تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (3)

3 - الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .

سبب نزول الآية :

وردت روايات عدة في سبب نزول هذه الآية ، ولا يبعد أن يكون هناك أكثر من سبب لنزول الآية ، فقد ذكر العلماء أنه إذا تعددت أسباب النزول ، وفيها الصحيح والضعيف ، أخذنا بالصحيح وتركنا الضعيف .

وإذا تعددت أسباب النزول وكلها صحيح ، وأمكن الجمع بينها لتقارب حدوثها ، حملنا ذلك على تعدد السبب والنازل واحد ، وهذه ثلاث روايات في سبب نزول الآية :

1 . روى الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، عن عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال :

كان رجل يقال له : مرثد بن أبي مرثد الغنوى ، وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بغى بمكة ، يقال لها : عناق ، وكانت صديقة له في الجاهلية ، وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إلي عرفتني ، فقالت : مرثد ؟ فقلت : ثريد . فقالت : مرحبا وأهلا ، هلم فبت عندنا الليلة ، فقلت : يا عناق حرم الله الزنا ، فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم . قال : فتبعني ثمانية ، ودخلت الحديقة فانتهيت إلى غار ، أو كهف ، فدخلت فيه ، فجاءوا حتى أقاموا على رأسي ، فبالوا فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم الله عني ، ثم رجعوا ، فرجعت إلى صاحبي ، فحملته وكان رجلا ثقيلا ، حتى انتهيت إلى الأذخر ، ففككت عنه أحبله ، فجعلت أحمله ويعينني ، حتى أتيت به المدينة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله : أنكح عناقا ؟ أنكح عناقا ؟ مرتين ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرد علي شيئا : حتى نزل : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . . . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يا مرثد ، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فلا تنكحها )40 .

2 . وروى النسائي ، وأحمد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال :

كانت امرأة يقال لها : أم مهزول ، وكانت تسافح – أي : تحترف البغاء – فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوجها ، واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله – عز وجل – هذه الآية41 .

3 . روي أنها نزلت في جماعة من فقراء المهاجرين ، استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء ، اللاتي كن بالمدينة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية42 .

الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . . .

وللمفسرين في معنى هذه الآية أقوال شتى :

1- قال النسفي :

الخبيث الذي من شأنه الزنا ، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء ، وإنما يرغب في خبيثة من شكله ، أو في مشركة .

والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين ، فالآية تزهيد في نكاح البغايا ، إذ الزنا عديل الشرك في القبح ، والإيمان قرين العفاف والتحصين ، وهو نظير قوله : الخبيثات للخبيثين . ( النور : 26 ) .

2 - وقيل :

إن الكلام نهي جيء به في صورة الخبر للمبالغة ، ويؤيده قراءة عمر بن عبيد : لا ينكح . بالجزم ، ويكون التحريم على ظاهره ، والإشارة إلى النكاح المفهوم من الفعل ، وكان الحكم كذلك في صدر الإسلام ثم نسخ ، قال سعيد بن المسيب : كان الحكم عاما في الزناة ألا يتزوج أحدهم إلا زانية ، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك يقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم . . . ( النور : 32 ) . والزانية من أيامى المسلمين ، وبهذا القول قال مجاهد ، والشافعي ، والجبائي ، وغيرهم43 .

قال ابن عمر : دخلت الزانية في أيامى المسلمين . وقال أبو جعفر النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء44 .

3 – ذهب الإمام أحمد إلى أن زواج الزاني المعروف بالفسوق باطل غير صحيح ، ولا يجوز نكاحه حتى يتوب ، وقد رجح ابن تيمية رأى الإمام أحمد .

وقال ابن تيمية : يدل قوله تعالى : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . على أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة ، وأن ذلك حرام على المؤمنين ، وليس هذا لمجرد كونه فاجرا ، بل لخصوص كونه زانيا ، وكذلك في المرأة ليس لمجرد فجورها بل لخصوص زناها ، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانيا ، كما جعل الرجل زانيا إذا تزوج زانية ، هذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنا ، وإذا كانا مشركين فينبغي أن يعلم ذلك ، ومضمونه أن الرجل الزاني لا يجوز نكاحه حتى يتوب ، وذلك بأن يوافق اشتراطه الإحصان ، والمرأة إذا كانت زانية لا تحصن فرجها عن غير زوجها ، بل يأتيها هو وغيره ، وإذا كان الزوج زانيا هو وغيره يشتركون في وطئها كما يشترك الزناة في المرأة الواحدة ، ولهذا يجب عليه نفي الولد الذي ليس منه ، فمن نكح زانية فهو زان ، أي تزوجها ، ومن نكحت زانيا فهي زانية ، أي تزوجته ، فإن كثيرا من الزناة قصروا أنفسهم على الزواني ، فتكون المرأة خدنا وخليلا له لا يأتي غيرها ، فالرجل إذا كان زانيا لا يعف امرأته ، وإذا لم يعفها تشوقت هي إلى غيره فزنت به ، كما هو الغالب على نساء الزواني ، أو من يلوط بالصبيان ، فإن نساءه يزنين ليقضين أربهن ووطرهن ، ويراغمن أزواجهن بذلك ، حيث لم يعفوا أنفسهم عن غير أزواجهم ، فهن أيضا لم يعففن أنفسهن عن غير أزواجهن ، ولهذا يقال : ( عفوا تعف نساؤكم وأبناؤكم ، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم ) وكما تدين تدان .

ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها ، فإن الرجل إذا رضى أن ينكح زانية ، رضى أن تزني امرأته ، والله تعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة ، فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر ، فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيا ؛ فقد رضيت عمله ، وكذلك إن رضى الرجل أن ينكح زانية ؛ فقد رضى عملها ، ومن رضى الزنا كان بمنزلة الزاني ، فإن أصل الفعل هو الإرادة ، ولهذا جاء في الأثر : ( من غاب عن معصية فرضيها ؛ كان كمن شهدها أو فعلها ) .

وفي الحديث : ( المرء على دين خليله )45 وأعظم الخلة خلة الزوجين46 .

وفي الغالب أن الرجل لا يزني بغير امرأته إلا إذا أعجبه ذلك الغير ، فلا يزال يزني بمن يعجبه ، وتبقى امرأته بمنزلة المعلقة ، التي لا هي أيم ولا ذات زوج ، فيدعوها بذلك إلى الزنا ، ويكون الباعث لها على ذلك مقابلة زوجها على وجه القصاص ، مكايدة له ومغايظة ، فإنه لم يحفظ غيبتها لم تحفظ غيبته ، ولها في بضعه حق ، كما له في بضعها حق ، فإن كان من العادين ، لخروجه عما أباح الله لم يكن أحصن نفسه ، وأيضا فإن داعية الزنا تشتغل بمن يختاره من البغايا ، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة ، ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة ، فتكون عنده كالزانية المتخذة خدنا ، وهذه معان شريفة لا ينبغي إهمالها47 .

4 – جاء في تفسير القرطبي ما يأتي :

روى أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي كر – رضي الله عنه – فجلدهما مائة جلدة ، ثم زوج أحدهما من الآخر ، ونفاهما سنة ، وروى مثل ذلك عن عمر ، وابن مسعود ، وجابر – رضي الله عنهم – وقال ابن عباس : أوله سفاح وآخره نكاح . ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة ، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة ، فما سرق حرام وما اشترى حلال ، وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة ورأوا أن الماء لا حرمة له48 .

وروي عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال : إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك ؛ فهما زانيان أبدا ، وبهذا أخذ مالك – رضي الله عنه – فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ، لأن النكاح له حرمة ، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح ، فيختلط الحرام بالحلال ، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة49 .

5 – بدأت الآية هنا بالحديث عن الزاني ، وفي الآية السابقة بدأت بالحديث عن الزانية .

لأن الآية الثانية من سورة النور تتكلم عن حد الزناة ، والزنا من المرأة أشنع ، لما يترتب عليه من اختلاط الأنساب وغيره ، فقال : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مائَةَ جَلْدَةٍ . . .

أما الآية الثالثة فتتحدث عن الزواج ، والرجل فيه هو الأصل ، لأن إبداء الرغبة والتماس النكاح بالخطبة ، إنما يكون من الرجل لا من المرأة في مجرى العرف والعادة ، فبدأت الآية بالزاني لا بالزانية ، حيث قالت : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .

6 – قال أبو الأعلى المودودي :

ومقصود الآية أن الفجار الذين يظهرون فجورهم ويعلنون خلاعتهم في المجتمع ، ليس الميل إليهم والاتصال بهم بصلة النكاح ، إلا ذنبا يجب أن يجتنبه أهل الإيمان ، لأن ذلك مما يشجع الفجار ، إذ إن الشريعة تريد أن تجعلهم في المجتمع عنصرا قبيحا يعافه الناس ، وكذلك ليس معنى الآية أن نكاح الزاني المسلم لامرأة مشركة ، أو نكاح الزانية المسلمة لرجل مشرك ، صحيح ، وإنما معنى الآية : أن الزنا فعل شنيع ، إذا ارتكبه أحد مع كونه مسلما ، لا يجدر بأن يرتبط بالصالحين الأعفاء ، من أفراد المجتمع ، بل عليه أن يرتبط إما بأمثاله من الزناة والفجار ، أو بالمشركين الذين لا يعتقدون أصلا بالأحكام الإلهية50 .