وأما جزاؤهم ، فقال : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ } يدخل فيه جميع نفوس الخلق ، لكونها نكرة في سياق النفي . أي : فلا يعلم أحد { مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } من الخير الكثير ، والنعيم الغزير ، والفرح والسرور ، واللذة والحبور ، كما قال تعالى على لسان رسوله : " أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر "
فكما صلوا في الليل ، ودعوا ، وأخفوا العمل ، جازاهم من جنس عملهم ، فأخفى أجرهم ، ولهذا قال : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيفة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد . الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة ، والإعزاز الذاتي ، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس :
( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) . .
تعبير عجيب يشي بحفاوة الله - سبحانه - بالقوم ؛ وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون . هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه . والذي يظل عنده خاصة مستورا حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه ! عند لقياه ! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله .
يا لله ! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه ! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله ! ومن هم - كائنا ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم - حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء ، في عناية ورعاية وود واحتفال ? لولا أنه فضل الله الكريم المنان ? !
وقوله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم ، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد ، لَمَّا أخفوا أعمالهم{[23105]} أخفى الله لهم من الثواب ، جزاء وفاقا ؛فإن الجزاء من جنس العمل .
قال الحسن [ البصري ] :{[23106]} أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين ، ولم يخطر{[23107]} على قلب بشر . رواه ابن أبي حاتم .
قال البخاري : قوله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } الآية : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " . قال أبو هريرة : فاقرؤوا إن شئتم : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } .
قال : وحدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال الله مثله{[23108]} . قيل لسفيان : روايةً ؟ قال : فَأيُّ شيء ؟ .
ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة ، به{[23109]} . وقال الترمذي : حسن صحيح .
ثم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، حدثنا{[23110]} أبو صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ذُخْرًا منْ بَله ما أطلعْتم عليه " ، ثم قرأ : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
قال أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، قرأ أبو هريرة : " قُرَّات أَعْيُنٍ " . انفرد به البخاري من هذا الوجه . {[23111]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .
أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق{[23112]} . ورواه الترمذي في التفسير ، وابن جرير ، من حديث عبد الرحيم بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . {[23113]}
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة{[23114]} ، رضي الله عنه ، قال حماد : أحسبه عن النبي{[23115]} صلى الله عليه وسلم قال : «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » .
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ، به . {[23116]}
وروى{[23117]} الإمام أحمد : حدثنا هارون ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر ، أن أبا حازم حدَّثه قال : سمعت{[23118]} سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، يقول : شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وصف فيه الجنة ، حتى انتهى ، ثم قال في آخر حديثه : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » ، ثم قرأ هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ] } {[23119]} ، إلى قوله : { يَعْمَلُون } .
وأخرجه مسلم في صحيحه عن هارون بن معروف ، وهارون بن سعيد ، كلاهما عن ابن وهب ، به . {[23120]}
وقال ابن جرير : حدثني العباس بن أبي طالب ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا سلام بن أبي مطيع ، عن قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يروي عن ربه ، عز وجل ، قال : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » . لم يخرجوه . {[23121]}
وقال{[23122]} مسلم أيضا في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر وغيره ، حدثنا سفيان ، حدثنا مُطَرّف بن طَريف وعبد الملك بن سعيد ، سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال : سمعته على المنبر - يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال : «سأل موسى ، عليه السلام{[23123]} ربه عز وجل : ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة . فيقول : أي رب ، كيف وقد نزل الناس منازلهم ، وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلِكٍ من ملوك الدنيا ؟ فيقول : رضيت رب . فيقول : لك ذلك ، ومثله ، ومثله ، ومثله ، ومثله ، فَقَال في الخامسة : رضيت رب . فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله{[23124]} ولك ما اشتهت نفسك ولَذَّت عينك . فيقول : رضيت رب . قال : رب ، فأعلاهم منزلة ؟ قال : أولئك الذين أرَدتُ ، غَرَسْتُ كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلم تر عين ، ولم تسمع{[23125]} أذن ، ولم يخطر على قلب بشر » ، قال : ومصداقه من كتاب الله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، وقال : حسن صحيح ، قال : ورواه بعضهم عن الشعبي ، عن المغيرة ولم يرفعه ، والمرفوع أصح . {[23126]}
قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير المدائني ، حدثنا أبو بدر شجاعُ بن الوليد ، حدثنا زياد بن خَيْثَمة ، عن محمد بن جُحَادة ، عن عامر{[23127]} بن عبد الواحد قال : بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكانه سبعين سنة ، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه ، فتقول له : قد أنَى لك أن يكون لنا منك نصيب ؟ فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا من المزيد . فيمكث معها سبعين سنة ، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه ، فتقول له : قد أنى لك أن يكون لنا منك نصيب ، فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا التي{[23128]} قال الله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } .
وقال ابن لَهِيعَة : حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : تدخل عليهم الملائكة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات ، معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم ، وذلك قوله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، ويُخْبَرون أن الله عنهم{[23129]} راض .
وقال ابن جرير : حدثنا سهل بن موسى الرازي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن أبي اليمان الهوزني - أو غيره - قال : الجنة مائة درجة ، أوَّلها درجة فضة وأرضها فضة ، ومساكنها فضة ، [ وآنيتها فضة ]{[23130]} وترابها المسك . والثانية ذهب ، وأرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها المسك . والثالثة لؤلؤ ، وأرضها لؤلؤ ، ومساكنها اللؤلؤ ، وآنيتها اللؤلؤ ، وترابها المسك . وسبع وتسعون بعد ذلك ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ثم تلا هذه الآية : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } {[23131]}
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن الغِطْرِيف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس{[23132]} عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الروح الأمين قال : " يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ، ينقص بعضها من بعض ، فإن بقيت حسنة [ واحدة ] {[23133]} وسع الله له في الجنة " ، قال : فدخلت على " يزداد " فَحَدَّث بمثل هذا الحديث ، قال : فقلت : فأين ذهبت الحسنة ؟ قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ الأحقاف : 16 ] . قلت : قوله تعالى : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، قال : العبد يعمل سرًّا أسرَّه إلى الله ، لم² يُعلم به الناس ، فأسَرَّ الله له يوم القيامة قُرَّة أعين{[23134]} .