{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أي : مهلكها ، غما وأسفا عليهم ، وذلك أن أجرك قد وجب على الله ، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم ، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار ، فلذلك خذلهم ، فلم يهتدوا ، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم ، ليس فيه فائدة لك . وفي هذه الآية ونحوها عبرة ، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله ، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية ، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه ، مع التوكل على الله في ذلك ، فإن اهتدوا فبها ونعمت ، وإلا فلا يحزن ولا يأسف ، فإن ذلك مضعف للنفس ، هادم للقوى ، ليس فيه فائدة ، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه ، وما عدا ذلك ، فهو خارج عن قدرته ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له : { إنك لا تهدي من أحببت } وموسى عليه السلام يقول : { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } الآية ، فمن عداهم من باب أولى وأحرى ، قال تعالى : { فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر }
وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول [ ص ] الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى ، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم [ ص ] أنه مود بهم إلى الهلاك . . فيما يشبه الإنكار يقول للرسول [ ص ] :
( فلعلك باخع نفسك على آثارهم . إن لم يؤمنوا بهذا الحديث . أسفا ) !
أي فلعلك قاتل نفسك أسفا وحزنا عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن . وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَىَ آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهََذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } .
يعني تعالى ذكره بذلك : فلعلك يا محمد قاتلُ نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا لك لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا تمرّدا منهم على ربهم ، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته عليك فيصدّقوا بأنه من عند الله حزنا وتلهفا ووجدا ، بإدبارهم عنك ، وإعراضهم عما أتيتهم به وتركهم الإيمان بك . يقال منه : بخع فلان نفسه يبخعها بَخْعا وبخوعا ومنه قول ذي الرّمة :
ألا أيّهَذَا الباخِعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ *** لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقادِرُ
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : باخِعٌ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلَعَلّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ يقول : قاتل نفسك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر ، عن قتادة ، مثله .
وأما قوله : أسَفا فإنّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث غضبا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفا قال : غضبا .
وقال آخرون : جَزَعا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله أسَفا قال : جزَعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معناه : حزنا عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : أسَفا قال : حزنا عليهم .
وقد بيّنا معنى الأسف فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وهذه معاتبة من الله عزّ ذكره على وجده بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم إليه من الإيمان بالله ، والبراءة من الاَلهة والأنداد ، وكان بهم رحيما .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فَلَعَلّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أسَفا يعاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم : أي لا تفعل .
{ فلعلّك باخع نفسك } قاتلها . { على آثارهم } إذا ولوا عن الإيمان ، لما يداخله من الوجد على توليهم بمن فارقته أعزته فهو يتحسر على آثارهم ويبخع نفسك وجدا عليهم . وقرئ { باخع نفسك } على الإضافة . { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } بهذا القرآن . { أسفا } للتأسف عليهم أو متأسفا عليهم ، والأسف فرط الحزن والغضب . وقرئ " أن " بالفتح على لأن فلا يجوز أعمال " باخع " إلا إذا جعل حكاية حال ماضية .
هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام ، وقوله { فلعلك } تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك ، و «الباخع نفسه » هو مهلكها وجداً وحزناً على أمر ما ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه . . . لشيء نحته عن يديه المقادر{[7743]}
يريد نحته فخفف وقوله { على آثارهم } ، استعارة فصيحة ، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان ، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم ، وقوله { بهذا الحديث } أي بالقرآن الذي يحدثك به ، و { أسفاً } نصب على المصدر ، قال الزجاج : و «الأسف » المبالغة في حزن أو غضب .
قال القاضي أبو محمد : و «الأسف » في هذا الموضع الحزن ، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضباً ، كقوله تعالى : { فلما آسفونا }{[7744]} [ الزخرف : 55 ] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد ، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة : هنا { أسفاً } غضباً ، قال مجاهد { أسفاً } جزعاً وقال قتادة أيضاً : حزناً ، ومن هذه اللفظة قول الأعشى : [ الطويل ]
أرى رجلاً منكم أسيفاً كأنما . . . يضم إلى كشحيه كفّاً مخضبا{[7745]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.