{ 22 - 23 ْ } { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ }
لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء ، واليسر بعد العسر ، ذكر حالة ، تؤيد ذلك ، وهي حالهم في البحر عند اشتداده ، والخوف من عواقبه ، فقال : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ْ } بما يسر لكم من الأسباب المسيرة{[395]} لكم فيها ، وهداكم إليها .
{ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ْ } أي : السفن البحرية { وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ْ } موافقة لما يهوونه ، من غير انزعاج ولا مشقة .
{ وَفَرِحُوا بِهَا ْ } واطمأنوا إليها ، فبينما هم كذلك ، إذ { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ْ } شديدة الهبوب { وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ْ } أي : عرفوا أنه الهلاك ، فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين ، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده ، فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام ، فقالوا : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ْ }
ثم ذلك المشهد الحي ، الذي يعرض كأنه يقع ، وتشهده العيون ، وتتابعه المشاعر ، وتخفق معه القلوب . يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون :
( هو الذي يسيركم في البر والبحر ) . .
ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك .
ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب :
وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء . .
وفي هذا الرخاء الآمن ، وفي هذا السرور الشامل ، تقع المفاجأة ، فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين :
( وجاءهم الموج من كل مكان ) . .
وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها ، ولاطمها الموج وشالها وحطها ، ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم . . وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص :
عندئذ فقط ، وفي وسط هذا الهول المتلاطم ، تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب ، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات ، وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه :
( دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) !
ثم أخبر تعالى أنه : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : يحفظكم{[14150]} ويكلؤكم بحراسته { حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا } أي : بسرعة سيرهم رافقين ، فبينما{[14151]} هم كذلك إذ { جَاءَتْهَا } أي : تلك السفن { رِيحٌ عَاصِفٌ } أي : شديدة { وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : اغتلم البحر عليهم { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي : هلكوا { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : لا يدعون معه صنما ولا وثنا ، بل يفردونه بالدعاء والابتهال ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } [ الإسراء : 67 ] ، وقال هاهنا : { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ } أي : هذه الحال { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : لا نشرك بك أحدا ، ولنفردنك{[14152]} بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي يُسَيّرُكُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتّىَ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هََذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : الله الذي يسيركم أيها الناس في البرّ على الظهر وفي البحر في الفلك حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْك وهي السفن ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ يعني : وجرت الفلك بالناس ، بِرِيحٍ طَيّبَةٍ في البحر ، وَفَرِحُوا بِها يعني : وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها . والهاء في قوله : «بها » عائدة على الريح الطيبة . جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ يقول : جاءت الفلك ريح عاصف ، وهي الشديدة ، والعرب تقول : ريح عاصف وعاصفة ، وقد أعصفت الريح وعصفت وأعصفت في بني أسد فيما ذكر ، قال بعض بني دُبَيْر :
حتى إذا أعْصَفَتْ رَيْحٌ مُزَعْزِعةٌ *** فِيها قِطارٌ ورَعْدٌ صَوْتُهُ زَجِلُ
وَجاءَهُمْ المَوْجُ مِنْ كُلّ مَكانٍ يقول تعالى ذكره : وجاء ركبان السفينة الموج من كلّ مكان . وَظَنّوا أنّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ يقول : وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق . دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ يقول : أخلصوا الدعاء لله هنالك دون أوثانهم وآلهتهم ، وكان مفزعهم حينئذ إلى الله دونها . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : دَعَوُا اللّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ قال : إذا مسّهم الضرّ في البحر أخلصوا له الدعاء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، في قوله : مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ هياشراهيا ، تفسيره : يا حيّ يا قوم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذَا أذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنَ ضَرّاءَ مَسّتْهُمْ . . . إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا كان الضرّ لم يدعو إلا الله ، فإذا نجاهم إذا هم يشركون لئن أنجيتنا من هذه الشدّة التي نحن فيها لنكوننّ من الشاكرين لك على نعمك وتخليصك إيانا مما نحن فيه بإخلاصنا العبادة لك وإفراد الطاعة دون الاَلهة والأنداد .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : هُوَ الّذِي يُسَيّرُكُمْ فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق : هُوَ الّذُي يُسَيّرُكُمْ من السير بالسين . وقرأ ذلك أبو جعفر القاري : «هُو الّذِي يَنْشُرُكُمْ » من النشر ، وذلك البسط من قول القائل : نشرت الثوب ، وذلك بسطه ونشره من طيه . فوجه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عبادهُ ، فيبسطهم برّا وبحرا ، وهو قريب المعنى من التسيير . وقال : وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وقال في موضع آخر : في الفُلْكِ المَشُحُونِ فوحّد ، والفلك : اسم للواحدة والجماع ويذكر ويؤنث . قال : وَجَرَيْنَ بِهِمْ وقد قال : هُوَ الّذِي يُسَيّرُكُمْ فخاطب ثم عاد إلى الخبر عن الغائب وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وجواب قوله : حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ : وجاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ . وأما جواب قوله : وَظَنّوا أنّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ فدَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ .