وليس إقسامهم المذكور ، لقصد حسن ، وطلب للحق ، وإلا لوفقوا له ، ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق ، وعلى الحق ، وبهرجة في كلامهم هذا ، يريدون به المكر والخداع ، وأنهم أهل الحق ، الحريصون على طلبه ، فيغتر به المغترون ، ويمشي خلفهم المقتدون .
{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ } الذي مقصوده مقصود سيئ ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل { إِلَّا بِأَهْلِهِ } فمكرهم إنما يعود عليهم ، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات ، أنهم كذبة في ذلك مزورون ، فاستبان خزيهم ، وظهرت فضيحتهم ، وتبين قصدهم السيئ ، فعاد مكرهم في نحورهم ، ورد اللّه كيدهم في صدورهم .
فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب ، الذي هو سنة اللّه في الأولين ، التي لا تبدل ولا تغير ، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد ، أن يحل به نقمته ، وتسلب عنه نعمته ، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء ، ما فعل بأولئك .
استكباراً في الأرض ومكر السيىء ! . .
وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم : استكباراً في الأرض ومكر السيىء . والقرآن يكشفهم هذا الكشف ، ويسجل عليهم هذا المسلك . ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم ، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري :
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله . .
فما يصيب مكرهم السيى ء أحداً إلا أنفسهم ؛ وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم .
وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن ? إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وهو معروف لهم . وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد :
( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً ) . .
ثم بين ذلك بقوله : { اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ } أي : استكبروا عن اتباع آيات الله ، { وَمَكْرَ السَّيِّئِ } أي : ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله ، { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } [ أي : وما يعود وبال ذلك إلا عليهم{[24633]} أنفسهم دون غيرهم .
قال{[24634]} ابن أبي حاتم : ذكر علي بن الحسين ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياك ومكر السيئ ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ]{[24635]} ، ولهم من الله طالب " ، {[24636]} ، وقد قال محمد بن كعب القُرَظِي : ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به من مكر أو بغي أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } . { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ يونس : 23 ] ، { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [ الفتح : 10 ] .
وقوله : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ } يعني : عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره{[24637]} ، { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } أي{[24638]} لا تغير ولا تبدل ، بل هي جارية كذلك في كل مكذب ، { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا } أي : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ } [ الرعد : 11 ] ، ولا يكشف ذلك عنهم ، ويحوله عنهم أحد .
وقوله : اسْتِكْبارا في الأرْضِ يقول : نفروا استكبارا في الأرض ، وخِدْعة سيئة ، وذلك أنهم صدّوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به . والمكر هاهنا : هو الشرك ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَمَكْرَ السّيّىءِ وهو الشرك .
وأضيف المكر إلى السيىء ، والسيىء من نعت المكر ، كما قيل : إن هذا لهو حقّ اليقين . وقيل : إن ذلك في قراءة عبد الله : «وَمَكْرا سَيّئا » ، وفي ذلك تحقيق القول الذي قلناه من أن السيىء في المعنى من نعت المكر . وقرأ ذلك قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة بهمزة محركة بالخفض . وقرأ ذلك الأعمش وحمزة بهمزة وتسكين الهمزة اعتلالاً منهما بأن الحركات لما كثرت في ذلك ثقل ، فسكنا الهمزة ، كما قال الشاعر :
*** إذا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوّمِ ***
والصواب من القراءة ما عليه قرّاء الأمصار من تحريك الهمزة فيه إلى الخفض ، وغير جائز في القرآن أن يقرأ بكل ما جاز في العربية ، لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة الماضية ، وجاء به السلف على النحو الذي أخذوا عمن قبلهم .
وقوله : وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السّيّىءُ إلاّ بأهْلِهِ يقول : ولا ينزل المكر السيىء إلاّ بأهله ، يعني بالذين يمكرونه وإنما عَنَى أنه لا يحل مكروه ذلك المكر الذي مكره هؤلاء المشركون إلاّ بهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السّيّىءُ إلاّ بأهْلِهِ وهو الشرك .
وقوله : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ سُنّةَ الأوّلِينَ يقول تعالى ذكره : فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلاّ سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم به أليمَ العقاب . يقول : فهل ينتظر هؤلاء إلاّ أن أُحلّ بهم من نقمتي على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ سُنّتَ الأوّلِينَ : أي عقوبة الأوّلين .
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً يقول : فلن تجد يا محمد لسنة الله تغييرا .
وقوله : وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً يقول : ولن تجد لسنّة الله في خلقه تبديلاً يقول : لن يغير ذلك ، ولا يبدّله ، لأنه لا مردّ لقضائه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.