فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (3)

ثم ذكر سبحانه شيئا يختص بالزاني والزانية فقال :

{ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة ، ً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } يعني أن الغالب أن المائل إلى الزنا لا يغرب في نكاح الصوالح ، والثانية لا يرغب فيها الصلحاء ، فإن المشاكلة علة الألفة والتضام ، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال :

الأول : أن المقصود منها تشنيع الزنا وتشنيع أهله ، وأنه محرم على المؤمنين ، ويكون معنى { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَة } الوطء لا العقد ، أي الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني الا بزان ، وزاد ذكر المشركة والمشرك ، لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا .

ورد هذا الزجاج وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج ، ويرد هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه .

ومنه قول : { حتى تنكح زوجا غيره } فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأن المراد به الوطء . ومن جملة القائلين بأن معنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ، كما حكاه ابن جرير عنهم وعن ابن عباس قال : ليس هذا بالنكاح ولكن الجماع ، لا يزني بها حين إلا زان أو مشرك .

الثاني : أن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة فتكون خاصة بها ، كما قال الخطابي عن ابن عمرو ، قال : كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح وتشترط أن ينفق عليها ، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله هذه الآية ، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم .

الثالث : أنها نزلت في رجل من المسلمين فتكون خاصة به ، قاله مجاهد . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ؛ وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وذكر قصة فيها فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عنقا ؟ فلم يرد علي شيئا . حتى نزلت { الزاني لا ينكح إلا زانية } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا مرثد ، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فلا تنكحها{[1274]} ، أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم .

الرابع : أنها نزلت في أهل الصفة فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح .

الخامس : أن المراد بالزاني والزانية المحدودان . حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال : وهذا حكم من الله ، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة ، وروي نحوه عن إبراهيم النخعي ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي . قال ابن العربي : وهذا لا يصح نظرا ، كما لا يثبت نقلا .

السادس : أن هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه : { وأنكحوا الأيامى منكم } قال النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء ، والسابع أن هذه الحكم مؤسس على الغالب العام ، والمعنى أن غالب الزناة لا يرغب إلا في الزواج بزانية مثله ، وغالب الزواني لا يرغبن الا في الزواج بزان مثلهن . قال الكرخي : إن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما يرغب في نكاح فاسقة مثله أو في مشركة ؛ والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح بل تنفر عنه ، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين ، فهذا على الأعم الأغلب ، كما يقال : لا يفعل الخير إلا الرجل التقي ، وقد يفعل الخير من ليس بتقي ، فكذا ههنا والفرق بين قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } وقوله ، { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } أن الكلام يدل على أن الزاني لا يرغب الا في نكاح الزانية بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني ؛ فلا جرم بين ذلك بالكلام الثاني ، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا ، وهذا أرجح الأقوال ، وسبب النزول يشهد له كما تقدم .

وعن شعبة مولى ابن عباس قال : " كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال : إني كنت أتبع امرأة فأصبحت منها ما حرم الله علي ، وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها فقال الناس : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } فقال ابن عباس : ليس هذا موضع هذه الآية ، إنها كن نساء بغايا متعاليات ، يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس ، يعرفن بذلك ، فأنزل الله هذه الآية . تزوجها فما كان من اثم فعلي .

وعن أبي هريرة قال ، رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " أخرجه أبو داود وابن المنذر والحاكم وابن أبي حاتم وغيرهم{[1275]} . وعن علي أن رجلا تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد ، فجاؤوا به إلى علي ففرق بينه وبين امرأته ، وقال : لا تتزوج إلا مجلودة مثلك .

وعن مجاهد قال : " كن نساء في الجاهلية بغيات ، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل ، فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين . وهو مرسل .

وعن ابن عباس أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات فحرم الله نكاحهن على المؤمنين . وعنه قال كانت بغايا في الجاهلية ، بغايا آل فلان وبغايا آل فلان فقال الله : { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً } فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين ، وعن الضحاك قال : إنما عني بذلك الزنا ولم يعن به التزويج .

وعن ابن عباس في هذه الآية قال : " الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة ، أو مشركة من غير أهل القبلة ، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة ، أو مشرك من غير أهل القبلة ، وحرم الزنا على المؤمنين .

وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها ؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك ، وروي عن ابن عباس وعمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز ، قال ابن مسعود : " إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا وبه قال مالك .

{ وَحُرِّمَ ذَلِكَ } أي الزنا أو نكاح الزواني لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب والتسبب لسوء المقالة وغير ذلك من المفاسد ، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة البغايا والقحاب وقيل هو مكروه فقط ، وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر .

{ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الأخيار الأبرار فعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها ، وقدمت الزانية على الزاني أولا ثم قدم عليها ثانيا ، لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية ، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلا في ذلك بدئ بذكرها . وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الخاطب ومنه بدئ الطلب .


[1274]:أبو داود كتاب النكاح 4
[1275]:أبو داود كتاب النكاح باب 4 الإمام أحمد 2/324