تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

{ رُدُّوهَا عَلَيَّ } فردوها { فَطَفِقَ } فيها { مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } أي : جعل يعقرها بسيفه ، في سوقها وأعناقها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

17

والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة . وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان . . كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما . فهي إما إسرائيليات منكرة ، وإما تأويلات لا سند لها . ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي ، فأصوره هنا وأحكيه . ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح . صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة . هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً . ونصه : قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون . . وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق . ولكن هذا مجرد احتمال . . أما قصة الخيل فقيل : إن سليمان - عليه السلام - استعرض خيلاً له بالعشي . ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب . فقال ردوها عليّ . فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه . ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله . . وكلتا الروايتين لا دليل عليها . ويصعب الجزم بشيء عنها .

ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن .

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان - عليه السلام - في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل . وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع ، وطلب المغفرة ؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

وقوله : ( رُدّوها عَليّ ) يقول : ردّوا عليّ الخيل التي عرضت عليّ ، فشغلتني عن الصلاة ، فكّروها عليّ ، كما : حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( رُدّوها عَليّ ) قال : الخيل .

وقوله : ( فَطَفِقَ مَسْحا بالسّوقِ والأعْناقِ ) يقول : فجعل يمسح منها السوق ، وهي جمع الساق ، والأعناق .

واختلف أهل التأويل في معنى مسح سليمان بسوق هذه الخيل الجياد وأعناقها ، فقال بعضهم : معنى ذلك أنه عقرها وضرب أعناقها ، من قولهم : مَسَحَ علاوته : إذا ضرب عنقه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فَطَفِقَ مَسْحا بالسّوقِ والأعْناقِ ) قال : قال الحسن : قال لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك ، قال قولهما فيه ، يعني قتادة والحسن قال : فَكَسف عراقيبها ، وضرب أعناقها .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( فَطَفِقَ مَسْحا بالسّوق والأعْناقِ ) فضرب سوقها وأعناقها .

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : أمر بها فعُقرت .

وقال آخرون : بل جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حُبّا لها . ذكر من قال ذلك : حدثني على ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَطَفِقَ مَسْحا بالسّوقِ والأعْناقِ ) يقول : جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها : حبا لها .

وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الاَية ، لأن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إن شاء الله ليعذّب حيوانا بالعرقبة ، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب ، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر أليها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

{ ردوها علي } الضمير ل { الصافنات } . { فطفق مسحا } فأخذ بمسح السيف مسحا . { بالسوق والأعناق } أي بسوقها وأعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه ، وقيل جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبالها ، وعن ابن كثير " بالسؤق " على همز الواو لضمة ما قبلها كمؤقن ، وعن أبي عمرو " بالسؤوق " وقرئ " بالساق " اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الإلباس .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

{ ردوها علي } فطفق يمسح أعناقها وسوقها محبة لها ، وذكر الثعلبي أن هذا المسح إنما كان وسماً في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله . وجمهور الناس على أنها كانت خيلاً موروثة . قال بعضهم : قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس ، فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد اليوم من الخيل ، وهذا بعيد . وقالت فرقة : كانت خيلاً أخرجتها الشياطين له من البحر وكانت ذوات أجنحة . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كانت عشرين فرساً . و { طفق } معناه : دام يقتل ، كما تقول : جعل يفعل .

وقرأ جمهور الناس : «بالسوْق » بسكون الواو وهو جمع ساق . وقرأ ابن كثير وحده : «السؤق » بالهمز . قال أبو علي : وهي ضعيفة ، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو قدر أنها عليها فهمزت كما يفعلون بالواو المضمومة ، وهذا نظير إمالتهم ألف «مقلات » من حيث وليت الكسرة القاف ، قدروا أن القاف هي المكسورة ، ووجه همزة السوق من السماع أن إباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة ، وكان ينشد :

لحب الموقدين إليَّ موسى*** . . . . . . . . . . . . .

وقرأ ابن محيصن : «بالسؤوق » بهمزة بعدها الواو .

وقوله تعالى : { عن ذكر ربي } فإن { عن } على كل تأويل هنا للمجاورة من شيء إلى شيء ، وتدبره فإنه مطرد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

والخطاب في قوله : { رُدّوها عليَّ } لسواس خيله . والضمير المنصوب عائد إلى الخيل بالقرينة ، أي أرجعوا الخيل إليّ ، وقيل : هو عائد إلى الشمس والخطاب للملائكة ، وهذا في غاية البعد ولولا كثرة ذكره في كتب المفسرين لكان الأولى بنا عدم التعرض له . وأحسن منه على هذا الاعتبار في معاد ضمير الغيبة أن يكون الأمر مستعملاً في التعجيز ، أي هل تستطيعون أن تردوا الشمس بعد غروبها ، كقول مهلهل :

يَا لَبَكْر انشروا لي كليبا

وقول الحارث الضبي أحد أصحاب الجمل :

رُدوا علينا شيخَنا ثم بَجل

يريد : عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فلا استبعاد في هذا المحمل . والفاء في قوله : { فَطَفِقَ } تعقيبية ، وطفق من أفعال الشروع ، أي فشرع .

و { مَسْحاً } مصدر أقيم مقام الفعل ، أي طفق يمسح مَسحاً . وحرف التعريف في { بالسُّوققِ والأعناقِ } عوض عن المضاف إليه ، أي بسوقها وأعناقها كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] . والمسح حقيقته : إمرار اليد على الشيء لإِزالة ما عليه من غبش أو ماء أو غبار وغير ذلك مما لا يراد بقاؤه على الشيء ويكون باليد وبخرقة أو ثوب ، وقد يطلق المسح مجازاً على معان منها : الضرب بالسيف يقال : مسحه بالسيف . ويقال : مسحَ السيفَ به . ولعل أصله كناية عن القتل بالسيف لأن السيف يمسح عنه الدم بعد الضرب به .

والسُّوق : جمع ساق . وقرأه الجمهور بواو ساكنة وبوزن فُعْل مثل : دار ودُور ، ووزن فُعل في جمع مثلِه قليل . وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو جعفر « السُّؤق » بهمزة ساكنة بعد السين جمع : سأق بهمزة بعد السين وهي لغة في ساق .

و { الأعناق } : جمع عنق وهو الرقبة . والباء في { بالسُّوقِ } مزيدة للتأكيد ، أي تأكيد اتصال الفعل بمفعوله كالتي في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وفي قول النابغة :

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا *** وأصبح جد الناس يضلع عاثرا

وقد تردد المفسرون في المعنى الذي عنى بقوله : { فَطَفِق مسْحَاً بالسُّوقِ والأعناقِ } . فعن ابن عباس والزهري وابن كيسان وقطرب : طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حُبًّا لها . وهذا هو الجاري على المناسب لمقام نبيءٍ والأوفق بحقيقة المسح ولكنه يقتضي إجراء ترتيب الجمل على خلاف مقتضى الظاهر بأن يكون قوله : { رُدُّوهَا عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } متصلاً بقوله : { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات } أي بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مذاودها قال : { ردُّوها عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناقِ } إكراماً لها ولحبها .

ويجعل قوله : { فقَالَ إني أحببتُ حبَّ الخيرِ عن ذِكرِ ربي حتى توارتْ بالحجابِ } معترضاً بينهما ، وإنما قدم للتعجيل بذكر ندمه على تفريطه في ذكر الله في بعض أوقات ذكره ، أي أنه لم يستغرق في الذهول بل بادر الذكرى بمجرد فوات وقت الذكر الذي اعتاده ، إذ لا يناسب أن يكون قوله : { ردوها عليَّ فطفِقَ } الخ من آثار ندمه وتحسّره على هذا التفسير ، وهذا يفيد أن فوات وقت ذكره نشأ عن ذلك الرد الذي أمر به بقوله : { ردُّها عليَّ } فإنهم اعتادوا أن يعرضوها عليه وينصرفوا وقد بَقي ما يكفي من الوقت للذكر فلما حملته بهجته بها على أن أمر بإرجاعها واشتغل بمسح أعناقها وسُوقها خرج وقت ذكره فتندّم وتحسّر .

وعن الحسن وقتادة ومالك بن أنس في رواية ابننِ وَهب والفراء وثعلب : أن سليمان لما ندِم على اشتغاله بالخيل حتى أضاع ذكر الله في وقت كان يذكر الله فيه أمر أن تُردّ عليه الخيل التي شغلتْه فجعل يعرقب سوقها ويقطع أعناقها لحرمان نفسه منها مع محبته إياها توبة منه وتربية لنفسه . واستشعروا أن هذا فساد في الأرض وإضاعة للمال فأجابوا : بأنه أراد ذبحها ليأكلها الفقراء لأن أكل الخيل مباح عندهم وبذلك لم يكن ذبحها فساداً في الأرض .

وتجنّب بعضهم هذا الوجه وجعل المسح مستعاراً للتوسيم بسمة الخيل الموقوفة في سبيل الله بكي نار أو كَشط جلد لأن ذلك يزيل الجلدة الرقيقة التي على ظاهر الجلد ، فشبهت تلك الإِزالة بإِزالة المَسح ما على ظهر الممسوح من ملتصق به ، وهذا أسلم عن الاعتراض من القول الأول وهو معزو لبعض المفسرين في « أحكام القرآن » لابن العربي . وقال ابن العربي : إنه وَهَم . وهذه طريقة جليلة من طرائق تربية النفس ومظاهر كمال التوبة بالنسبة إلى ما كان سبباً في الهفوة .

وعلى هذين التأويلين يكون قوله : { فطفق } تعقيباً على { ردُّوها عليَّ } وعلى محذوف بعده . والتقدير : فردُّوها عليه فطفق ، كقوله : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] . ويكون قوله : { ردوها عليَّ } من مقول : { فقال إني أحببت حبَّ الخير .