{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
هذه الصيغة من صيغ الامتناع ، أي : يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن ، أي : متعمدا ، وفي هذا الإخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة ، وإنما يصدر ذلك إما من كافر ، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك ، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل ؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض "
فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله .
ولما كان قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال : { إِلَّا خَطَأً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم ، ولا مجترئ على محارم الله ، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال :
{ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عبدًا ، صغيرًا أو كبيرًا ، عاقلاً أو مجنونًا ، مسلمًا أو كافرًا ، كما يفيده لفظ " مَنْ " الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان ب " مَنْ " في هذا الموضع ، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول : فإن قتله ، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله " مَنْ " وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى ، صغيرًا أو كبيرًا ، كما يفيده التنكير في سياق الشرط ، فإن على القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لذلك ، تكون في ماله ، ويشمل ذلك الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والصحيح والمعيب ، في قول بعض العلماء .
ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة ؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق ، وتمليكه منافع نفسه ، فإذا كان يضيع بعتقه ، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه ، مع أن في قوله : { تحرير رقبة } ما يدل على ذلك ؛ فإن التحرير : تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له ، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير . فتأمل ذلك فإنه واضح .
وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد . { مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم ، والمراد بأهله هنا هم ورثته ، فإن الورثة يرثون ما ترك ، الميت ، فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه .
وقوله : { إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي : يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية ، فإنها تسقط ، وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة ، والصدقة مطلوبة في كل وقت . { فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } أي : من كفار حربيين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي : وليس عليكم لأهله دية ، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم .
{ وَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الرقبة ولا ثمنها ، بأن كان معسرا بذلك ، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة ، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا يفطر بينهما من غير عذر ، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع ، كالمرض والحيض ونحوهما . وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم .
{ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } أي : هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم ، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز ، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : كامل العلم كامل الحكمة ، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، في أي وقت كان وأي محل كان .
ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء ، بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة ، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه ، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة ، وأخرجها من الوجود إلى العدم ، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة ، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين ، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله .
ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها ، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة . بخلاف الظهار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك .
ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ ، بإجماع العلماء ، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة ، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم ]{[222]} ويخف عنهم{[223]} بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم ، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين .
ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم ، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل .
ذلك في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى . فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض ، مهما اختلفت الديار - وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتى الديار - فلا قتل ولا قتال . . لا قتل إلا في حد أو قصاص . . فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة . ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبدا . وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة . اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ . . وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام . فأما القتل العمد فلا كفارة له . لأنه وراء الحسبان ! ووراء حدود الإسلام !
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ . ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا - فإن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن - فتحرير رقبة مؤمنة . وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين . توبة من الله . وكان الله عليما حكيمًا .
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيمًا ) . .
وهذه الأحكام تتناول أربع حالات : ثلاث منها من حالات القتل الخطأ - وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة - دار الإسلام - أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام - والحالة الرابعة حالة القتل العمد . وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء . فليس من شأنها أن تقع . إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا . وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا . وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا . . ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ :
( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) . .
فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي . . وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع . . فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة . كبيرة جدا . ونعمة عظيمة . عظيمة جدا . ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه ؛ والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد . . إن هذا العنصر . . المسلم . . عنصر عزيز في هذه الأرض . . وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله . . فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله . . وهذا أمر يعرفه أصحابه . يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم . وقد علمهم الله إياه بهذه العقيدة . وبهذه الوشيجة . وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول الله [ ص ] ثم ترتقي فتجمعهم في الله سبحانه الذي ألف بين قلوبهم . ذلك التأليف الرباني العجيب .
فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث ، التي يبين السياق أحكامها هنا :
الحالة الأولى : أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام . ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة ، ودية تسلم إلى أهله . . فأما تحرير الرقبة المؤمنة ، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة . وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام . وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس ، وشراء لخواطر المفجوعين ، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول . . ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو -إذا اطمأنت نفوسهم إليه - لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم .
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا . .
والحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب . . وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت ، وفقدها الإسلام . ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين ، يستعينون بها على قتال المسلمين ! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم ، فهم محاربون ، وهم عدو للمسلمين .
والحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون - عهد هدنة أو عهد ذمة - ولم ينص على كون المقتول مؤمنا في هذه الحالة . مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه . ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - المعاهدين - ولو لم يكن مؤمنا . لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين .
ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن . ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) . . ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنا . وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال : إن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو . ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة . مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضا عنه . وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقا دون شرط الإيمان . .
وقد ورد أن النبى [ ص ] ودى بعض القتلى من المعاهدين : ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم . مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية . وأن هذا ثبت بعمل رسول الله [ ص ] لا بهذه الآية . وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن . سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام ، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب ، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق . . ميثاق هدنة أو ذمة . . وهذا هو الأظهر في السياق .
يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " {[7986]} .
ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث ، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه .
وقوله : { إِلا خَطَأً } قالوا : هو استثناء منقطع ، كقول الشاعر{[7987]}
من البيض لم تَظْعن بعيدا ولم تَطَأ *** على الأرض إلا رَيْطَ بُرْد مُرَحَّل{[7988]} .
واختلف في سبب نزول هذه [ الآية ]{[7989]} فقال مجاهد وغير واحد : نزلت في عياش{[7990]} بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه - وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة{[7991]} - وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه مع أخيه على الإسلام ، وهو الحارث بن يزيد العامري ، فأضمر له عَيّاش السوء ، فأسلم ذلك الرجل وهاجر ، وعياش لا يشعر ، فلما كان يوم الفتح رآه ، فظن أنه على دينه ، فحمل عليه فقتله . فأنزل الله هذه الآية{[7992]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أبي الدرداء ؛ لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإسلام{[7993]} حين رفع{[7994]} السيف ، فأهوى به إليه ، فقال كلمته ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما قالها متعوذا . فقال له : " هل شققت عن قلبه " {[7995]} [ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء ]{[7996]} .
وقوله : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ]{[7997]} } هذان واجبان في قتل الخطأ ، أحدهما : الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم ، وإن كان خطأ ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة .
وحكى ابن جرير ، عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري أنهم قالوا : لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدًا للإيمان . وروي من طريق عبد الرزاق{[7998]} عن معمر ، عن قتادة قال : في حرف ، أبي : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لا يجزئ فيها صبي .
واختار ابن جرير إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين أجزأ ، وإلا فلا . والذي عليه الجمهور : أنه متى كان مسلمًا صح عتقه عن الكفارة ، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا .
وقال الإمام أحمد : أنبأنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزُّهري ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن رجل من الأنصار ؛ أنه جاء بِأَمَةٍ سوداء ، فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ " قالت : نعم . قال : " أتشهدين أني رسول الله ؟ " قالت نعم . قال : " أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟ " قالت : نعم ، قال : " أعتقها " .
وهذا إسناد صحيح ، وجهالة الصحابي لا تضر{[7999]} .
وفي موطأ [ الإمام ]{[8000]} مالك ومسندي الشافعي وأحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن{[8001]} أبي داود والنسائي ، من طريق هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا " قالت : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " {[8002]} .
وقوله : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل ، عوضا لهم عما فاتهم من قريبهم . وهذه الدية إنما تجب أخماسا ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك ، عن ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جَذَعة{[8003]} وعشرين حِقَّة .
لفظ النسائي ، وقال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا{[8004]} .
وكذا روي عن [ علي و ]{[8005]} طائفة .
وقيل : تجب أرباعا . وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله ، قال الشافعي ، رحمه الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهو أكثر{[8006]} من حديث الخاصة{[8007]} وهذا الذي أشار إليه ، رحمه الله ، قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هُذَيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى أن دية جنينها غُرَّة عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها{[8008]} .
وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية ، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا كالعمد ، لشبهه به .
وفي صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عمر قال : بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا . فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا . فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " . وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم ، حتى مِيلَغة الكلب{[8009]} .
وهذا [ الحديث ]{[8010]} يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال .
وقوله : { إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي : فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا{[8011]} بها فلا تجب .
وقوله : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي : إذا كان القتيل مؤمنا ، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب ، فلا دية لهم ، وعلى القاتل{[8012]} تحرير رقبة مؤمنة لا غير .
وقوله : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ] }{[8013]} الآية ، أي : فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة ، فلهم دية قتيلهم ، فإن كان مؤمنا فدية كاملة ، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء . وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم ، وقيل : ثلثها ، كما هو مفصل في [ كتاب الأحكام ]{[8014]} ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة .
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا إفطار بينهما ، بل يسرد{[8015]} صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر ، من مرض أو حيض أو نفاس ، استأنف . واختلفوا في السفر : هل يقطع أم لا ؟ على قولين .
وقوله : { تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين .
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام : هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا ، كما في كفارة الظهار ؟ على قولين ؛ أحدهما : نعم . كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ، وإنما لم يذكر هاهنا ؛ لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير ، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص . القول الثاني : لا يعدل إلى الإطعام ؛ لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } قد تقدم تفسيره غير مرة .
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مّسَلّمَةٌ إِلَىَ أَهْلِهِ إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مّسَلّمَةٌ إِلَىَ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةً فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } : وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنا . يقول : ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الأشياء البتة . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَما كانَ لِمُؤمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } يقول : ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه .
وأما قوله : { إلاّ خَطأً } فإنه يقول : إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ ، وليس له مما جعل له ربه فأباحه له . وهذا من الاستنثاء الذي تسميه أهل العربية : الاستثناء المنقطع ، كما قال جرير بن عطية :
مِنَ البِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدا ولمْ تَطأْ ***على الأرْضِ إلا رَيْطَ بُرْدٍ مُرَحّلِ
يعني : لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد ، وليس ذيل البرد من الأرض .
ثم أخبر جلّ ثناؤه عباده بحكم من قتل من المؤمنين خطأ ، فقال : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يقول : فعليه تحرير رقبة مؤمنة من ماله ودية مسلمة يؤدّيها عاقلته إلى أهله : { إلاّ أَن يَصّدّقُوا } يقول : إلا أن يصدّق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم ، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه ، فيسقط عنه . وموضع «أن » من قوله : { إلاّ أنْ يَصّدّقُوا } نصب ، لأن معناه : فعليه ذلك إلا أن يصدّقوا . وذكر أن هذه الاَية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وكان قد قتل رجلاً مسلما بعد إسلامه وهو لا يعلم بإسلامه . ذكر الاَثار بذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن جاهد في قول الله : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً } قال : عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمنا كان يعذّبه مع أبي جهل ، وهو أخوه لأمه ، فاتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو . وكان عياش هاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مؤمنا ، فجاء أبو جهل وهو أخوه لأمه ، فقال : إن أمك تناشدك رحمها وحقها أن ترجع إليها ! وهي أسماء ابنة مخرمة . فأقبل معه ، فربطه أبو جهل حتى قدم مكة¹ فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرا وافتتانا ، وقالوا : إن أبا جهل ليقدر من محمد على ما يشاء ويأخذ أصحابه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فاتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل وعياش يحسبه أنه كافر كما هو ، وكان عياش هاجر إلى المدينة مؤمنا ، فجاءه أبو جهل وهو أخوه لأمه ، فقال : إن أمك ، تنشدك برحمها وحقها إلا رجعت إليها ! وقال أيضا : ويأخذ أصحابه فيربطهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه . قال ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بني عامر بن لؤيّ يعذّب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل . ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف حتى سكت ، وهو يحسب أنه كافر . ثم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، ونزلت : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلا خَطَأً } . . . الاَية ، فقرأها عليه ، ثم قال له : «قُمْ فَحَرّرْ » .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً } قال : نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، فكان أخا لأبي جهل بن هشام لأمه . وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين الأولين قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلبه أبو جهل والحارث بن هشام ومعهما رجل من بني عامر بن لؤيّ ، فأتوه بالمدينة ، وكان عياش أحبّ إخوته إلى أمه ، فكلموه وقالوا : إن أمك قد حلفت أن لا يظلها بيت حتى تراك وهي مضطجعة في الشمس ، فأتها لتنظر إليك ثم ارجع ! وأعطوه موثقا من الله لا يحجزونه حتى يرجع إلى المدينة . فأعطاه بعض أصحابه بعيرا له نجيبا ، وقال : إن خفت منهم شيئا فاقعد على النجيب . فلما أخرجوه من المدينة أخذوه فأوثقوه ، وجلده العامريّ ، فحلف ليقتلنّ العامريّ . فلم يزل محبوسا بمكة حتى خرج يوم الفتح ، فاستقبله العامريّ وقد أسلم ولا يعلم عياش بإسلامه ، فضربه فقتله ، فأنزل الله : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً } يقول : وهو لايعلم أنه مؤمن ، { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلاّ أنْ يَصّدّقُوا } فيتركوا الدية .
وقال آخرون : نزلت هذه الاَية في أبي الدرداء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً } . . . الاَية . قال : نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء كانوا في سرية ، فعدل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ يريد حاجة له ، فوجد رجلاً من القوم في غنم له ، فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ، قال : فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم . ثم وجد في نفسه شيئا ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا شَقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ ؟ » فقال : ما عسيت أجدُ ! هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء ؟ قال : «فَقَدْ أَخَبَرَكَ بلسَانه فلم تُصَدّقه » ، قال : كيف بي يا رسول الله ؟ قال : «فَكَيْفَ بِلا إلَهَ إلاّ اللّهُ ؟ »قال : فكيف بي يا رسول الله ؟ قال : «فَكَيْف بِلا إلَهَ إلاّ اللّهُ » . حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي . قال : ونزل القرآن : { وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً } . . . حتى بلغ : { إلاّ أنْ يَصّدّقُوا } قال : إلا أن يضعوها .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عرّف عباده بهذه الاَية ما على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية . وجائز أن تكون الاَية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله ، وفي أبي الدرداء وصاحبه . وأيّ ذلك كان فالذي عني الله تعالى بالاَية تعريف عباده ما ذكرنا ، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله ، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه .
وأما الرقبة المؤمنة فإن أهل العلم مختلفون في صفتها ، فقال بعضهم : لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان بعد بلوغها وصلت وصامت ، ولا يستحقّ الطفل هذه الصفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان ، قال : سألت الشعبي عن قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ } قال : قد صلّت وعرفت الإيمان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } يعني بالمؤمنة : من عقل الإيمان وصام وصلى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزي إلا من صام وصلى ، وما كان في القرآن من رقبة ليست مؤمنة ، فالصبيّ يجزيء .
حُدثت عن يزيد بن هارون ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، قال : كل شيء في كتاب الله { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فمن صام وصلى وعقل ، وإذا قال : «فتحرير رقبة » : فما شاء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : كلّ شيء في القرآن { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فالذي قد صلّى ، وما لم تكن «مؤمنة » ، فتحرير من لم يصلّ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } والرقبة المؤمنة عند قتادة : من قد صلى . وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصلّ ولم يبلغ ذلك .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } قال : إذا عقل دينه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال في : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } : لا يجزيء فيها صبيّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَتَحْرِيرْ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ } يعني بالمؤمنة : من قد عقل الإيمان وصام وصلى ، فإن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين ، وعليه دية مسلمة إلى أهله ، إلا أن يصدّقوا بها عليه .
وقال آخرون : إذا كان مولودا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن وإن كان طفلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطا ، قال : كلّ رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزي .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : لا يجزيء في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان من الرجال والنساء إذا كان ممن كان أبواه على ملة من الملل سوى الإسلام وولد يتيما وهو كذلك ، ثم لم يسلما ولا واحد منهما حتى أعتق في كفارة الخطأ . وأما من ولد بين أبوين مسلمين فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حدّ الاختيار والتمييز ولم يدرك الحلم فمحكوم له بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه إن مات ، وما يجب عليه إن جنى ، ويجب له إن جُني عليه ، وفي المناكحة . فإذا كان ذلك من جمعيهم إجماعا ، فواجب أن يكون له من الحكم فيما يجزيء فيه من كفاره الخطأ إن أعتق فيها من حكم أهل الإيمان مثل الذي له من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها . ومن أبي ذلك عكس عليه الأمر فيه ، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس ، فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في غيره مثله .
وأما الدية المسلّمة إلى أهل القتيل فهي المدفوعة إليهم على ما وجب لهم موفرة غير منتقصة حقوق أهلهم منها . وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : هي الموفّرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : { وَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ } قال : موفّرة .
وأما قوله : { إلاّ أنْ يَصّدّقُوا } فإنه يعني به : إلا أن يتصدّقوا بالدية على القاتل أو على القتال أو على عاقلته¹ فأدغمت التاء من قوله «يتصدّقوا » في الصاد فصارتا صادا . وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ : «إلاّ أنْ يَتَصَدّقُوا » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بكر بن الشروط : في حرف أبيّ : { إلاّ أنْ يَتَصَدّقُوا » .
القول في تأويل قوله : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
يعني جلّ ثناؤِ بقوله : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم عدوّ لكم ، يعني : من عداد قوم أعداء لكم في الدين مشركين ، لم يأمنوكم الحرب على خلافكم على الإسلام ، وهو مؤمن { فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ } يقول : فإذا قتل المسلم خطأ رجلاً من عداد المشركين والمقتول مؤمن والقاتل يحسب أنه على كفره ، فعليه تحرير رقبة مؤمنة .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وإن كان المقتول من قوم هم عدوّ لكم وهو مؤمن¹ أي بين أظهركم لم يهاجر ، فقتله مؤمن ، فلا دية عليه وعليه تحرير رقبة مؤمنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة والمغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قال : هو الرجل يسلم في دار الحرب ، فيقتل . قال : ليس فيه دية ، وفيه الكفارة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قال : يعني : المقتول يكون مؤمنا وقومه كفار ، قال : فليس له دية ، ولكن تحرير رقبة مؤمنة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوع مُؤْمِنٌ } قال : يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار ، فلا دية له ، ولكن تحرير رقبة مؤمنة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } في دار الكفر ، يقول : { فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ } وليس له دية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ } ولا دية لأهله من أجل أنهم كفار ، وليس بينهم وبين الله عهد ولا ذمة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن ابن عباس أنه قال في قول الله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . . . إلى آخر الاَية ، قال : كان الرجل يسلم ، ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون ، فيمرّ بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقتل فيمن يقتل ، فيعتق قائله رقبة ولا دية له .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ } قال : هذا إذا كان الرجل المسلم من قوم عدوّ لكم : أي ليس لهم عهد يُقتل خطأ ، فإن على من قتله تحرير رقبة مؤمنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن ، فقتله خطأ ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة ، أو صيام شهرين متتابعين ، ولا دية عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } القتيل مسلم وقومه كفار ، { فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ولا يؤدّي إليهم الدية فيتقوّون بها عليكم .
وقال آخرون : بل عني به الرجل من أهل الحرب يقدم دار الإسلام فيسلم ثم يرجع إلى دار الحرب ، فإذا مرّ بهم الجيش من أهل الإسلام هرب قومه ، وأقام ذلك المسلم منهم فيها ، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فهو المؤمن يكون في العدوّ من المشركين يسمعون بالسرية من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فيفرّون ويثبت المؤمن فيقتل ، ففيه تحرير رقبة مؤمنة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيةٌ مَسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم أيها المؤمنون وبينهم ميثاق : أي عهد وذمة ، وليسوا أهل حرب لكم ، { فِدَيةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } يقول : فعلى قاتله دية مسلّمة إلى أهله يتحملها عاقلته ، وتحرير رقبة مؤمنة كفارة لقتله .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن أو كافر ؟ فقال بعضهم : هو كافر ، إلا أنه لزمت قاتله ديته¹ لأن له ولقومه عهدا ، فواجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين ، وأنها مال من أموالهم ، ولا يحلّ للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب أنفسهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } يقول : إذا كان كافرا في ذمتكم فقتل ، فعلى قاتله الدية مسلّمة إلى أهله ، وتحرير رقبة مؤمنة ، أو صيام شهرين متتابعين .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، قال : سمعت الزهري يقول : دية الذمي دية المسلم . قال : وكان يتأوّل : { وإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن عيسى بن أبي المغيرة ، عن الشعبي في قوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ } قال : من أهل العهد ، وليس بمؤمن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } وليس بمؤمن .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِه وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } بقتله : أي بالذي أصاب من أهل ذمته وعهده¹ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصيامُ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ } . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ } يقول : فأدّوا إليهم الدية بالميثاق . قال : وأهل الذمة يدخلون في هذا ، وتحرير رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين .
وقال آخرون : بل هو مؤمن ، فعلى قاتله دية يؤدّيها إلى قومه من المشركين ، لأنهم أهل ذمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ } قال : هذا الرجل المسلم وقومه مشركون لهم عقد ، فتكون ديته لقومه وميراثه للمسلمين ، ويعقل عنه قومه ولهم ديته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن جابر بن زيد في قوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } قال : وهو مؤمن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنهُمْ مِيثاقٌ } قال : هو كافر .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الاَية قول من قال : عني بذلك المقتول من أهل العهد ، لأن الله أبهم ذلك ، فقال : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ } ولم يقل : «وهو مؤمن » كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب¹ أو عني المؤمن منهم وهو مؤمن . فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصف به القتيلين الماضي ذكرهما قبل ، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك .
فإن ظنّ ظانّ أن في قوله تبارك وتعالى : { فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ } دليلاً على أنه من أهل الإيمان ، لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن ، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء ، لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيد المؤمنين من أهل الإيمان سواء ، فكذلك حكم ديات أحرارهم سواء ، مع أن دياتهم لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك ، فجعلها على النصف من ديات أهل الإيمان أو على الثلث ، لم يكن في ذلك دليل على أن المعنىّ بقوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } من أهل الإيمان ، لأن دية المؤمّنة لا خلاف بين الجميع ، إلا من لا يعدّ خلافا أنها على النصف من دية المؤمن ، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية ، فكذلك حكم ديات أهل الذمة لو كانت مقصرة عن ديات أهل الإيمان لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات ، فكيف والأمر في ذلك بخلافه ودياتهم وديات المؤمنين سواء ؟ .
وأما الميثاق : فإنه العهد والذمة ، وقد بينا في غير هذا الموضع أن ذلك كذلك والأصل الذي منه أخذ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } يقول : عهد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } قال : هو المعاهدة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ } : عهد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، مثله .
فإن قال قائل : وما صفة الخطأ الذي إذا قتل المؤمن المؤمن أو المعاهَد لزمته ديته والكفارة ؟ قيل : هو ما قال النّخَعي في ذلك . وذلك ما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : الخطأ أن يريد الشيء فيصيب غيره .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الخطأ أن يرمي الشيء فيصيب إنسانا وهو لا يريده ، فهو خطأ ، وهو على العاقلة .
فإن قال : فما الدية الواجبة في ذلك ؟ قيل : أما في قتل المؤمن فمائة من الإبل إن كان من أهل الإبل على عاقلة قاتله ، لا خلاف بين الجميع في ذلك ، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلاف بين أهل العلم ، فمنهم من يقول : هي أرباع : خمس وعشرون منها حقه ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنات مخاض ، وخمس وعشرون بنات لبون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عليّ رضي الله عنه : في الخطأ شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة ، وثلاث وثلاثون جذعة ، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها¹ وفي الخطأ : خمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنات مخاض ، وخمس وعشرون بنات لبون .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن فراس والشيباني ، عن الشعبي ، عن عليّ بن أبي طالب ، بمثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن عليّ رضي الله عنه ، بنحوه .
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث بن سواء ، عن الشعبي ، عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : في قتل الخطأ الدية مائة أرباعا ، ثم ذكر مثله .
وقال آخرون : هي أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ، وعشرون بنات مخاض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة عن أبي مجلز ، عن أبي عبيدة عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : في الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ، وعشرون بنات مخاض .
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن عامر ، عن عبد الله بن مسعود : في قتل الخطأ مائة من الإبل أخماسا : خُمس جذاع ، وخُمس حقاق ، وخُمس بنات لبون ، وخُمس بنات مخاض ، وخُمس بنو مخاض .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا سليمان التيمي ، عن أبي مجلز ، عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال : الدية أخماس دية الخطأ : خُمس بنات مخاض ، وخُمس بنات لبون ، وخُمس حقاق ، وخُمس جذاع ، وخُمس بنو مخاض .
واعتلّ قائل هذه المقالة بحديث :
حدثنا به أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة وأبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن زيد بن جبير ، عن الخشف بن مالك ، عن عبد الله بن مسعود : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في الدية في الخطأ أخماسا . قال أبو هشام : قال ابن أبي زائدة : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون ابنة لبون ، وعشرون ابنة مخاض ، وعشرون بني مخاض .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، عن عبد الله أنه قضى بذلك .
وقال آخرون : هي أرباع ، غير أنها ثلاثون حقة ، وثلاثون بنات لبون ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنو لبون ذكور . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثني محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عثمان وزيد بن ثابت قالا : في الخطأ شبه العمد : أربعون جذعة خَلِفة ، وثلاثون حقة ، وثلاثون بنات مخاض¹ وفي الخطأ : ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنو لبون ذكور .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت في دية الخطأ : ثلاثون حقة ، وثلاثون بنات لبون ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرن بنو لبون ذكور .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : وحدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت ، مثله .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على أهل الإبل مائة من الإبل . ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها ، وأجمعوا على أنه لا يقصر بها في الذي وجبت له الأسنان عن أقلّ ما ذكرنا من أسنانها التي حدّها الذين ذكرنا اختلافهم فيها ، وأنه لا يجاوز بها الذي وجبت عن أعلاها . وإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا ، فالواجب أن يكون مجزيا من لزمته دية قتل خطأ : أي هذه الأسنان التي اختلف المختلفون فيها أداها إلى من وجبت له ، لأن الله تعالى لم يحدّ ذلك بحدّ لا يجاوز به ولا يقصر عنه ولا رسوله إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه ، فإنه ليس للإمام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة ، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين ، وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب فإن لورثة القتيل عليهم عندنا ألف دينار ، وعليه علماء الأمصار . وقال بعضهم : ذلك تقويم من عمر رضي الله عنه للإبل على أهل الذهب في عصره ، والواجب أن يقوّم في كلّ زمان قيمتها إذا عدم الإبل عاقلة القاتل . واعتلّوا بما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أيوب بن موسى ، عن مكحول ، قال : كانت الدية ترتفع وتنخفض ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثمانمائة دينار ، فخشي عمر من بعده ، فجعلها اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار .
وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبا ألف دينار ، فقالوا : ذلك فريضة فرضها الله على لسان رسوله ، كما فرض الإبل على أهل الإبل . قالوا : وفي إجماع علماء الأمصار في كل عصر وزمان إلا من شذّ عنهم ، على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا تنقص عنها ، أوضح الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب وجوب الإبل على أهل الإبل ، لأنها لو كانت قيمة لمائة من الإبل لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الإبل . وهذا القول هو الحقّ في ذلك لما ذكرنا من إجماع الحجة عليه .
وأما من الوَرِق على أهل الورِق عندنا ، فاثنا عشر ألف درهم ، وقد بينا العلل في ذلك في كتابنا «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام » .
وقال آخرون : إنما على أهل الورِق من الورِق عشرة آلاف درهم .
وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاق ، فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها ، فقال بعضهم : ديته ودية الحرّ المسلم سواء . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السريّ ، عن إبراهيم بن سعد ، عن الزهريّ : أن أبا بكر وعثمان رضوان الله عليهما كانا يجعلان دية اليهودي والنصراني إذا كانا معاهدين كدية المسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السريّ ، عن الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن الحكم بن عيينة : أن ابن مسعود كان يجعل دية أهل الكتاب إذا كانوا أهل ذمة كدية المسلمين .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، قال : سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب ، فأخبرته أن إبراهيم قال : إن ديتهم وديتنا سواء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن إبراهيم وداود عن الشعبيّ أنهما قالا : دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحرّ المسلم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : دية اليهودي والنصراني والمجوسي كدية المسلم إذا كانت له ذمة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء أنهما قالا : دية المعاهَد دية المسلم .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قا : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا المسعودي ، عن حماد ، عن إبراهيم ، أنه قال : دية المسلم والمعاهد سواء .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، قال : سمعت الزهري يقول : دية الذمي دية المسلم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن عامر قال : دية الذمي مثل دية المسلم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم مثله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم مثله .
ثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر ، وبلغه أن الحسن كان يقول : دية المجوسي ثمانمائة ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، فقال : ديتهم واحدة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الشعبي ، قال : دية المعاهد والمسلم في كفارتهما سواء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : دية المعاهد والمسلم سواء .
وقال آخرون : بل ديته على النصف من دية المسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عمرو بن شعيب في دية اليهودي والنصراني قال : جعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف دية المسلم ، ودية المجوسي ثمانمائة . فقلت لعمرو بن شعيب : إن الحسن يقول : أربعة آلاف ، قال : لعله كان ذلك قبل ، وقال : إنما جعل دية المجوسي بمنزلة العبد .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن أبي الزناد ، عن عمر بن عبد العزيز قال : دية المعاهد على النصف من دية المسلم .
وقال آخرون : بل ديته على الثلث من دية المسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن أبي عثمان قال : كان قاضيا لأهل مرو قال : جعل عمر رضي الله عنه دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف .
حدثنا عمار بن خالد الواسطي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن الأعمش ، عن ثابت ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر : دية النصراني أربعة آلاف ، والمجوسي ثمانمائة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن ثابت ، قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : قال عمر : دية أهل الكتاب أربعة آلاف ، ودية المجوسي ثمانمائة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ثابت ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ، فذكر مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي المليح : أن رجلاً من قومه رمى يهوديا أو نصرانيا بسهم فقتله ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأغرمه ديته أربعة آلاف .
وبه عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر : دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، أربعة آلاف .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا بعض أصحابنا ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر مثله .
قال : حدثنا هشيم ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن عمر مثله .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، أنه قال : دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، والمجوسي ثمانمائة .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ } الصيام لمن لا يجد رقبة ، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وكانَ اللّهُ عَلِيما حكِيما } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَابِعَيْنِ } فمن لم يجد رقبة مؤمنة يحرّرها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد لعسرته بثمنها ، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } يقول : فعليه صيام شهرين متتابعين .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم فيه بنحو ما قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ } قال : من لم يجد عتقا أو عتاقة ، شكّ أبو عاصم في قتل مؤمن خطأ ، قال : وأنزلت في عياش بن أي ربيعة قتل مؤمنا خطأ .
وقال آخرون : صوم الشهرين عن الدية والرقبة قالوا : وتأويل الاَية : فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن الشعبي ، عن مسروق : أنه سئل عن الاَية التي في سورة النساء : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ مُتَابِعَيْنِ } صيام الشهرين عن الرقبة وحدها ، أو عن الدية والرقبة ؟ فقال : من لم يجد فهو عن الدية والرقبة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر ، عن مسروق بنحوه .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن الصوم عن الرقبة دون الدية ، لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل ، والكفارة على القاتل بإجماع الحجة على ذلك ، نقلاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، فلا يقضي صوم صائم عما لزم غيره في ماله . والمتابعة صوم الشهرين ، ولا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير علة حائلة بينه وبين صومه . ثم قال جلّ ثناؤه : { تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } يعني : تجاوزا من الله لكم إلى التيسير عليه بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين . { وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } يقول : ولم يزل الله عليما بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه وغير ذلك ، حكيما بما يقضي فيهم ويريد .
{ وما كان لمؤمن } وما صح له وليس من شأنه . { أن يقتل مؤمنا } بغير حق . { إلا خطأ } فإنه على عرضته ، ونصبه على الحال أو المفعول له أي : لا يقتله في شيء من الأحوال إلا حال الخطأ ، أو لا يقتله لعلة إلا للخطأ أو على أنه صفة مصدر محذوف أي قتلا خطأ . وقيل { ما كان } نفي في معنى النهي ، والاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر ، والخطأ ما لا يضامه القصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا ، أو لا يقصد به محظور ، كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه ، أو يكون فعل غير المكلف ، وقرئ { خطاء } بالمد و{ خطا } كعصا بتخفيف الهمزة ، والآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأم ، لقي حارث بن زيد في طريق وكان قد أسلم ولم يشعر به عياش فقتله .
{ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة } أي فعليه أو فواجبه تحرير رقبة ، والتحرير الإعتاق ، والحر كالعتيق للكريم من الشيء ومنه حر الوجه لأكرم موضع منه ، سمي به لأن الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد ، والرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس . { مؤمنة } محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة . { ودية مسلمة إلى أهله } مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث ، لقول ضحاك بن سفيان الكلابي : ( كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها ) . وهي على العاقلة فإن لم تكن فعلى بيت المال ، فإن لم يكن ففي ماله . { إلا أن يصدقوا } إلا أن يتصدقوا عليه بالدية . سمي العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " كل معروف صدقة " وهو متعلق بعليه ، أو بمسلمة أي تجب الدية عليه أو يسلمها إلى أهله إلا حال تصدقهم عليه . أو زمانه فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف . { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } أي فإن كان المؤمن المقتول من قوم كفار محاربين ، أو في تضاعيفهم ولم يعلم إيمانه فعلى قاتله الكفارة دون الدية لأهله إذ لا وراثة بينه وبينهم ولأنهم محاربون .
{ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } أي وإن كان من قوم كفرة معاهدين ، أو أهل الذمة فحكمه حكم المسلمين في وجوب الكفارة والدية ولعله فيما إذا كان المقتول معاهدا ، أو كان له وارث مسلم . { فمن لم يجد } رقبة بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها . { فصيام شهرين متتابعين } فعليه أو فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين . { توبة } نصب على المفعول له أي شرع ذلك توبة ، من تاب الله عليه إذا قبل توبته . أو على المصدر أي وتاب الله عليكم توبة أو الحال بحذف مضاف أي فعليه صيام شهرين ذا توبة . { من الله } صفتها . { وكان الله عليما } بحاله . { حكيما } فيما أمر في شأنه .
قال جمهور المفسرين : معنى هذه الآية : وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه ، ثم استثنى منقطعاً ليس من الأول ، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن ، والتقدير لكن الخطأ قد يقع .
وهذا كقول الشاعر [ الهذلي ] : [ البسيط ]
أَمْسى سَقَامُ خَلاءً لاَ أَنيسَ بِهِ *** إلاّ السِّباعُ وإلاَّ الرّيحُ بِالغُرَفِ{[4188]}
قال القاضي أبو محمد : سقام اسم واد ، والغرف شجر يدبغ بلحائه ، وكما قال جرير : [ الطويل ]
مِنَ البِيضِ لَمْ تَطُغَنْ بَعيداً وَلَمْ تَطَأْ . . . على الأرْضِ إلاّ ريطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ{[4189]}
وفي هذا الشاهد نظر ، ويتجه في معنى الآية وجه آخر ، وهو أن تقدر { كان } بمعنى استقر ووجد ، كأنه قال ، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ { لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً } ، إذ هو مغلوب فيه أحياناً ، فيجيء يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً ، إعظاماً العمد وبشاعة شأنه ، كما تقول : ما كان لك مقصوراً غير مهموز{[4190]} ، وقرأ الحسن والأعمش مهموزاً ممدوداً{[4191]} ، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة{[4192]} ، وذلك أنه كان يعذبه بمكة ، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجراً فلقيه عياش بالحرة ، فظنه على كفره فقتله ، ثم جاء فأخبر النبي عليه السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قم فحرر »{[4193]} .
وقال أبو زيد : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنماً وهو يتشهد فقتله وساق غنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الآية{[4194]} .
وقيل : نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد ، وقيل غير هذا ، والله أعلم وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً } الآية ، بيّن الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ ، وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل ، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى ، يربطها عدم القصد ، قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : «الرقبة المؤمنة » هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان ، ولا يجزىء في ذلك الصغير ، وقال عطاء بن أبي رباح : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين ، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس : يجزىء كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه ، قال مالك : ومن صلى وصام أحب إليّ ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان النقصان يسيراً تتفق له معه المعيشة والتحرف ، كالعرج ونحوه ففيه قولان ، و { مسلمة } معناه مؤادة مدفوعة ، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية ، و { إلا أن يصدقوا } يريد أولياء القتيل ، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا » وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا » بالتاء على المخاطبة للحاضر ، وقرأ نبيح العنزي{[4195]} «تصدقوا » بالتاء وتخفيف الصاد ، و«الدية » مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم ، وعند آخرين على الناس كلهم ، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة ، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة ، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت ، واختلف في المائة من الإبل ، فقال علي بن أبي طالب : هي مربعة ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون{[4196]} ، وقال عبد الله بن مسعود : مخمسة ، عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ذكراً ، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب ، وعمر بن الخطاب وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة . ومن الغنم ألفي شاة ، ومن الحلل مائة حلة ، وورد بذلك حديث عن النبي عليه السلام في مصنف أبي داود{[4197]} ، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب ، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل ، فمضى القول على ذلك ، وأما الذهب فهي ألف دينار ، قررها عمر ومشى الناس عليها ، وأما الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفاً ، وبه قال مالك ، وجماعة تقول : عشرة آلاف درهم . وقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } الآية . المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم وعكرمة وغيرهم ، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً ، قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم ، فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير الرقبة ، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهاجر ، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية ، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين ، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها ، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية فيه ، واحتجوا بقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا }{[4198]} وقالت فرقة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه ، كفارته التحرير ولا دية فيه ، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقائل المقالة الأولى يقول : إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة ، وقوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، فكفارته التحرير وأداء الدية ، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن » وقال ابن عباس والشعبي وإبراهيم أيضاً .
المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالى كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير ، واختلف على هذا في دية المعاهد ، فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقال مالك وأصحابه : ديته على نصف دية المسلم ، وقال الشافعي وأبو ثور : ديته على ثلث دية المسلم ، وقوله تعالى : { فمن لم يجد } الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين » متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر{[4199]} ، وقال مكي عن الشعبي : «صيام الشهرين » يجزىء عن الدية والعتق لمن لم يجدها ، وهذا القول وهم{[4200]} ، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل ، والطبري حكى القول عن مسروق ، و { توبة } نصب على المصدر معناه رجوعاً بكم إلى التيسير والتسهيل .