ثم قال تعالى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، و[ ذلك ] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين ، أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم ، فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي : رؤسائهم وكبرائهم في الشر - قالوا : إنا معكم في الحقيقة ، وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم ، أنا على طريقتهم ، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .
ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين . . إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، والسفه والادعاء ، إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام :
( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزؤون ) . .
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة ، والمكر السيىء براعة . وهو في حقيقته ضعف وخسة . فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا ، ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا . وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة ، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين ، ليتقوا الأذى ، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى . . هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته ، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا . . هؤلاء المنافقون كانوا ( إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون )- أي بالمؤمنين - بما نظهره من الإيمان والتصديق !
يقول الله{[1279]} تعالى : وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا : { آمَنَّا } أي : أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة ، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية ، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم ، { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } يعني : وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا{[1280]} إلى شياطينهم . فضمن { خَلَوْا } معنى انصرفوا ؛ لتعديته بإلى ، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ{[1281]} به . ومنهم من قال : " إلى " هنا بمعنى " مع " ، والأول أحسن ، وعليه يدور كلام ابن جرير .
وقال السدي عن أبي مالك : { خَلَوْا } يعني : مضوا ، و{ شَيَاطِينِهِمْ } يعني : سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين .
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة عن ابن مسعود ، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } يعني : هم رؤوسهم من الكفر .
وقال الضحاك عن ابن عباس : وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن
عباس : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول .
وقال مجاهد : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين .
وقال قتادة : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } قال : إلى رؤوسهم ، وقادتهم في الشرك ، والشر .
وبنحو ذلك فسَّره أبو مالك ، وأبو العالية والسدي ، والرّبيع بن أنس .
قال ابن جرير : وشياطين كل شيء مَرَدَتُه ، وتكون الشياطين من الإنس والجن ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [ الأنعام : 112 ] .
وفي المسند عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن » . فقلت : يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال : «نعم »{[1282]} .
وقوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }
قال أبو جعفر : وهذه الآية نظير الآية الأخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين ، فقال : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله : وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا . وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله بألسنتهم : آمنا وصدّقنا بمحمدٍ وبما جاء به من عند الله ، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ودرءا لهم عنها ، وأنهم إذا خلوا إلى مَرَدَتِهم وأهل العتوّ والشرّ والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته قالوا لهم : إنّا مَعَكُمْ أي إنا معكم على دينكم ، وظهراؤكم على من خالفكم فيه ، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما نحن مستهزئون بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه . كالذي :
حدثنا محمد بن العلاء : قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال حدثنا بشر بن عمار عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ، قالوا : إنا على دينكم ، وإذا خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم قالُوا إنّا مَعَكُمْ إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَإذَا لَقُوا اللّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قال : إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب ، وخلاف ما جاء به الرسول قالُوا إنّا مَعَكُمْ أي إنا على مثل ما أنتم عليه إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ أما شياطينهم ، فهم رءوسهم في الكفر .
حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ أي رؤسائهم وقادتهم في الشرّ ، قالُوا إنما نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَإذَا خَلَوْا إلى شياطينِهِمْ قال : المشركون .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قال : إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل بن عباد ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قال أصحابهم : من المنافقين والمشركين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطِينهمْ قال إخوانهم من المشركين ، قالُوا إنا مَعَكُم إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزُءُونَ .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : وَإذَا لَقُوا الذِينَ آمَنوا قالُوا آمَنا قال : إذا أصاب المؤمنين رخاء ، قالوا : إنا نحن معكم إنما نحن إخوانكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين .
فإن قال لنا قائل : أرأيت قوله : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطينهم فكيف قيل «خلوا إلى شياطينهم » ولم يقل «خلوا بشياطينهم » ؟ فقد علمت أن الجاري بين الناس في كلامهم «خلوت بفلان » أكثر وأفشى من «خلوت إلى فلان » ، ومن قولك : إن القرآن أفصح البيان قيل : قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : يقال خلوت إلى فلان ، إذا أريد به : خلوت إليه في حاجة خاصة لا يحتمل إذا قيل كذلك إلا الخلاء إليه في قضاء الحاجة . فأما إذا قيل : خلوت به احتمل معنيين : أحدهما الخلاء به في الحاجة ، والاَخر : في السخرية به ، فعلى هذا القول وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطينهمْ لا شك أفصح منه لو قيل : «وإذا خلوا بشياطينهم » لما في قول القائل : «إذا خلوا بشياطينهم » من التباس المعنى على سامعيه الذي هو منتف عن قوله : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطينهمْ فهذا أحد الأقوال . والقول الاَخر أن تُوَجّه معنى قوله : وَإذَا خَلَوْا إلى شَياطينهم أي إذا خلوا مع شياطينهم ، إذ كانت حروف الصفات يعاقب بعضها بعضا كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ يريد مع الله ، وكما توضع «على » في موضع «من » و«في » و«عن » و«الباء » ، كما قال الشاعر :
إذَا رَضِيَتْ عَليّ بَنُو قُشَيْرٍ *** لَعَمْرُ اللّهِ أعْجَبَنِي رِضَاها
وأما بعض نحويي أهل الكوفة فإنه كان يتأوّل أن ذلك بمعنى : وَإذَا لَقُوا الذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنا وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم فيزعم أن الجالب «إلى » المعنى الذي دل عليه الكلام : من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله «خلوا » . وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع «إلى » غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها .
وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره ، فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها . ول«إلى » في كل موضع دخلت من الكلام حكم وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّمَا نَحْنُ مُسْتهْزِءُونَ .
أجمع أهل التأويل جميعا لا خلاف بينهم ، على أن معنى قوله : إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ : إنما نحن ساخرون . فمعنى الكلام إذا : وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مردتهم من المنافقين والمشركين قالوا : إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ومعاداته ومعاداة أتباعه ، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في قيلنا لهم إذا لقيناهم آمَنّا باللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ . كما :
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ : أي إنما نحن نستهزىء بالقوم ونلعب بهم .
حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ : إنما نستهزىء بهؤلاء القوم ونسخر بهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ أي نستهزىء بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .