم ، ليسبون الله رب العالمين ، الذي رسخت عظمته في قلوب الأبرار والفجار ، إذا سب المسلمون آلهتهم .
ولكن الخلق كلهم ، مرجعهم ومآلهم ، إلى الله يوم القيامة ، يعرضون عليه ، وتعرض أعمالهم ، فينبئهم بما كانوا يعملون ، من خير وشر .
وفي هذه الآية الكريمة ، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها ، وأن وسائل المحرم ، ولو كانت جائزة تكون محرمة ، إذا كانت تفضي إلى الشر .
ومع أمر الرسول [ ص ] بالإعراض عن المشركين ، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب ، وفي وقار ، وفي ترفع ، يليق بالمؤمنين . . لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه - وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه - فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم :
( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم . كذلك زينا لكل أمة عملهم . ثم إلى ربهم مرجعهم ، فينبئهم بما كانوا يعملون ) .
إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها ، أن كل من عمل عملا ، فإنه يستحسنه ، ويدافع عنه ! فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها . وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها . وإن كان على الهدى رآه حسنا ، وإن كان على الضلال رآه حسنا كذلك ! فهذه طبيعة في الإنسان . . وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء . . مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق . . ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله ، دفاعا عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم ! . .
( ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) . .
وهو أدب يليق بالمؤمن ، المطمئن لدينه ، الواثق من الحق الذي هو عليه . الهادىء القلب ، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور . فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عنادا . فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه . وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون . من سب المشركين لربهم الجليل العظيم ؟ !
يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين{[11032]} عن سب آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة ، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسب{[11033]} إله المؤمنين ، وهو الله لا إله إلا هو .
كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد ، لتنتهين عن سبك آلهتنا ، أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم ، { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم ، فأنزل الله : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعهم فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية ، وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي مُعِيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البَخْتَري{[11034]} وبعثوا رجلا منهم يقال له : " المطلب " ، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه ، فدخلوا عليه فقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندَعْه وإلهه . فدعاه ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تريدون ؟ " . قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ، ولندَعْك وإلهك . قال له أبو طالب : قد أنصفك قومك ، فاقبل منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أعطيتكم هذا ، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ، ودانت لكم بها العجم ، وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها [ قال ]{[11035]} فما هي ؟ قال : " قولوا لا إله إلا الله " . فأبوا واشمأزوا . قال أبو طالب : يا ابن أخي ، قل غيرها ، فإن قومك قد فزعوا منها . قال : " يا عم ، ما أنا بالذي أقول غيرها ، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها " . إرَادَةَ أن يُؤيسَهم ، فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا ، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله : { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }{[11036]}
ومن هذا القبيل - وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها - ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ملعون من سب والديه " . قالوا يا رسول الله ، وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " . أو كما قال ، عليه السلام{[11037]} {[11038]}
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } أي : وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار ، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه ، ولله الحجة البالغة ، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره . { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ } أي : معادهم ومصيرهم ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : يجازيهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله}، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يذكرون أوثان أهل مكة بسوء، فقالوا: لينتهين محمد عن شتم آلهتنا أو لنسبن ربه، فنهى الله المؤمنين عن شتم آلهتهم فيسبوا ربهم، لأنهم جهلة بالله، وأنزل الله: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله}، يعني يعبدون من دون الله من الآلهة، {فيسبوا الله عدوا بغير علم} يعلمونه أنهم يسبون الله، يعني أهل مكة، {كذلك}، يعني هكذا {زينا لكل أمة عملهم}، يعني ضلالتهم، {ثم إلى ربهم مرجعهم} في الآخرة، {فينبئهم بما كانوا يعملون}... فأمسك المسلمون عند ذلك عن شتم آلهتهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: ولا تسبّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد، فيسبّ المشركون الله جهلاً منهم بربهم واعتداء بغير علم... "عَدْوًا"... من قول القائل: عدا فلان على فلان: إذا ظلمه واعتدى عليه...
"كَذَلِكَ زَيّنا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إلى رَبّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ "يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بخذلاننا إياهم عن طاعة الرحمن، كذلك زينا لكلّ جماعة اجتمعت على عمل من الأعمال من طاعة الله ومعصيته عملهم الذي هم عليه مجتمعون، ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم فينبئهم بما كانوا يعملون، يقول: فيوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا، ثم يجازيهم بها إن كان خيراً فخير وإن كان شرّاً فشرّ، أو يعفو بفضله ما لم يكن شركاً أو كفراً.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} نهانا عن سب من يستحق السب مخافة سب من لا يستحق.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... السب: الذكر بالقبيح ومثله الشتم والذم، وهو الطعن فيه بمعنى قبيح، كما يطعن فيه بالسنان، وأصله السبب، فهو تسبب إلى ذكره بالعيب. والمعنى في الآية: لاتخرجوا في مجادلتهم ودعائهم إلى الإيمان ومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله، فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. لبَّسْنا عليهم حقائق الأشياء حتى ظنوا القبيحَ جميلاً، ولم يَرَوْا لسوءِ حالتهم تبديلاً، فركنوا إلى الهوى، ولم يميزوا بين العوافي والبَلا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهي عنه، وإنما يصحّ النهي عن المعاصي قلت: ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية، ووجب النهي عن ذلك النهي. كما يجب النهي عن المنكر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وحكمها على كل حال باق في الأمة، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل فلا يحل للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو نحوه، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب {الذين} وذلك على معتقد الكفرة فيها، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة... وقوله تعالى: {كذلك زينا لكل أمة} إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء، وقوله {ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم} يتضمن وعداً جميلاً للمحسنين ووعيداً ثقيلاً للمسيئين.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إلَهَكُمْ وَكَذَلِكَ هُوَ؛ فَإِنَّ السَّبَّ فِي غَيْرِ الْحُجَّةِ فِعْلُ الْأَدْنِيَاءِ. وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إلَى مَحْظُورٍ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ؛ وَسَتَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ... الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَكُفَّ عَنْ حَقٍّ [يَكُونُ] لَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ يَكُونُ فِي الدِّينِ؛ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ، اخْتِصَارُهُ: أَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَيَأْخُذُهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرابعة: قال الجبائي: دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعدا عن الحق ونفورا. إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به، وكان لا ينهى عما ذكرنا، وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء كقوله لموسى وهرون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}...
المسألة الخامسة: قالوا هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر، وغلبة الظن قائمة مقام العلم في هذا الباب، وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
"كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ" وهذا التزيين منه سبحانه حسن، إذ هو ابتلاء واختبار للعبد ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] وهو من الشيطان قبيح. وأيضا: فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا. وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه. فربما رآه حسنا عقوبة له، فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم، ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول. فتزيين الرب تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه، وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين، والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أمر الله تعالى رسوله فيما قبل هذه الآيات بتبليغ وحيه بالقول والفعل، وبالإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وعلل ذلك بأن من مقتضى سنته في خلق البشر متفاوتي الاستعداد، مختلفي الفهم والاجتهاد، أن لا يتفقوا على دين، ومن مقتضى هدايته في بعثة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فعليهم أن لا يضيقوا ذرعا بحرية الناس في اعتقادهم فإن خالقهم هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان إجبارا وهو قادر على ذلك، ثم عطف على هذا الإرشاد النهي عن سب آلهتهم، وطلب بعضهم للآيات وحقيقة حالهم فيها. فقال: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبوداتهم التي يدعونها من دون الله لجلب النفع لهم أو دفع الضر عنهم، بوساطتها وشفاعتها عند الله لهم، فيترتب على ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى عدوا أي تجاوزا منهم في السباب والمشاتمة التي يغيظون بها المؤمنين إلى ذلك بغير علم منهم أن ذلك يكون سبا لله سبحانه لأنهم وهم مؤمنون بالله لا يتعمدون سبه ابتداء عن رؤية وعلم بل يسبونه بوصف لا يؤمنون به كسبهم لمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحقير آلهتهم أو لمن يقول إنها لا تشفع ولا تنفع أو يقولون قولا يستلزم سبه بحيث يفهم ذلك منهم وإن لم يعلم ذلك قائله – وهذا مما يجب اجتناب سببه حتى على القول بأن لازم المذهب ليس بمذهب – أو يقابلون الساب لمعبودهم بمثل سبه يريدون محض المجازاة فيتجاوزونها كما يقع كثيرا من المختلفين في الدين والمذهب: يسب نصراني نبي المسلم فيسب المسلم نبيه ويريد عيسى (عليهما الصلاة والسلام) ويسب شيعي يلاحي سنيا ويماريه أبا بكر فيسب عليا (رضي الله عنهما) والأول يعلم أن سب عيسى كفر كسب محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني يعلم أن سب علي فسق كسب أبي بكر (رضي الله عنه). ومثل هذا يقع كثيرا، بل كثيرا ما يتساب أخوان من أهل دين واحد يسب أحدهما أب الآخر أو معبوده فيقابله بمثل سبه، يغيظه بسب أبيه مضافا إليه ويعده إهانة له فيسبه مضافا إلى أخيه إهانة لأخيه. وهذا كله من حب الذات والجهل الحامل على المعاقبة على الجريمة بارتكابها عينها، يهين والده المعظم عنده ومعبوده الذي هو أعظم منه احتماء لنفسه وعصبية لها. وقد جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «من الكبائر شتم الرجل والديه» قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: « يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه»...
واستشكل بعضهم النهي بما ورد في الكتاب العزيز ومن وصف آلهتهم بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تقرب ولا تشفع، وأنها هي وإياهم حطب جهنم، وتسميتها بالطاغوت وهو مبالغة من الطغيان، وجعل عبادتها طاعة للشيطان. وقد يجاب عنه بأن هذا لا يسمى سبا، وإن زعموه جدلا، لأن السب الشتم وهو ما يقصد به الإهانة والتعيير، والغرض من ذكر معبوداتهم بذلك بيان الحقائق، والتنفير عن الخرافات والمفاسد، وأجيب على تقدير التسليم بأن سب ما يستحق السب جائز في نفسه، وإنما يحظر إذا أدى إلى مفسدة أكبر منه، والحال هنا كذلك. وقد صح النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام، ومثلها التلاوة في المواضع المكروهة.
واستنبط العلماء من هذه الآية أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر، وفرقوا بين هذا وبين الطاعة في كل مكان فيه معصية لا يمكن دفعها. وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وإيضاح فإن من الطاعة ما يجب وما لا يجب، ومن المعاصي والشرور التي تترتب على بعض الطاعات أحيانا ما هو مفسدة راجحة وما ليس كذلك، ومن كل منهما ما يمكن التفصي من ترتبه على الطاعة وما لا يمكن التفصي منه، ولكل من ذلك أحكام، وتعرض له درجات الإنكار الثلاث، « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة...
{كذلك زينا لكل أمة عملهم} أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر حمية لمن يدعون من دون الله زينا لكل أمة عملهم من إيمان وكفر، وخير وشر، أي مضت سنتنا في أخلاق البشر وشؤونهم أن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم، إذا صار يسند وينسب إليهم، سواء كانوا على تقليد وجهل، أم على بينة وعلم، فسبب التزيين في الأول أنسهم به وكونه من شؤون أمتهم، التي يعد مدحها مدحا لها ولهم، وذمها عارا عليها وعليهم، وزد على ذلك في الثاني ما يعطيه العلم من كون ذلك حقا وخيرا في نفسه يترتب عليه فضلهم على غيرهم فيه وفي الجزاء عليه وشبهات الأول ليس لها مثل هذا التأثير.
فظهر بهذا أن التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه، وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر وفي قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا، من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك. إذ لو كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائز الخلقية التي تعد الدعوة إليها والترغيب فيها، وما يقابلهما من النهي والترهيب عنها، من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله، ولا كان عمل الرسل والحكماء والمؤدبين الذين يهددون الناس ويزكونهم بالتأديب – كله من الجنون، ومن لوازم ذلك أن يكون التفاوت بين الأخيار والأشرار من الناس كالتفاوت بين الملائكة والشياطين وهو خلاف المقطوع به عقلا ونقلا عن استوائهم في قابلية كل منهم للإيمان الكفر والخير والشر... فعُلم من هذا التحقيق أن تزيين الأعمال للأمم عبارة عن سنة الله تعالى في أعمالها وعاداتها وأخلاقها المكسوبة والموروثة وقد بينا في تفسير {زين للناس حب الشهوات} [آل عمران: 13] أن ما كان كذلك لا يسند إلا إلى الله تعالى واضع السنن وكاتب المقادير. وأما تزيين القبيح من عمل واعتقاد فيسند تارة إلى الشيطان وشواهده في هذه السورة (6/40 و 137) وفي الأنفال (8/49) والنحل (16/63) والنمل (27/24) والعنكبوت (29/38) وحم السجدة (41/25) وتارة إلى المفعول وشواهده في هذه السورة (6/22) وفي التوبة ويونس وفاطر والمؤمن والقتال والفتح، وورد إسناده إلى الله تعالى في أول سورة النمل فقط. ويقابله إسناد تزيين الإيمان إليه تبارك اسمه في سورة الحجرات فقط. ويجمعهما معا إسناد جميع الأعمال إليه تعالى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها، ونحوه إسناد حب الشهوات إلى المفعول في سورة آل عمران ويراجع تفسيرنا لها ولقوله تعالى في أواخر سورة البقرة {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] وفي تفسير الأخيرة كلام حسن للأستاذ الإمام في الخير والشر. {ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} أي ثم يرجع جميع أفراد أولئك الأمم إلى ربهم الذي هو سيدهم ومالك أمرهم بعد أن يموتوا ويبعثوا، لا إلى غيره، إذ لا رب غيره، فينبئهم عقب رجوعهم إليه للحساب والجزاء بما كانوا يعملون مما كان مزينا لهم وغير مزين، ويجزيهم به إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي هذه الآية الكريمة، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب، وفي وقار، وفي ترفع، يليق بالمؤمنين.. لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه -وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه- فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم:
(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم. كذلك زينا لكل أمة عملهم. ثم إلى ربهم مرجعهم، فينبئهم بما كانوا يعملون).
إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها، أن كل من عمل عملا، فإنه يستحسنه، ويدافع عنه! فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها. وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها. وإن كان على الهدى رآه حسنا، وإن كان على الضلال رآه حسنا كذلك! فهذه طبيعة في الإنسان.. وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء.. مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق.. ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله، دفاعا عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم!..
(ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)..
وهو أدب يليق بالمؤمن، المطمئن لدينه، الواثق من الحق الذي هو عليه. الهادئ القلب، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور. فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عنادا. فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه. وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون. من سب المشركين لربهم الجليل العظيم؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {وأعرض عن المشركين} [الأنعام: 106] يزيد معنى الإعراض المأمور به بياناً، ويحقّق ما قلناه أن ليس المقصود من الإعراض ترك الدّعوة بل المقصود الإغضاء عن سبابهم وبذيء أقوالهم مع الدّوام على متابعة الدّعوة بالقرآن، فإنّ النّهي عن سبّ أصنامهم يؤذن بالاسترسال على دعوتهم وإبطال معتقداتهم مع تجنّب المسلمين سبّ ما يدعونهم من دون الله.
والسبّ: كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة، بالباطل أو بالحقّ، وهو مرادف الشّتم. وليس من السبّ النسبةُ إلى خطإ في الرّأي أو العملِ، ولا النّسبة إلى ضلال في الدّين إن كان صدر من مخالف في الدّين.
والمخاطب بهذا النّهي المسلمون لا الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّ الرّسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً لأنّ خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأنّه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الّذي ينزله، وإنّما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربّما تجاوزوا الحدّ ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين.
روى الطّبري عن قتادة قال « كان المسلمون يسبّون أوثان الكفّار فيردّون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستَسبّوا لربّهم». وهذا أصحّ ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفَقُه بنظم الآية... والوجه في تفسير الآية أنّه ليس المراد بالسبّ المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم ممّا يدلّ على انتفاء إلهيتها، كقوله تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضلّ} في سورة الأعراف (179). وأمّا ما عداه من نحو قوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها} [الأعراف: 195] فليس من الشّتم ولا من السبّ لأنّ ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصدّياً للشّتم، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذمّ والتّعبير لآلهة المشركين... ووجه النّهي عن سبّ أصنامهم هو أنّ السبّ لا تترتَّب عليه مصلحة دينيّة لأنّ المقصود من الدّعوة هو الاستدلال على إبطال الشّرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى، فذلك هو الّذي يتميّز به الحقّ عن الباطل، وينهض به المحقُّ ولا يستطيعه المبطل، فأمّا السبّ فإنّه مقدور للمحقّ وللمبطل فيظهر بمظهر التّساوي بينهما.
وربّما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحقّ، فيلوح للنّاس أنّه تغلّب على المحقّ. على أنّ سبّ آلهتهم لمّا كان يُحمي غيظهم ويزيد تصلّبهم قد عادَ مُنافياً لمراد الله من الدّعوة، فقد قال لرسوله عليه الصّلاة والسّلام "وجادلهم بالّتي هي أحسن"، وقال لموسى وهارون عليهما السّلام « فقولا له قولاً ليّناً»، فصار السبّ عائقاً من المقصود من البعثة، فتمحّض هذا السبّ للمفسدة ولم يكن مشوباً بمصلحة. وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة لأنّ تغيير المنكر مصلحة بالذّات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعَرض، وذلك مَجال تتردّد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوّة وضعفاً، وتحقّقاً واحتمالاً. وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلّها.
وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ... وليس من السبّ إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة، ولكنّ السبّ أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذّمة من سبّ الله تعالى أو سبّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يعدّ سَبّاً وإن تجاوزوا ذلك عدّ سبّاً، ويعبّر عنها الفقهاء بقولهم: « مَا به كَفر وغير ما به كفر».
وقد احتجّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكيّة، وهو الملقّب بمسألة سَدّ الذّرائع. قال ابن العربي: « منع الله في كتابه أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدّي إلى محظور ولأجل هذا تعلّق علماؤنا بهذه الآية في سدّ الذّرائع وهو كلّ عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور». وقال في تفسير سورة الأعراف (163) عند قوله تعالى: {واسْألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذْ يعدون في السّبت} قال علماؤنا: هذه الآية أصل من أصول إثبات الذّرائع الّتي انفرد بها مالك رضي الله عنه وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشّافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما مع تبحّرهما في الشّريعة، وهو كلّ عمل ظاهر الجواز يتوصّل به إلى محظور اهـ. وفَسَّر المازري في باب بيوع الآجال من شرحه سَدّ الذّريعة بأنّه منع ما يجوز لئلاّ يتَطرّق به إلى ما لا يجوز اه. والمراد: سدّ ذرائع الفساد، كما أفصح عنه القرافي في « تنقيح الفصول» وفي « الفرق الثّامن والخمسين» فقال: الذّريعة: الوسيلة إلى الشّيء.
ومعنى سدّ الذّرائع حسم مادّة وسائل الفساد...
و {عَدْواً}... ووصفُ سبِّهم بأنّه عَدْو تعريض بأنّ سبّ المسلمين أصنامَ المشركين ليس من الاعتداء، وجعل ذلك السبّ عدواً سواء كان مراداً به الله أم كان مراداً به من يأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به لأنّ الّذي أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به هو في نفس الأمر اللّهُ تعالى فصادفوا الاعتداء على جلاله.
وقوله: {بغير علم} حال من ضمير {يسبّوا}، أي عن جهالة، فهم لجهلهم بالله لا يزعهم وازع عن سبّه، ويسبّونه غير عالمين بأنّهم يسبّون الله لأنّهم يسبّون مَن أمر محمّداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به فيصادف سبّهم سبّ الله تعالى لأنّه الّذي أمره بما جاء به.
ويجوز أن يكون {بغير علم} صفة ل {عَدْواً} كاشفة، لأنّ ذلك العدو لا يكون إلاّ عن غير علم بعظم الجرم الّذي اقترفوه، أو عن علم بذلك لكن حالة إقدامهم عليه تشبه حالة عدم العلم بوخامة عاقبته.
وقوله: {كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عمَلهم} معناه كتزييننا لهؤلاء سُوء عملهم زَيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم، فالمشار إليه هو ما حكاه الله عنهم بقوله: {وجعلوا لله شركاء الجنّ} إلى قوله {فيسبّوا الله عدواً بغير علم} [الأنعام: 100 108]. فإنّ اجتراءهم على هذه الجرائم وعماهم عن النّظر في سوء عواقبها نشأ عن تزيينها في نفوسهم وحسبانهم أنّها طرائق نفع لهم ونجاة وفوز في الدّنيا بعناية أصنامهم.
فعلى هذه السنّة وبمماثل هذا التّزيين زيّن الله أعمال الأمم الخالية مع الرّسل الّذين بُعثوا فيهم فكانوا يُشاكسونهم ويعصون نصحهم ويجترئون على ربّهم الّذي بعثهم إليهم، فلمّا شبّه بالمشار إليه تزيينا عَلِم السّامع أنّ ما وقعت إليه الإشارة هو من قبيل التّزيين. وقد جرى اسم الإشارة هنا على غير الطّريقة الّتي في قوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا} [البقرة: 143] ونظائره، لأنّ ما بعده يتعلّق بأحوال غير المتحدّث عنهم بل بأحوال أعمّ من أحوالهم. وفي هذا الكلام تعريض بالتوعّد بأن سيحلّ بمشركي العرب من العذاب مثلُ ما حلّ بأولئك في الدّنيا.
وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنّه خلَقهم بعقول يَحْسُن لديها مثلُ ذلك الفعل، على نحو ما تقدّم في قوله تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 108]. وذلك هو القانون في نظائره.
والتّزيين تفعيل من الزّيْن، وهو الحُسن؛ أو من الزّينة، وهي ما يتحسّن به الشّيء. فالتّزيين جعل الشّيء ذا زينة أو إظهاره زيْناً أو نسبته إلى الزّين. وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزّين وإن لم يكن كذلك، فالتّفعيل فيه للنّسبة مثل التّفسيق. وفي قوله: {ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وَزَيَّنه في قلوبكم} [الحجرات: 7] بمعنى جعله زيناً، فالتّفعيل للجعل لأنّه حَسَن في ذاته.
ولما في قوله: {كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عملهم} من التّعريض بالوعيد بعذاب الأمم عقّب الكلام ب {ثُمّ} المفيدة التّرتيب الرتبي في قوله: {ثمّ إلى ربّهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون}، لأنّ ما تضمّنته الجملة المعطوفة ب {ثُمّ} أعظم ممّا تضمّنته المعطوفُ عليها، لأنّ الوعيد الّذي عُطفت جملته ب {ثمّ} أشدّ وأنكى فإنّ عذاب الدّنيا زائل غير مؤيّد. والمعنى أعظم من ذلك أنّهم إلى الله مرجعهم فيحاسبهم. والعدول عن اسم الجلالة إلى لفظ {ربّهم} لقصد تهويل الوعيد وتعليل استحقاقه بأنّهم يرجعون إلى مالكهم الذي خلقهم فكفروا نعمه وأشركوا به فكانوا كالعبيد الآبقين يطوِّفون ما يطوفوّن ثمّ يقعون في يد مالكهم.
والإنباء: الإعلام، وهو توقيفهم على سوء أعمالهم. وقد استعمل هنا في لازم معناه، وهو التّوبيخ والعقاب، لأنّ العقاب هو العاقبة المقصودة من إعلام المجرم بجرمه. والفاء للتّفريع عن المَرْجِع مؤذنة بسرعة العقاب إثر الرّجوع إليه.
وتتضمن هذه الآية الكريمة منهجا ضروريا من مناهج الدعوة إلى الله، هذه الدعوة التي حملها الرسل السابقون، وختمهم الحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلها سبحانه ختما لاتصال السماء بالأرض؛ لذلك كان لابد من أن يستوعب الإسلام كل أقضية تتعلق بالدعوة إلى الله يحملها أمينا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأمة المحمدية. التي شرفها الله سبحانه وتعالى بأن جعل فيها من يحملون أمانة دعوة الله إلى الخلق امتدادا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فكل مسلم يعمل حكما من أحكام الله مطلوب منه أن يبلغه لغيره؛ فرب مبلغ أوعى من سامع. حتى وإن كان الله لم يوفقه للعمل بما جاء فيما بلغ. فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فإذا فاته أن يعمل فالواجب ألا يفوت من يعلم قضية من قضايا دينه ثواب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلق، ولكن عليه أن يعمل ليكون قدوة سلوكية يتأسى به غيره حتى لا يقع تحت طائلة قوله تعالى: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}...
إذن فالبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر ضروري، وهو امتداد لشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه بلغ صلى الله عليه وآله وسلم عن الحق مراده من الخلق. وبقى أن يشهد الناس الذين اتبعوا هذا الرسول أنهم بلغوا إلى الناس ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
{كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (من الآية 143 سورة البقرة).
إذن فكما أن الرسول سيشهد بأنه بلغنا، فمن صميم المنهج أن يشهد أتباعه أنهم بلغوا الناس، فإن حدث تقصير في البلاغ إلى الناس، فستكون المسئولية على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يؤد أمانة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الناس أجمعين. ومنهج الدعوة منهج صعب؛ لأن الدعوة إلى الله تتطلب أن يأخذ الداعي يد الذين ينحرفون عن منهج السماء اتباعا لشهوات الأرض، وشهوات الأرض جذابة دائما للخلق؛ لأنها تحقق العاجل من متع النفس. واتباع منهج الدين – كما يقولون – يحقق نفعا آجلا. وفي هذا القول ظلم للدين، لأن الدين قبل أن يحقق للناس متعة آجلة، فهو يحقق – أيضا – متعة عاجلة؛ لأن الناس إن تمسكوا بمنهج الله في (افعل ولا تفعل) يعيشون حياة طيبة لا حقد فيها، ولا استغلال، ولا ضغن ولا حسد ولا سيطرة، ولا جبروت، فيصبح الناس جميعا في أمان.
إذن فلا تقولوا إن الدين ثمرته في الآخرة بل قولوا ليست مهمة الدين هي الآخرة فحسب بل مهمة الدين هي الدنيا أيضا، والآخرة إنما هي ثواب على النجاح في هذه المهمة؛ لأن الله إنما يجازي في الآخرة من أحسن العمل في الدنيا. ومن اتبع منهج الله كما قال الله: {فلنحيينه حياة طيبة} ومن أعرض عن منهج الله فإن له معيشة ضنكا. ويحدث ذلك قبل الآخرة، ثم يأتي يوم القيامة ليتلقى العقاب من الله:
{ونحشره يوم القيامة أعمى} (سورة طه).
فإذا كان الدين يأخذ بالناس من شهواتهم الهابطة إلى منهج الله العالي، فتكون مهمة الداعي شاقة على النفس، ولذلك قالوا: إن الناصح بالخير يجب أن يكون لبقا؛ لأنه يريد أن يخلع الناس مما أحبوا وألفوا من الشر؛ لذلك يجب على الداعي ألا يجمع عليهم إخراجهم مما ألفوا بأسلوب يكرهونه بل لابد أن يثير جنانهم ورغبتهم في اتباع المنهج، ولذلك جاءت هذه الآية:
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}.
لقد قال الحكماء: النصح ثقيل؛ فلا ترسله جبلا ولا تجعله جدلا، والحقائق مرة، فاستعيروا لها خفة البيان. والخفة في النصح تؤلف قلب المنصوح، وحسبك منه أن تخلعه عما ألف وأحب. إلى ما لم يتعود، فلا يكون خلعه مما ألف بأسلوب عنيف. ولذلك يعلمنا الحق هذه القضية حين ندعو الخصوم إلى الإيمان به، وهؤلاء الخصوم يتخذون من دون الله أندادا؛ أي جعلوا الله ومعه شركاء.
إنهم إذن أرادوا المتعة العاجلة بالابتعاد عن المنهج، ثم احتفظوا بالله مع الشركاء؛ لأنه قد تأتي لهم ظروف عصيبة، لا تقدر أسباب الأرض على دفعها، ومن مصلحتهم أن يكون لهم إله قادر على أن ينجيهم مما هم فيه. فهم لا يكذبون أنفسهم. والحق سبحانه هو القائل في مثل هؤلاء إن أصروا على الشرك: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98)} (سورة الأنبياء)...
ولذلك يأتي الأمر بألا نسب ما يعبده الذين أشركوا بالله؛ لأن الأصنام لا ذنب لها، والواقع كان يقتضي أن تتلطفوا بالأحجار فهي لا ذنب لها في المفتونين بها. والحق سبحانه وتعالى يعلمنا ويوضح لنا ألا نظلم المتخَذ إلها؛ لأنه معذور، والسب هو ذكر القبيح، والشتم، والذم، والهجاء، إنك إن سببت وقبحت ما عبدوه من دون الله فإن العابد لها بغباوته سيسب إلهك فتكون أنت قد سببت إلها باطلا، وهم سبوا الإله الحق، وبذلك نكسب شيئا؛ فانتبهوا.
ويحذرنا القرآن من الوقوع في ذلك في قول الله تبارك وتعالى:
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}... وهم سيفعلون ذلك عدوا وعدوانا وطغيانا بغير علم بقيمة الحق وقدسيته سبحانه وتعالى؛ لذلك يجب أن نصون الألسنة عن سب آلهتهم حتى لا نجرئ الألسنة التي لا تؤمن بالله على سب الله.
إن الحق سبحانه يريد أن يعلمنا اللطف في منهج الدعوة؛ لأنك تريد أن تحنن قلوبهم لتستميلهم إلى الايمان ولن يكون ذلك إلا بالأسلوب الطيب.
صحيح أن المؤمنين معذورون في حماسهم حين يدخلون في مناقشة مع المشركين ولكن ليتذكر المؤمن القيمة النهائية وهي الخير للدعوة. وليسأل الله أن يرزقه الصبر على المشركين...