هذا بيان لرذيلة الزنا ، وأنه يدنس عرض صاحبه ، وعرض من قارنه ومازجه ، ما لا يفعله بقية الذنوب ، فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء ، إلا أنثى زانية ، تناسب حاله حالها ، أو مشركة بالله ، لا تؤمن ببعث ولا جزاء ، ولا تلتزم أمر الله ، والزانية كذلك ، لا ينكحها إلا زان أو مشرك { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ْ } أي : حرم عليهم أن ينكحوا زانيا ، أو ينكحوا زانية .
ومعنى الآية : أن من اتصف بالزنا ، من رجل أو امرأة ، ولم يتب من ذلك ، أن المقدم على نكاحه ، مع تحريم الله لذلك ، لا يخلو إما أن لا يكون ملتزما لحكم الله ورسوله ، فذاك لا يكون إلا مشركا ، وإما أن يكون ملتزما لحكم الله ورسوله ، فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه ، فإن هذا النكاح زنا ، والناكح زان مسافح ، فلو كان مؤمنا بالله حقا ، لم يقدم على ذلك ، وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب ، وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب ، فإن مقارنة الزوج لزوجته ، والزوجة لزوجها ، أشد الاقترانات والازدواجات ، وقد قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ْ } أي : قرناءهم ، فحرم الله ذلك ، لما فيه من الشر العظيم ، وفيه من قلة الغيرة ، وإلحاق الأولاد ، الذين ليسوا من الزوج ، وكون الزاني لا يعفها بسبب اشتغاله بغيرها ، مما بعضه كاف للتحريم{[556]} وفي هذا دليل أن الزاني ليس مؤمنا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فهو وإن لم يكن مشركا ، فلا يطلق عليه اسم المدح ، الذي هو الإيمان المطلق .
ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها ، فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة :
( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك . وحرم ذلك على المؤمنين ) . .
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون . إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان . وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة ؛ لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز . حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة ، وبين عفيف وزانية ؛ إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر . وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية ، ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ؛ واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد : ( وحرم ذلك على المؤمنين ) . . وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة .
ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلا يقال له : مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها : عناق . وكانت صديقة له . وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة . قال : فجاءت عناق ، فأبصرت سواد ظل تحت الحائط . فلما انتهت إلي عرفتني . فقالت : مرثد ? فقلت : مرثد ! فقالت : مرحبا وأهلا . هلم فبت عندنا الليلة : قال : فقلت : يا عناق حرم الله الزنا . فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم . قال : فتبعني ثمانية ، ودخلت الحديقة . فانتهيت إلى غار أو كهف ، فدخلت ، فجاءوا حتى قاموا على رأسي ، فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم الله عني . قال : ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ؛ وكان رجلا ثقيلا ؛ حتى انتهيت إلى الإذخر ؛ ففككت عنه أحبله ، فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ؛ فأتيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا رسول الله أنكح عناقا ? - مرتين - فأمسك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلم يرد علي شيئا حتى نزلت( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ، وحرم ذلك على المؤمنين )فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا مرثد . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة . فلا تنكحها " .
فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب ، ونكاح المؤمنة للزاني كذلك . وهو ما أخذ به الإمام أحمد . ورأى غيره غير رأيه . والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه . وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة ؛ وتقطع ما بينه وبينها من روابط . وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا !
والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها . فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول ، ولا خير لهم في كبتها أو قتلها . ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم ، وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر ، يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة ، وعمارة الأرض ، التي استخلف فيها هذا الإنسان .
إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد ، أو لا تهدف إلى إقامة بيت ، وبناء عش ، وإنشاء حياة مشتركة ، لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين ، وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذرية المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان .
من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية ، تذهب بكل هذه المعاني ، وتطيح بكل هذه الأهداف ؛ وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا ، لا يفرق بين أنثى وأنثى ، ولا بين ذكر وذكر . مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة . فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة ، وليس وراءها عمارة في الأرض ، وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج ! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية ، لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار . وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع ، الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها ، وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان !
إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ؛ إنما ينظمها ويطهرها ، ويرفعها عن المستوى الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . فأما الزنا - وبخاصة البغاء - فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية ، والأشواق العلوية ؛ ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ؛ ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان ، بل أشد غلظا من الحيوان . ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة ، في حياة زوجية منظمة ، بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا - وبخاصة البغاء - في بعض بيئات الإنسان !
دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا . . ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة ، من اختلاط الأنساب ، وإثارة الأحقاد ، وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة . . . وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة . ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية ، ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس ، والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد . . هذا السبب هو الأهم في اعتقادي . وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى .
على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل ، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها . فالإسلام منهج حياة متكامل ، لا يقوم على العقوبة ؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة . ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر .
وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق . .
فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطى ء في العفو خير من أن يخطى ء في العقوبة لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل . أو اعترافا لا شبهة في صحته .
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا ، لأنها غير قابلة للتطبيق . ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة ، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة ؛ وعلى تهذيب النفوس ، وتطهير الضمائر ؛ وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب ، فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة . ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة ، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود . أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية . وقد جاء كل منهما يطلب من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يطهره بالحد ، ويلح في ذلك ، على الرغم من إعراض النبي مرارا ؛ حتى بلغ الإقرار أربع مرات . ولم يعد بد من إقامة الحد ، لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب "
فإذا وقع اليقين ، وبلغ الأمر إلى الحاكم ، فقد وجب الحد ولا هوادة ، ولا رأفة في دين الله . فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة ، وعلى الآداب الإنسانية ، وعلى الضمير البشري . وهي رأفة مصطنعة . فالله أرأف بعباده . وقد اختار لهم . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم . والله أعلم بمصالح العباد ، وأعرف بطبائعهم ، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية ؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا ، وتفسد فيها الفطرة ، وترتكس في الحمأة ، وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى . .
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة ، وتطهير الجو الذي تعيش فيه . والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلنا - إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة .
القول في تأويل قوله تعالى : { الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في بعض من استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح نسوة كنّ معروفات بالزنا من أهل الشرك ، وكنّ أصحاب رايات ، يُكْرِين أنفسهنّ ، فأنزل الله تحريمهنّ على المؤمنين ، فقال : الزاني من المؤمنين لا يتزوّج إلاّ زانية أو مشركة ، لأنهنّ كذلك والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلاّ زان من المؤمنين أو المشركين أو مشرك مثلها ، لأنهنّ كنّ مشركات . وَحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ فحرّم الله نكاحهنّ في قول أهل هذه المقالة بهذه الآية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : ثني الحضرميّ ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو : أن رجلاً من المسلمين استأذن نبيّ الله في امرأة يقال لها أمّ مهزول ، كانت تسافح الرجل وتشترط له أن تنفق عليه ، وأنه استأذن فيها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أمرها ، قال : فقرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ أو قال : فأنزلت الزانية . . . .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثني هُشَيم ، عن التيميّ ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو في قوله : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً ، وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : كنّ نساء معلومات ، قال : فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهنّ لتنفق عليه ، فنهاهم الله عن ذلك .
قال : أخبرنا سليمان التيمي ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كنّ نساء موارد بالمدينة .
حدثنا أحمد بن المِقدام ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي ، قال : حدثنا قَتادة ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : نزلت في نساء موارد كنّ بالمدينة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عاصم الكلابيّ ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن قَتادة ، عن سعيد ، بنحوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن رجل ، عن عمرو بن شعيب ، قال : كان لمرثَد صديقة في الجاهلية يقال لها عِناق ، وكان رجلاً شديدا ، وكان يقال له دُلْدُل ، وكان يأتي مكة فيحمل ضَعَفة المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقي صديقته ، فدعته إلى نفسها ، فقال : إن الله قد حرّم الزنا فقالت : أنّى تَبْرُز فخشي أن تشيع عليه ، فرجع إلى المدينة ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كانت لي صديقة في الجاهلية ، فهل ترى لي نكاحها ؟ قال : فأنزل الله : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : كنّ نساء معلومات يُدْعَوْن القليقيات .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، قال : سمعت مجاهدا يقول في هذه الآية : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشَرِكَةً قال : كنّ بغايا في الجاهلية .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عمن أخبره ، عن مجاهد ، نحوا من حديث ابن المثنى ، إلاّ أنه قال : كانت امرأَة منهنّ يقال لها : أمّ مهزول يعني في قوله : الزّانِي لا ينْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً قال : فكنّ نساء معلومات ، قال : فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهنّ لتنفق عليه ، فنهاهم الله عن ذلك . هذا من حديث التيميّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : الزّاني لا يَنْكحُ إلاّ زَانيَةً قال : رجال كانوا يريدون الزنا بنساء زوان بغايا متعالمَات كنّ في الجاهلية ، فقيل لهم هذا حرام ، فأرادوا نكاحهن ، فحرم الله عليهم نكاحهن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلاّ أنه قال : بغايا مُعْلِنات كنّ كذلك في الجاهلية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه وإسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبيّ وابن أبي ذئب ، عن شعبة ، عن ابن عباس ، قال : كنّ بغايا في الجاهلية ، على أبوابهنّ رايات مثل رايات البيطار يعرفن بها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : نساء بغايا متعالمَات ، حرّم الله نكاحهنّ ، لا ينكحهنّ إلاّ زان من المؤمنين أو مشرك من المشركين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : الزّانِي لا يَنْكحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً وَالزّانيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنينَ قال : كانت بيوتٌ تسمى المواخير في الجاهلية ، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهنّ ، وكانت بيوتا معلومة للزنا ، لا يدخل عليهنّ ولا يأتيهنّ إلاّ زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان ، فحرّم الله ذلك على المؤمنين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : بغايا متعالمَات كنّ في الجاهلية بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان ، فأنزل الله : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام . فقال له سليمان بن موسى : أبلغك ذلك عن ابن عباس ؟ فقال : نعم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في ذلك : كنّ بغايا متعالمَات بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان ، وكنّ زواني مشركات ، فقال : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ قال : أَحَكَم الله من أمر الجاهلية بهذا . قيل له : أبلغك هذا عن ابن عباس ؟ قال : نعم .
قال ابن جريج : وقال عكرِمة : إنه كان يسمّي تسعا بعد صواحب الرايات ، وكنّ أكثر من ذلك ، ولكن هؤلاء أصحاب الرايات : أمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزوميّ ، وأمّ عُلَيط جارية صفوان بن أمية ، وحنّة القبطية جارية العاصي بن وائل ، ومَرِيّة جارية مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار ، وحلالة جارية سهيل بن عمرو ، وأمّ سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وسريفة جارية زمعة بن الأسود ، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب بن حذيفة بن جبل بن مالك بن عامر بن لؤُيّ ، وقريبا جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر بن غالب بن فهر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وقال الزهري وقتادة ، قالوا : كان في الجاهلية بغايا معلوم ذلك منهنّ ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ ، فأنزل الله : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ . . . الآية .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، وقاله الزهريّ وقتادة ، قالوا : كانوا في الجاهلية بغايا ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن القاسم بن أبي بَزّة : كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها يتخذها مَأْكلة ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ على تلك الجهة ، فُنهوا عن ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، قال : قال القاسم بن أبي بزّة ، فذكر نحوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا سليمان التيميّ ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كنّ نساء مَواردَ بالمدينة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جُبير : أن نساء في الجاهلية كنّ يُؤاجرن أنفسهنّ ، وكان الرجل إنما ينكح إحداهنّ يريد أن يصيب منها عَرَضا ، فنهوا عن ذلك ، ونزل : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ ومنهنّ امرأة يقال لها أمّ مهزول .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن الشعبيّ ، في قوله : الزّانِي لا يَنْكِح إلاّ زَانيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : كنّ نساء يُكْرِين أنفسهنّ في الجاهلية .
وقال آخرون : معنى ذلك : الزاني لا يزنى إلاّ بزانية أو مشركة ، والزانية لا يزنى بها إلاّ زان أو مشرك . قالوا : ومعنى النكاح في هذا الموضع : الجماع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن حُصَين ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قول الله : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً قال : لا يزنى إلاّ بزانية أو مشركة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يَعْلَى بن مسلم ، عن سعيد بن جُبير أنه قال في هذه الآية : وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : لا يزنى الزاني إلاّ بزانية مثله أو مشركة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن شُبْرُمة ، عن سعيد بن جُبير وعكرمة في قوله : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً قالا : هو الوطء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد ، عن معمر ، قال : قال سعيد بن جُبير ومجاهد : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً قالا : هو الوطء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم وشعبة ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، قوله : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قالا : لا يزني الزاني حين يزني إلاّ بزانية مثله أو مشركة ، ولا تزني مشركة إلاّ بمثلها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : هؤلاء بغايا كنّ في الجاهلية ، والنكاح في كتاب الله الإصابة ، لا يصيبها إلاّ زان أو مشرك ، لا يحرم الزنا ، ولا تصيب هي إلاّ مثلها . قال : وكان ابن عباس يقول : بغايا كنّ في الجاهلية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جُبير ، قال : إذا زنى بها فهو زان .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانيَةً أوْ مُشْرِكَةً قال : الزاني من أهل القبلة لا يزنى إلاّ بزانية مثله أو مشركة . قال : والزانية من أهل القبلة لا تزنى إلاّ بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة . ثم قال : وَحُرّمَ ذلكَ على المُؤْمِنينَ .
وقال آخرون : كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية ، حتى نسخه بقوله : وأنْكِحُوا الأيامَى منْكُمْ ، فأحلّ نكاح كلّ مسلمة وإنكاح كلّ مسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرّم ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ قال : يَرَوْن الآية التي بعدها نسختها : وأنْكِحُوا الأيامَى مِنْكُمْ قال : فهن من أيامى المسلمين .
حدثنا القاسم ، قال حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ قال : نسختها التي بعدها : وأنْكِحُوا الأيامَى مِنْكُمْ وقال : إنهنّ من أيامى المسلمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : وذكر عن يحيى ، عن ابن المسيب ، قال : نسختها : وأنْكِحُوا الأيامَى مِنْكُمْ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : نسختها قوله : وأنْكِحُوا الأيامَى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى ، قال : ذكر عند سعيد بن المسيب : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً قال : فسمعته يقول : إنها قد نسختها التي بعدها . ثم قرأها سعيد ، قال : يقول الله : الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً ثم يقول الله : وأنْكِحُوا الأيامَى مِنْكُمْ فهنّ من أيامى المسلمين .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عُني بالنكاح في هذا الموضع الوطء ، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كلّ مشرك ، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كلّ مشركة من عَبَدة الأوثان . فمعلوم إذا كان ذلك كذلك أنه لم يُعْنَ بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات ولا ينكح إلاّ بزانية أو مشركة . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن معنى الآية : الزاني لا يزني إلاّ بزانية لا تستحلّ الزنا أو بمشركة تستحلّه .
وقوله : وَحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ يقول : وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله ، وذلك هو النكاح الذي قال جلّ ثناؤه : الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً .
{ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء ، فإن المشاكلة علة للألفة والتضام ، والمخافة سبب للنفرة والافتراق . وكان حق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من هو زان أو مشرك . لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن . لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن لأن الآية عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية ولذلك قدم الزاني . { وحرم ذلك على المؤمنين } لأنه تشبه بالفساق وتعرض للتهمة وتسبب لسوء القالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد ، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة . وقيل النفي بمعنى النهي ، وقد قرىء به والحرمة على ظاهرها والحكم مخصوص بالسبب الذي ورد فيه ، أو منسوخ بقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } فإنه يتناول المسافحات ، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال : " أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال " ، وقيل المراد بالنكاح الوطء فيؤول إلى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية ، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد .
في هذه الآية أربعة أوجه من التأويل : أحدها أن يكون مقصد الآية تشنيع وتبشيع أمره وأنه محرم على المؤمنين واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ ، ويريد بقوله { لا ينكح } أي لا يطأ فيكون النكاح بمعنى الجماع وردد القصة مبالغة وآخذاً من كلا الطرفين ، ثم زاد تقسيم المشرك والمشركة من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنا ، فالمعنى { الزاني } لا يطأ في وقت زناه { إلا زانية } من المسلمين أو من هي أخس منها من المشركات ، وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء ، وأنكر ذلك الزجاج وقال لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج ، وليس كما قال ، وفي القرآن { حتى تنكح زوجاً غيره }{[8583]} [ البقرة : 230 ] وقد بينه النبي عليه السلام أنه بمعنى الوطء ، وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ولكن غير ملخص ولا مكمل . والثاني أن تكون الآية نزلت في قوم مخصوصين وهذا قول روي معناه عن عبد الله بن عمر وعن ابن عباس وأصحابه قالوا وهم قوم كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات ، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا ، فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن فنزلت الآية بسببهن ، والإشارة ب { الزاني } إلى أحد أولئك حمل عليه اسم الزنى الذي كان في الجاهلية ، وقوله { لا ينكح } أي لا يتزوج ، وفي الآية على هذا التأويل معنى التفرغ عليهم وفي ذلك توبيخ كأنه يقول أي مصاب الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم ، ويرد على هذا التأويل الإجماع على أن { الزانية } لا يجوز أن يتزوجها مشرك ، ثم قوله { وحرم ذلك على المؤمنين } أي نكاح أولئك البغايا ، فيزعم أهل هذا التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله على أمة محمد عليه السلام ومن أشهرهن عناق البغي وكان الذي هم بتزويجها يلقب دولدل{[8584]} كان يستخرج ضعفة المسلمين من مكة سراً ففطنت له ودعته إلى نفسها فأبى الزنى وأراد التزويج ، واستأذن في ذلك النبي عليه السلام ، فنزلت الآية ولما دعته وأبى قالت له : أي تبور والله لأفضحنك{[8585]} ، وذكر الطبري أن من البغايا المذكورات أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، ويقال فيها أم مهزم وأم غليظ{[8586]} جارية صفوان بن أمية ، وحنة القبطية ، جارية العاصي بن وائل ، ومزنة{[8587]} جارية مالك بن عميلة بن سباق ، وخلالة{[8588]} جارية سهيل بن عمرو ، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وشريفة{[8589]} جارية زمعة بن الأسود ، وفرسة جارية هشام بن ربيعة ، ومرثنا{[8590]} جارية هلال بن أنس ، وغيرهن ممن كانت لهن رايات تعرف منازلهن بها ، وكذلك كان بالمدينة إماء عبد الله بن أَبي وغيره مشهورات ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال في سياق هذا التأويل كانت بيوت في الجاهلية تسمى المواخير ، كانوا يؤجرون فيها فتياتهم وكانت بيوتاً معلومة للزنى ، فحرم الله { ذلك على المؤمنين } ، ويحتمل أَن يكون هذا الكلام في التأويل الذي ذكرته قبل هذا ، وواحد المواخير ماخور ومنه قول بعض المحدثين :
في كل واد هبطن فيه دسكرة *** في كل نشز صعدن فيه ماخور{[8591]} .
والتأويل الثالث تأويل ذكره الزجاج وغيره عن الحسن وذلك أَنه قال المراد { الزاني } المحدود { والزانية } المحدودة{[8592]} قال وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أَن يتزوج إلا زانية محدودة ، وروي أن محدوداً تزوج غير محدودة فرد علي بن أبي طالب نكاحهما ، وقوله { حرم ذلك } يريد الزنى ، وحكى الزهراوي في هذا حديثاً من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله » وهذا حديث لا يصح ، وقول فيه نظر ، وإدخال «المشرك » في الآية يرده ، وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك ، ورابع قول روي عن سعيد بن المسيب وذلك أنه قال : هذا حكم كان في الزنى عامة أن لا يتزوج زان إلا زانية جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم }{[8593]} [ النور : 32 ] وروي ترتيب هذا النسخ أيضاً عن مجاهد ، إلا أنه قال أن التحريم إنما كان في أولئك النفر خاصة لا في الزناة عامة ، ذكر ذلك عنهما أبو عبيدة في ناسخه وذكر عن مجاهد أنه قال : حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذكر الاشتراك في الآية يضعف هذه المناحي ، وقرأ أبو البرهسم «وحرم الله ذلك على المؤمنين »{[8594]} ، واختلف فيمن زنا بامرأة ثم أراد نكاحها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وجابر بن عبد الله وطاوس وابن الحسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة وابن عباس ومالك والثوري والشافعي{[8595]} ومنعه ابن مسعود والبراء بن عازب وعائشة وقالوا : لا يزالان زانيين ما اجتمعا .
هذه الآية نزلت مستقلة بأولها ونهايتها كما يأتي قريباً في ذكر سبب نزولها ، سواء كان نزولها قبل الآيات التي افتتحت بها السورة أم كان نزولها بعد تلك الآيات . فهذه الجملة ابتدائية . ومناسبة موقعها بعد الجملة التي قبلها واضحة .
وقد أعضل معناها فتطلب المفسرون وجوها من التأويل وبعض الوجوه ينحل إلى متعدد .
وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود وما رواه الترمذي وصححه وحسنه : « أنه كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد ( الغنوي من المسلمين ) كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى فيأتي بهم إلى المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها : عناق . وكانت خليلة له ، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة ليحمله . قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة . قال : فجاءت عناق فقالت : مرثد ؟ قلت : مرثد . قالت : مرحباً وأهلاً هلم فبت عندنا الليلة . قال فقلت : حرم الله الزنى . فقالت عناق : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم ، فتبعني ثمانية ( من المشركين ) . . إلى أن قال : ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته ففككت عنه كبله حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ فأمسك رسول الله فلم يرد عليَّ شيئاً حتى نزلت { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } فقال رسول الله : يا مرثد لا تنكحها » .
فتبيّن أن هذه الآية نزلت جواباً عن سؤال مرثد بن أبي مرثد هل يتزوج عناق . ومثار ما يشكل ويعضل من معناها : أن النكاح هنا عقد التزوج كما جزم به المحققون من المفسرين مثل الزجاج والزمخشري وغيرهما . وأنا أرى لفظ النكاح لم يوضع ولم يستعمل إلا في عقد الزواج وما انبثق زعم أنه يطلق على الوطء إلا من تفسير بعض المفسرين قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] بناء على اتفاق الفقهاء على أن مجرد العقد على المرأة بزوج لا يحلها لمن بَتَّها إلا إذا دخل بها الزوج الثاني . وفيه بحث طويل ، ليس هذا محله .
وأنه لا تردد في أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الزنى إذ كان تحريم الزنى من أول ما شرع من الأحكام في الإسلام كما في الآيات الكثيرة النازلة بمكة ، وحسبك أن الأعشى عدّ تحريم الزنى في عداد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع إذ قال في قصيدته لما جاء مكة بنية الإسلام ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فصده أبو جهل فانصرف إلى اليمامة ومات هناك قال :
أجدَّك لم تسمع وصاة محمد *** نبيءِ الإله حين أوصى وأشهدا
ولا تقربنّ جارة إنّ سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا{[284]}
وقد ذكرنا ذلك في تفسير سورة الإسراء .
وأنه يلوح في بادىء النظر من ظاهر الآية أن صدرها إلى قوله أو { مشرك } إخبارٌ عن حال تزوج امرأة زانية وأنه ليس لتشريع حكم النكاح بين الزناة المسلمين ، ولا نكاح بين المشركين . فإذا كان إخباراً لم يستقم معنى الآية إذ الزاني قد ينكح الحصينة والمشرك قد ينكح الحصينة وهو الأكثر فلا يستقيم لقوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } معنى ، وأيضاً الزانية قد ينكحها المسلم العفيف لرغبة في جمالها أو لينقذها من عهر الزنى وما هو بزان ولا مشرك فلا يستقيم معنى لقوله : { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } وإننا لو تنازلنا وقبلنا أن تكون لتشريع حكم فالإشكال أقوى إذ لا معنى لتشريع حكم نكاح الزاني والزانية والمشرك والمشركة فتعين تأويل الآية بما يفيد معنى معتبراً .
والوجه في تأويلها : أن مجموع الآية مقصود منه التشريع دون الإخبار لأن الله تعالى قال في آخرها { وحرم ذلك على المؤمنين } . ولأنها نزلت جواباً عن سؤال مرثد تزويجه عناق وهي زانية ومشركة ومرثد مسلم تقي . غير أن صدر الآية ليس هو المقصود بالتشريع بل هو تمهيد لآخرها مشير إلى تعليل ما شُرع في آخرها ، وفيه ما يفسر مرجع اسم الإشارة الواقع في قوله : { وحرم ذلك } . وأن حكمها عام لمرثد وغيره من المسلمين بحق عموم لفظ { المؤمنين } .
وينبني على هذا التأصيل أن قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } تمهيد للحكم المقصود الذي في قوله : { وحرم ذلك على المؤمنين } وأنه مسوق مساق الإخبار دون التشريع فيتعين أن المراد من لفظ { الزاني } المعنى الإسمي لاسم الفاعل وهو معنى التلبس بمصدره دون معنى الحدوث ؛ إذ يجب أن لا يُغفل عن كون اسم الفاعل له شائبتان : شائبة كونه مشتقاً من المصدر فهو بذلك بمنزلة الفعل المضارع ، فضارب يشبه يضرب في إفادة حصول الحدث من فاعل ، وشائبةُ دلالته على ذات متلبسة بحدث فهو بتلك الشائبة يقْوى فيه جانب الأسماء الدالة على الذوات . وحمله في هذه الآية على المعنى الإسمي تقتضيه قرينة السياق إذ لا يفهم أن يكون المعنى أن الذي يحدث الزنى لا يتزوج إلا زانية لانتفاء جدوى تشريع منع حالة من حالات النكاح عن الذي أتى زنى . وهذا على عكس محمل قوله : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] فإنه بالمعنى الوصفي ، أي التلبس بإحداث الزنى حسبما حملناه على ذلك آنفاً بقرينة سياق ترتب الجلد على الوصف إذ الجلد عقوبة إنما تترتب على إحداث جريمة توجبها .
فتمحض أن يكون المراد من قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية } إلخ : مَن كان الزنى دأباً له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان ( ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة ) فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله { وحرم ذلك على المؤمنين } .
وقدم له ما يفيد تشويهه بأنه لا يلائم حال المسلم وإنما هو شأن أهل الزنى ، أي غير المؤمنين ، لأن المؤمن لا يكون الزنى له دأباً ، ولو صدر منه لكان على سبيل الفلتة كما وقع لماعز بن مالك .
فقوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } تمهيد وليس بتشريع ، لأن الزاني بمعنى مَن الزنى له عادة لا يكون مؤمناً فلا تشرع له أحكام الإسلام . وهذا من قبيل قوله تعالى : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات } [ النور : 26 ] وهذا يتضمن أن المسلم إذا تزوج زانية فقد وضع نفسه في صف الزناة ، أي المشركين .
وعطف قوله : { أو مشركة } على { زانية } لزيادة التفظيع فإن الزانية غير المسلمة قد تكون غير مشركة مثل زواني اليهود والنصارى وبغاياهما . وكذلك عطف { أو مشرك } على { إلا زان } لظهور أن المقام ليس بصدد التشريع للمشركات والمشركين أحكام التزوج بينهم إذ ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة .
فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية . ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا من تروق له أخلاق أمثالها ، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقاً أوْشَكُوا أن ينسوها .
فموقع هذه الآية موقع المقصود من الكلام بعد المقدمة ولذلك جاءت مستأنفة كما تقع النتائج بعد أدلتها ، وقدم قبلها حكم عقوبة الزنى لإفادة حكمه وما يقتضيه ذلك من تشنيع فعله . فلذلك فالمراد بالزاني : مَن وصْف الزنى عادته .
وفي « تفسير القرطبي » عن عمرو بن العاص ومجاهد : أن هذه الآية خاصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها : أم مهزول ، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه ( ولعل أم مهزول كنية عناق ولعل القصة واحدة ) إذ لم يرو غيرها . قال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ .
وابتدىء في هذه الآية بذكر الزاني قبل ذكر الزانية على عكس ما تقدم في قوله { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] فإن وجه تقديم الزانية في الآية السابقة هو ما عرفته ، فأما هنا فإن سبب نزول هذه الآية كان رغبة رجل في تزوج امرأة تعودت الزنى فكان المقام مقتضياً الاهتمام بما يترتب على هذا السؤال من مذمة الرجل الذي يتزوج مثل تلك المرأة .
وجملة { وحرم ذلك على المؤمنين } تكميل للمقصود من الجملتين قبلها ، وهو تصريح بما أريد من تفظيع نكاح الزانية وببيان الحكم الشرعي في القضية .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى المعنى الذي تضمنته الجملتان من قبل وهو نكاح الزانية ، أي وحرم نكاح الزانية على المؤمنين ، فلذلك عطفت جملة { وحرم ذلك على المؤمنين } لأنها أفادت تكميلاً لما قبلها وشأن التكميل أن يكون بطريق العطف . t ومن العلماء من حمل الآية على ظاهرها من التحريم وقالوا : هذا حكم منسوخ نسختها الآية بعدها { وأنكحوا الأيامي منكم } [ النور : 32 ] فدخلت الزانية في الأيامى ، أي بعد أن استقر الإسلام وذهب الخوف على المسلمين من أن تعاودهم أخلاق أهل الجاهلية .
وروي هذا عن سعيد بن المسيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر ، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي ، ولم يؤثر أن أحداً تزوج زانية فيما بين نزول هذه الآية ونزول ناسخها ، ولا أنه فسخ نكاح مسلم امرأة زانية . ومقتضى التحريم الفساد وهو يقتضي الفسخ . وقال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ . ومنهم من رأى حكمها مستمراً . ونسب الفخر القول باستمرار حكم التحريم إلى أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم ونسبه غيره إلى التابعين ولم يأخذ به فقهاء الأمصار من بعد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في بعض من استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح نسوة كنّ معروفات بالزنا من أهل الشرك، وكنّ أصحاب رايات، يُكْرِين أنفسهنّ، فأنزل الله تحريمهنّ على المؤمنين، فقال: الزاني من المؤمنين لا يتزوّج إلاّ زانية أو مشركة، لأنهنّ كذلك، والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلاّ زان من المؤمنين أو المشركين أو مشرك مثلها، لأنهنّ كنّ مشركات. "وَحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ "فحرّم الله نكاحهنّ في قول أهل هذه المقالة بهذه الآية... عن عبد الله بن عمرو في قوله: "الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً، وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ" قال: كنّ نساء معلومات، قال: فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهنّ لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك... عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في ذلك: كنّ بغايا متعالمَات بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان، وكنّ زواني مشركات، فقال: "الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ" قال: أَحَكَم الله من أمر الجاهلية بهذا. قيل له: أبلغك هذا عن ابن عباس؟ قال: نعم...
وقال آخرون: معنى ذلك: الزاني لا يزني إلاّ بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك. قالوا: ومعنى النكاح في هذا الموضع: الجماع...
وقال آخرون: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية، حتى نسخه بقوله: "وأنْكِحُوا الأيامَى منْكُمْ"، فأحلّ نكاح كلّ مسلمة وإنكاح كلّ مسلم... وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُني بالنكاح في هذا الموضع الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات، وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كلّ مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كلّ مشركة من عَبَدة الأوثان. فمعلوم إذا كان ذلك كذلك أنه لم يُعْنَ بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات ولا ينكح إلاّ بزانية أو مشركة. وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلاّ بزانية لا تستحلّ الزنا أو بمشركة تستحلّه.
وقوله: "وَحُرّمَ ذلكَ عَلى المُؤْمِنِينَ" يقول: وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله، وذلك هو النكاح الذي قال جلّ ثناؤه: "الزّاني لا يَنْكِحُ إلاّ زَانِيَةً".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الناسُ أشكالٌ؛ فكلُّ نظيرٍ مع شكله، وكلُّ يُساكِنُ شكله، وأنشدوا:
عن المرء لا تسأل وَسلْ عن قرينه *** فكلُّ قرينٍ بالمُقَارَنِ يقتدي
أهلُ الفسادِ إفساد يجمعهم -وإنْ تَبَاعَدَ مزارُهم، وأهل السدادِ السدادُ يجمعهم- وإن تناءت ديارهم..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة، كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين. ونكاح المؤمن -الممدوح عند الله- الزانية، ورغبته فيها، وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى: محرّم عليه محظور؛ لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان في ذلك من الغلظة على الزاني لما ارتكب من الحرام المتصف بالعار ما يفهم مجانبته، صرح به، مانعاً من نكاح المتصف بالزنا من ذكر وأنثى، إعلاماً بأن وطء من اتصف به من رجل أو امرأة لا يكون إلا زنا وإن كان بعقد، فقال واصلاً له بما قبله: {الزاني لا ينكح} أي لا يتزوج {إلا زانية أو مشركة} أي المعلوم اتصافه بالزنا مقصور نكاحه على زانية أو مشركة، وذلك محرم، فهذا تنفير للمسلمة عن نكاح المتصف بالزنا حيث سويت بالمشركة إن عاشرته، وذلك يرجع إلى أن من نكحت زانياً فهي زانية أو مشركة، أي فهي مثله أو شر منه، ولو اقتصر على ذلك لم يكن منع من أن ينكح العفيف الزانية، فقال تعالى مانعاً من ذلك: {والزانية لا ينكحها} أي لا يتزوجها {إلا زان أو مشرك} أي والمعلوم اتصافها بالزنا مقصور نكاحها على زان أو مشرك، وذلك محرم فهو تنفير للمسلم أن يتزوج من اتصفت بالزنا حيث سوى في ذلك بالمشرك، وهو يرجع إلى أن من نكح زانية فهو زان أو مشرك، أي فهو مثلها أو شر منها، وأسند النكاح في الموضعين إلى الرجل تنبيهاً إلى أن النساء لا حق لهن في مباشرة العقد؛ ثم صرح بما أفهمه صدر الآية بقوله مبنياً للمفعول لأن ذلك يكفي المؤمن الذي الخطاب معه: {وحرم ذلك} أي نكاح الزاني والزانية تحريماً لا مثنوية فيه {على المؤمنين} وعلم من هذا أن ذكر المشرك والمشركة لزيادة التنفير،.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا بيان لرذيلة الزنا، وأنه يدنس عرض صاحبه، وعرض من قارنه ومازجه، ما لا يفعله بقية الذنوب، فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء، إلا أنثى زانية، تناسب حاله حالها، أو مشركة بالله، لا تؤمن ببعث ولا جزاء، ولا تلتزم أمر الله، والزانية كذلك، لا ينكحها إلا زان أو مشرك {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: حرم عليهم أن ينكحوا زانيا، أو ينكحوا زانية. ومعنى الآية: أن من اتصف بالزنا، من رجل أو امرأة، ولم يتب من ذلك، أن المقدم على نكاحه، مع تحريم الله لذلك، لا يخلو إما أن لا يكون ملتزما لحكم الله ورسوله، فذاك لا يكون إلا مشركا، وإما أن يكون ملتزما لحكم الله ورسوله، فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه، فإن هذا النكاح زنا، والناكح زان مسافح، فلو كان مؤمنا بالله حقا، لم يقدم على ذلك، وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب، فإن مقارنة الزوج لزوجته، والزوجة لزوجها، أشد الاقترانات والازدواجات، وقد قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ْ} أي: قرناءهم، فحرم الله ذلك، لما فيه من الشر العظيم، وفيه من قلة الغيرة، وإلحاق الأولاد، الذين ليسوا من الزوج، وكون الزاني لا يعفها بسبب اشتغاله بغيرها، مما بعضه كاف للتحريم وفي هذا دليل أن الزاني ليس مؤمنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فهو وإن لم يكن مشركا، فلا يطلق عليه اسم المدح، الذي هو الإيمان المطلق..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون. إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان. وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة؛ لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز...
والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها. فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول، ولا خير لهم في كبتها أو قتلها. ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم، وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر، يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة، وعمارة الأرض، التي استخلف فيها هذا الإنسان. إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد، أو لا تهدف إلى إقامة بيت، وبناء عش، وإنشاء حياة مشتركة، لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين، وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان. من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية، تذهب بكل هذه المعاني، وتطيح بكل هذه الأهداف؛ وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا، لا يفرق بين أنثى وأنثى، ولا بين ذكر وذكر. مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة. فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة، وليس وراءها عمارة في الأرض، وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية، لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار. وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع، الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها، وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان! إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها؛ إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. فأما الزنا -وبخاصة البغاء- فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية، والأشواق العلوية؛ ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل؛ ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان، بل أشد غلظا من الحيوان. ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة، في حياة زوجية منظمة، بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا -وبخاصة البغاء- في بعض بيئات الإنسان! دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا.. ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة، من اختلاط الأنساب، وإثارة الأحقاد، وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة... وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة. ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية، ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس، والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد.. هذا السبب هو الأهم في اعتقادي. وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى. على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها. فالإسلام منهج حياة متكامل، لا يقوم على العقوبة؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة. ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فتمحض أن يكون المراد من قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية} إلخ: مَن كان الزنى دأباً له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان -ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة -فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله {وحرم ذلك على المؤمنين}...
فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية. ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا من تروق له أخلاق أمثالها، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقاً أوْشَكُوا أن ينسوها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الرجل النظيف لا يلقي بمائه في موضع دنس، وأي دنس أخبث من دنس الزنى، أي فهو لا يتزوج زانية، والنكاح هنا بمعنى العقد، لا بمعنى الوطء كما روي عن ابن عباس برواية ضعيفة لم تصح، ويقول الزجاج: إن النكاح لم يذكر في القرآن إلا بمعنى العقد، فلا ينكح مؤمن زانية قط، ما دامت لم تتب توبة نصوحا، ولم تنخلع من هذه الموبقة، وتطهرها بالتوبة بعد الحد، وإن المؤمنة التقية لا ترضى أن يكون زوجا لها زان عرف بالزنى، بل إن الزاني إذا تزوج مؤمنة كان الزواج فاسدا بحكم الكفاءة في الزواج، وقد أجمع الفقهاء على عدة الكفاءة في التدين وقال فيه مالك رضي الله عنه: إنه زوج. وكما أن الزاني لا يجد من يقبله زوجا إلا زانية أو مشركة، كذلك الزانية لا تجد زوجا يقبلها إلا إذا كان زانيا أو مشركا، وإن ذلك حكم الطبع السليم الذي تكون فيه النفس غير مهينة، ولا مبتذلة، ولا مدنسة بالرجس والآثام، وذلك لأن الزوج عشير يخالط زوجه بالحس، ويخالطه بالنفس، وعدوى النفوس كعدوى الآثام تتلاقح بالأمراض، كما تنتقل الأمراض بين الناس.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وأشار كتاب الله إلى أن المؤمن الصالح لا يرتضي لنطفته وذريته إلا الصوالح من النساء، كما أن المؤمنة الصالحة لا ترتضي لعشرتها الزوجية إلا الصالحين من الرجال، بحيث لا يتصور إقبال المؤمنين والمؤمنات على التزوج بالزناة والزانيات، لما في ذلك من مفاسد وأخطار، وآثام وأوزار، وإنما يتصور وقوع هذا النوع من الزواج والرضا به من طرف الفجار والمشركين وحدهم.
{الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} لأن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي أحد الزوجين على الآخر، والزاني فيه خسة، فلا يليق به إلا خسيسة مثله يعني: زانية، أو أخس وهي المشركة، لأن الشرك أخس من الزنا، لأن الزنا مخالفة أمر توجيهي من الله، أما الشرك فهو كفر بالله، لذلك فالمشركة أخبث من الزانية. وما نقوله في زواج الزاني نقوله في زواج الزانية {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} وهنا يعترض البعض: كيف إن كانت الزانية مسلمة: أينكحها مشرك؟ قالوا: التقابل هنا غرضه التهويل والتفظيع فقط لا الإباحة، لأن المسلمة لا يجوز أن تتزوج مشركا أبدا، فالآية توبيخ لها: يا خسيسة، لا يليق بك إلا خسيس مثلك أو أخس. وأرى أن النص محتمل لانفكاك الجهة، لأن التي زنت تدور بين أمرين: إما أنها أقبلت على الزنا وهي تعلم أنه محرم، فتكون عاصية باقية على إسلامها، أو أنها ردت حكم الزنا واعترضت عليه فتكون مشركة، وفي هذه الحالة يستقيم لنا فهم الآية.
ثم يقول تعالى: {وحرم ذلك على المؤمنين} فهذا سبب طهر الأنسال أن يحرم الله تعالى الزنا، فيأتي الخليفة طاهر النسل والعنصر، محضونا بأب وأم، مضموما بدفء العائلة، لا يتحملون عليه نسمة الهواء، لأنه جاء من وعاء طيب طاهر نظيف.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}. هذه الجملة خبرية تتحدث عن انتفاء إقامة علاقة بين الزاني وغير الزانية والمشركة، فلا علاقة للزاني بالمسلمة العفيفة.. {وَالزَّانِيَةُ لاَ ينكحها إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فلا علاقة بينها وبين غير هذين، {وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فليس للمؤمن أن يتزوج الزانية، وليس للمؤمنة أن تتزوج الزاني، لأن ذلك محرّم على كلٍّ منهما. هذا هو التفسير الحرفي للآية، ولكن هناك أكثر من علامة استفهام حول التفاصيل، فيما هو الطابع المعنوي لمفرداتها ولمجملها.. وهناك أكثر من رأيٍ في هذا المجال. أولها: إن الآية واردة في الحديث عن طبيعة الظاهرة العامة التي تتمثل في أن العلاقات بين الناس، لا سيما الزوجية منها، تقوم على التماثل في الأخلاق والأعمال، لأن المشاكلة تنتج الألفة، وهي تنتج العلاقة، كما قال الشاعر: «كل شكل لشكله ألِفٌ..»، فيكون المعنى أن الزاني الذي لا يراعي قواعد العفّة والطهارة في حياته على مستوى العلاقات، ولا يؤمن بالضوابط الإيمانية التي تقضي بالامتناع عن ممارسة الجنس غير المشروع، لا يميل إلى المرأة المؤمنة العفيفة الطاهرة التي تتبنى الإيمان قاعدةً لسلوكها بما يستلزمه من عفّة، لأنها ترفض كل سلوك الزاني، بل يميل إلى المرأة الزانية التي تتفق معه على قيم الانحراف والحرية في ممارسة الجنس غير المشروع، بعيداً عن القواعد الشرعية، أو إلى المرأة المشركة التي لا تنطلق من قاعدة الإيمان التي ترفض الزنى كله، ولذلك فإن المسألة لا تثير لديها تجاه سلوكه أيّ موقف سلبيٍّ من ناحية المبدأ، ما يجعل الانسجام قائماً بين الزاني والزانية على أساس قوي.. وهكذا الزانية بالنسبة إلى الزاني أو المشرك، لأن لديهما خطاً وجوّاً نفسياً وموقفاً واحداً. وبذلك تكون الآية في صدد الحديث عن التناسب الطبيعي الذي يقود إلى التوافق العملي، كظاهرة موجودة لدى الأعم الأغلب من الناس، كما قيل في تفسير قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26].
ثانيها: إن الآية واردة في مجال التأكيد على أن شأن الزاني وطبيعة موقعه المنخفض أخلاقياً وروحياً، أن لا يتزوج إلا الزانية أو المشركة، لأنها هي التي تليق بانحطاط مستواه، من خلال انحطاط مستواها، بسبب ما تمارسه من الزنى، أو ما تعتقده من شرك بالله، لأن المرأة المؤمنة لا يمكن أن تنحدر إلى موقعه المنحطّ.. وكذا حال الزانية بالنسبة إلى الزاني والمشرك، فتكون الآية في صدد الإيحاء بما يمثله الزنى من حالة انحطاط روحيٍّ وأخلاقي، يمنع صاحبه من إقامة علاقة بين الزاني وبين الناس المؤمنين الطاهرين، لأنه لن يصل إلى مستواهم الإنساني الرفيع..