تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} (31)

فلما قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به ؛ لأنه أول ميت مات من بني آدم { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ } أي : يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا . { لِيُرِيَهُ } بذلك { كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ } أي : بدنه ، لأن بدن الميت يكون عورة { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } وهكذا عاقبة المعاصي الندامة والخسارة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} (31)

27

ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية . صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن ، فهو سوأة لا تطيقها النفوس .

وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه - وهو الباطش القاتل الفاتك - عن أن يواري سوأة أخيه . عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير :

( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال : يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ؟ فأصبح من النادمين ) . .

وتقول بعض الروايات : إن الغراب قتل غرابا آخر ، أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب ، فجعل يحفر في الأرض ، ثم واراه وأهال عليه التراب . . فقال القاتل قولته . وفعل مثلما رأى الغراب يفعل . .

وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتا يدفن - وإلا لفعل - وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم . أو لأن هذا القاتل كان حدثا ولم ير من يدفن ميتا . . والاحتمالان قائمان . وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة - وإلا لقبل الله توبته - وإنما كان الندم الناشى ء من عدم جدوى فعلته ، وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق .

كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب ، قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس . وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله . . وهذه كتلك سواء . . فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي . . هذا من قدرته ، وهذا من قدرته على السواء . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} (31)

وقوله تعالى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة : لما مات الغلام تركه بالعَرَاء ، ولا يعلم كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثى عليه . فلما رآه قال : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي } .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فبَحَث عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي }

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة ، حتى بعث الله الغُرابين ، فرآهما يبحثان ، فقال : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } فدفن أخاه .

وقال لَيْثُ بن أبي سليم ، عن مجاهد : وكان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتًا ، لا يدري ما يصنع به يحمله ، ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب ، فقال : { يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .

وقال عطية العوفي : لما قتله ندم . فضمه إليه حتى أروح ، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله . رواه ابن جرير .

وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : لما قتله سُقِط في يديه ، ولم يدر كيف يواريه . وذلك أنه كان ، فيما يزعمون ، أول قتيل في{[9669]} بني آدم وأول ميت { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال : وزعم{[9670]} أهل التوراة أن قينًا لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله ، عز وجل : يا قين ، أين أخوك هابيل ؟ قال : قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيبًا . فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، والآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت{[9671]} دم أخيك من يدك ، فإن أنت عملت في الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض .

وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران .

فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة ، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه ، كما هو ظاهر القرآن ، وكما نطق به الحديث في قوله : " إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل " . وهذا ظاهر جَليّ ، ولكن قال ابن جرير :

حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا سَهْل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن - هو البصري - قال : كان الرجلان اللذان في القرآن ، اللذان قال الله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات . وهذا غريب جدًا ، وفي إسناده نظر .

وقد قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ابني آدم ، عليه السلام ، ضُربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما{[9672]} {[9673]}

ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر " .

وكذا أرسل هذا الحديث بكر بن عبد الله المزني ، روى ذلك كله ابن جرير . {[9674]}

وقال سالم بن أبي الجَعْد : لما قتل ابن آدم أخاه ، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك ، ثم أتي فقيل له : حياك الله وبيّاك . أي : أضحكك .

رواه ابن جرير ، ثم قال : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا سلمة ، عن غِياث{[9675]} بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمْداني قال : قال علي بن أبي طالب : لما قتل ابن آدم أخاه ، بكاه آدم فقال :

تَغيَّرت البلاد ومَنْ عَلَيها *** فَلَوْنُ الأرض مُغْبر قَبيح

تغيَّر كل ذي لون وطعم *** وقلَّ بَشَاشَة الوجْه المليح

فأجيب آدم عليه السلام :

أبَا هَابيل قَدْ قُتلا جَميعًا *** وصار الحي كالميْت{[9676]} الذبيح

وجَاء بشرةٍ قد كان مِنْها{[9677]} *** عَلى خَوف فجاء بها يَصيح{[9678]}

والظاهر أن قابيل عُوجل بالعقوبة ، كما ذكره مجاهد{[9679]} بن جَبْر أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله ، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به . وقد ورد في الحديث عن{[9680]} النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[9681]} قال : " ما من ذنب أجدر أن يُعَجَّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه في الآخرة ، من البَغْي وقطيعة الرحم " . {[9682]} وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .


[9669]:في أ: "من".
[9670]:في ر، أ: "ويزعم".
[9671]:في ر: "فتلقت".
[9672]:في أ: "منها".
[9673]:تفسير عبد الرزاق (1/183) وتفسير الطبري (10/320).
[9674]:تفسير الطبري (10/320)
[9675]:في أ: "عتاب".
[9676]:في ر: "بالميت".
[9677]:في أ: "منه".
[9678]:تفسير الطبري (10/209، 210).وقال الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه القيم: "الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير" (ص183): "وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في كتابه: "ميزان الاعتدال" وقال: إن الآفة فيه من المخرمي أو شيخه.وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق، والأنبياء لا يقولون الشعر، وصدق الزمخشري حيث قال: "روي أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر.وقد قال الله تبارك وتعالى: ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ).وقد قال الإمام الألوسي في تفسيره: وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: "من قال: آدم - عليه السلام - قد قال شعرًا فقد كذب، إن محمدًا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل بكاه آدم بالسريانية، فلم يزل ينقل، حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية، والسريانية، فقدم فيه وأخر، وجعله شعرًا عربيًا"، وذكر بعض علماء العربية: أن في ذلك لحنًا، وإقواء، وارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة.والحق: أنه شعر في غاية الركاكة، والأشبه أن يكون هذا الشعر اختلاق إسرائيلي ليس له من العربية إلا حظ قليل، أو قصاص يريد أن يستولي على قلوب الناس بمثل هذا الهراء".
[9679]:في ر: "ابن مجاهد".
[9680]:في هـ: "أن"، والمثبت من أ.
[9681]:زيادة من ر.
[9682]:رواه أبو داود في سننه برقم (4902) وابن ماجة في سننه برقم (4211) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.