تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي : تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رئي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر ، الذي يحصل بالقتل ، وهكذا سائر الحدود الشرعية ، فيها من النكاية والانزجار ، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ، ونكَّر " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير .

ولما كان هذا الحكم ، لا يعرف حقيقته ، إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة ، خصهم بالخطاب دون غيرهم ، وهذا يدل على أن الله تعالى ، يحب من عباده ، أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ، في تدبر ما في أحكامه من الحكم والمصالح الدالة على كماله وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته الواسعة ، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب ، وناداهم رب الأرباب ، وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون .

وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة ، أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله ، ويعظم معاصيه فيتركها ، فيستحق بذلك أن يكون من المتقين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

178

ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة :

( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) . .

إنه ليس الانتقام ، وليس إرواء الأحقاد . إنما هو أجل من ذلك وأعلى . إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة . . ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله . .

والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء . فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل . . جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد . كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل . شفائها من الحقد والرغبة في الثأر . الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم . وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم ، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل . .

وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم . فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها ، واعتداء على كل إنسان حي ، يشترك مع القتيل في سمة الحياة . فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة ، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها . وكان في هذا الكف حياة . حياة مطلقة . لا حياة فرد ، ولا حياة أسرة ، ولا حياة جماعة . . بل حياة . .

ثم - وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه :

( لعلكم تتقون ) . .

هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء . الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيرا . . التقوى . . حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله ؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه .

إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان !

وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي [ ص ] وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوبا باعتراف الجاني نفسه طائعا مختارا . . لقد كانت هنالك التقوى . . كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود . . إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب . . وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور . نظيف الحركة نظيف السلوك . لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير !

" حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون ، تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة ، ووخزا لاذعا للضمير ، وخيالا مروعا ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئنا مرتاحا ، تفاديا من سخط الله ، وعقوبة الآخرة .

إنها التقوى . . إنها التقوى . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }

يعني تعالى ذكره بقوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ يا أُولي الألْباب ولكم يا أولي العقول فيما فرضت عليكم وأوجبت لبعضكم على بعض من القصاص في النفوس والجراح والشجاج ما منع به بعضكم من قتل بعض وقَدَع بعضكم عن بعض فحييتم بذلك فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ يا أُولي الألْباب قال : نكالٌ ، تناهٍ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ قال : نكالٌ ، تناهٍ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ جعل الله هذا القصاص حياة ونكالاً وعظة لأهل السفه والجهل من الناس . وكم من رجل قد همّ بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض . وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والاَخرة ولا نهى الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين ، والله أعلم بالذي يصلح خلقه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ يا أُولي الألْباب قال : قد جعل الله في القصاص حياة ، إذا ذكره الظالم المتعدّي كفّ عن القتل .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ الآية ، يقول : جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم ، كم من رجل قد همّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها ، وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ قال : نكالٌ ، تناهٍ . قال ابن جريج : حياة : منعة .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ قال : حياة : بقية إذا خاف هذا أن يقتل بي كفّ عني ، لعله يكون عدوّا لي يريد قتلي ، فيتذكر أن يقتل في القصاص ، فيخشى أن يقتل بي ، فيكف بالقصاص الذي خاف أن يقتل لولا ذلك قتل هذا .

حدثت عن يعلى بن عبيد ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ قال : بقاء .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره لأنه لا يقتل بالمقتول غير قاتله في حكم الله . وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحر . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَياةٌ يقول : بقاء ، لا يقتل إلا القاتل بجنايته .

وأما تأويل قوله : يا أُولي الألْبابِ فإنه : يا أولي العقول . والألباب جمع اللبّ ، واللبّ العقل . وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهل العقول ، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه ويتدبرون آياته وحججه دون غيرهم .

القول في تأويل قوله تعالى : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ .

وتأويل قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ أي تتقون القصاص فتنتهون عن القتل . كما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال : لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )

وقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } نحوه( {[1626]} ) قول العرب في المثل : القتل أوقى للقتل ، ويروى : أبقى ، بباء وقاف .

ويروى أنفى بنون وفاء( {[1627]} ) ، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً ، وهذا الترتيب ما سبق لهما في الأزل( {[1628]} ) ، وأيضاً فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة ، وخص { أولي الألباب } بالذكر تنبيهاً عليهم ، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي ، وغيرهم تبع لهم ، و { تتقون } معناه القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة ، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي «ولكم في القصص »( {[1629]} ) أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه ، ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي إنه قص أثر القاتل قصصاً فقتل كما قتل .


[1626]:- عبارة القرآن جمعت الحسنى من فصاحة وبلاغة ودلالة، ولا وجه للمفاضلة بينها وبين الكلمة العربية فإن هذه الكلمة وإن كان لها فضل – فهو باعتبار حسنها، وفي الآية الكريمة إيحاء بالعدالة والانسانية حيث عبر بالقصاص، وبأولي الألباب فإنما تكون الحياة في القصاص إذا تحقق العدل وآمن الناس بالأمر، وأما إذا كان الجهل والجور فلا حياة في القصاص، ومن ذلك نعلم أن إقامة ميزان العدل في الحدود والحقوق من شأنه أن يقلل الجرائم الاجتماعية والضغائن البشرية وذلك هو سبيل الأمن وطريق النهوض. وفي كتب البلاغة بيان لما في التعبير القرآني من بلاغة.
[1627]:- رويت هذه الكلمة بروايات كثيرة منها: «القتل أبقى للقتل» ومنها: «القتل أوقى للقتل»، ومنها: «القتل أنفى للقتل»، ومنها «القتل أتقى للقتل». والظاهر أن هذه الروايات نشأت عن التصحيف أو التحريف الذي حدث في نقط النون والفاء في كلمة – أنفى – وكل هذه التغيرات جاءت في نقط هذين الحرفين، ومثل هذا واقع مشهور وبخاصة في العصور الأولى التي لم يكن فيها نقط، أو كان فيها نقط جديد مستحدث، أو نقط غير ملتزم، ومهما يكن من أمر فالرواية المشهورة المتعارفة هي «القتل أنفى للقتل»، وما سواها منه ما هو قريب من معناها، ومنه ما هو بعيد منها، والله أعلم.
[1628]:- يعني أنه لا منافاة بين هذا المعنى (وهو ترتب الحياة على القصاص بسبب أن من يريد القتل ينزجر مخافة الاقتصاص منه) وبين ما في علم الله. فإن هذا مما سبق به علم الله في الأزل.
[1629]:- قراءة منكرة والمعنى ضعيف. قال أبو جعفر التماس: هي قراءة شاذة – وأبو الجوزاء روى عن عائشة وأبي هريرة توفي سنة 83 هـ.