{ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
أي : { إن تبدوا الصدقات } فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله { فنعما هي } أي : فنعم الشيء { هي } لحصول المقصود بها { وإن تخفوها } أي : تسروها { وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية ، وأما إذا لم تؤت الصدقات الفقراء فمفهوم الآية أن السر ليس خيرا من العلانية ، فيرجع في ذلك إلى المصلحة ، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه ، فهو أفضل من الإسرار ، ودل قوله : { وتؤتوها الفقراء } على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين ، ولا يعطي محتاجا وغيره أحوج منه ، ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك حصول الثواب قال : { ويكفر عنكم من سيئاتكم } ففيه دفع العقاب { والله بما تعملون خبير } من خير وشر ، قليل وكثير والمقصود من ذلك المجازاة .
وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعا أولى وأحب إلى الله ؛ وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء . فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة ، وفشو هذا المعنى وظهوره خير . . ومن ثم تقول الآية :
( إن تبدوا الصدقات فنعما هي . وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) . . فتشمل هاتين الحالتين وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف ؛ وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها ؛ وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات :
وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب ، والطمأنينة والراحة من جانب آخر ، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال :
ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق ؛ وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده ؛ لندرك أمرين :
الأول : بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال ، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح ، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس . والثاني : ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم . . ولكنه كان سخاء وكرما يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام ! ولم يكن أمرا ميسورا أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله ، متجردين من هذا كله ، متجهين لله وحده دون الناس . وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة ، والجهد الكثير ، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص ! . . وقد كان . .
{ إِن تُبْدُواْ الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
يعني بقوله جل ثناؤه إنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه ، فَنِعِمّا هِيَ يقول : فنعم الشيء هي . وَإِنْ تُخْفُوها يقول : وإن تستروها فلم تلعنوها وتؤتوها الفُقَرَاءَ يعني : وتعطوها الفقراء في السرّ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها . وذلك في صدقة التطوّع . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ كل مقبول إذا كانت النية صادقة ، وصدقة السرّ أفضل . وذكر لنا أن الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماءُ النارَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : كلَ مقبول إذا كانت النية صادقة ، والصدقة في السر أفضل . وكان يقول : إن الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماءُ النارَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فجعل الله صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً ، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها .
حدثني عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : يقول : هو سوى الزكاة .
وقال آخرون : إنما عنى الله عزّ وجل بقوله : إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي ، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم . قالوا : وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوّع فاخفاؤه أفضل من علانيته . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبد الرحمن بن شريح ، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول : إنما نزلت هذه الآية : إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ في الصدقة على اليهود والنصارى .
حدثني عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : أخبرنا عبد الله بن عثمان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، قال : كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السرّ ، قال عبد الله : أحبّ أن تعطى في العلانية ، يعني الزكاة .
ولم يخصص الله من قوله : إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة ، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة ، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ .
اختلف القراء في قراءة ذلك . فرُوي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه : «وتُكَفّرُ عَنْكُمْ » بالتاء . ومن قرأه كذلك . فإنه يعني به : وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم . وقرأ آخرون : وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ بالياء بمعنى : ويكفر الله عنكم بصدقاتكم على ما ذكر في الآية من سيئاتكم . وقرأ ذلك بعد عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة : «وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ » بالنون وجزم الحرف ، يعني : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم ، بمعنى : مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها .
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ : «وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ » بالنون وجزم الحرف ، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوّع ابتغاء وجهه من صدقته بتكفير سيئاته . وإذا قرىء كذلك فهو مجزوم على موضع الفاء في قوله : فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن الفاء هنالك حلت محلّ جواب الجزاء .
فإن قال لنا قائل : وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع الفاء ، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء ، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع ، وإنما الجزم تجويز ؟ قيل : اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير ، أعني تكفير الله من سيئات المصدّق لا محالة داخل فيما وعد الله المصدّق أن يجازيه به على صدقته ، لأن ذلك إذا جزم مؤذن بما قلنا لا محالة ، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلاً فيما وعده الله أن يجازيه به ، وأن يكون خبراً مستأنفاً أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم ، لأن ما بعد الفاء في جواب الجزاء استئناف ، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه في أنه غير داخل في الجزاء ، ولذلك من العلة اخترنا جزم نكفر عطفاً به على موضع الفاء من قوله : فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وقراءته بالنون .
فإن قال قائل : وما وجه دخول «مِنْ » في قوله : وَنُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ ؟ قيل : وجه دخولها في ذلك بمعنى : ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها ، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدّق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه .
وقال بعض نحويي البصرة : معنى «مِنْ » الإسقاط من هذا الموضع ، ويتأوّل معنى ذلك : ونكفر عنكم سيئاتكم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .
يعني بذلك جل ثناؤه : والله بما تعملون في صدقاتكم من إخفائها وإعلان وإسرار بها وإجهار ، وفي غير ذلك من أعمالكم . خَبِيرٌ يعني بذلك ذو خبرة وعلم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، فهو بجميعه محيط ، ولكله محص على أهله حتى يوفيهم ثواب جميعه وجزاء قليله وكثيره .
{ إن تبدوا الصدقات فنعما هي } فنعم شيئا إبداؤها . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل . وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وقالون بكسر النون وسكون العين ، وروي عنهم بكسر النون وإخفاء حركة العين وهو أقيس . { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء } أي تعطوها مع الإخفاء . { فهو خير لكم } فالإخفاء خير لكم ، وهذا في التطوع ولمن لم يعرف بالمال فإن إبداء الغرض لغيره أفضل لنفي التهمة عنه . عن ابن عباس رضي الله عنهما ( صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا ) . { ويكفر عنكم من سيئاتكم } قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالياء أي والله يكفر أو الإخفاء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب بالنون مرفوعا على أنه جملة فعلية مبتدأة أو إسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي : ونحن نكفر . وقرأ نافع وحمزة والكسائي به مجزوما على محل الفاء وما بعده . وقرئ بالتاء مرفوعا ومجزوما والفعل للصدقات . { والله بما تعملون خبير } ترغيب في الإسرار .
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 )
وقوله تعالى : { إن تبدوا الصدقات } الآية ، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع ، قال ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، يقال بسبعين ضعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرا يقال بخمسة وعشرين ضعفاً ، قال : وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها( {[2653]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة( {[2654]} ) ، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك ، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع ، وقال يزيد بن أبي حبيب : إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى ، وكان( {[2655]} ) يأمر بقسم الزكاة في السر ، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح ، فقد قال الطبري : أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل ، قال المهدوي : وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به ، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام ، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع ، قال أبو محمد : وهذا القول مخالف للآثار ، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض ، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء ، وقال النقاش : إن هذه الآية نسخها قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية }( {[2656]} ) [ البقرة : 274 ] ، وقوله : { فنعما هي } ثناء على إبداء الصدقة ، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء ، واختلف القراء في قوله { فنعما هي }( {[2657]} ) ، فقرأ نافع في غير رواية ورش ، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل » فنِعمّا «بكسر النون وسكون » فنِعِمّا «بكسر النون والعين ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي » فَنعِمّا «بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم ، قال أبو علي من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله ، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين ، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد ، إذ المد يصير عوضاً من الحركة ، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه ، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها( {[2658]} ) كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكاناً للطف ، ذلك في السمع وخفائه ، وأما من قرأ " نِعِمّا " بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة " نِعم " بكسر الفاء من أجل حرف الحلق ، ولا يجوز أن يكون ممن يقول " نعم " ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم ، لا يدغم ، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد( {[2659]} ) ، قال سيبويه : نِعِما بكسر النون والعين ليس على لغة من قال " نعم " فاسكن العين ، ولكن على لغة من قال " نعم " فحرك العين ، وحدثنا أبو الخطاب( {[2660]} ) أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال " نعْما " ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين ، قال أبو علي وأما من قرأ «نَعِمّا » بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر :
ما أقلّت قدماي أنهم . . . نَعِمَ الساعون في الأمر المبر( {[2661]} )
ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعْم » بسكون العين ، وقال المهدوي وذلك جائز محتمل وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين ، قال أبو علي ، وما من قوله { نعمّا } في موضع نصب ، وقوله { هي } تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير ، نعم شيئاً إبداؤها . والإبداء هو المخصوص بالمدح . إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويدلك على هذا قوله { فهو خير لكم } أي الإخفاء خير ، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات ، فكذلك أولاً الفاعل هو الإبداء ، وهو الذي اتصل به الضمير ، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه ، واختلف القراء في قوله تعالى : { ونكفر عنكم } فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر : «ونكفرُ » بالنون ورفع الراء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : «ونكفرْ » بالنون والجزم في الراء ، وروي مثل ذلك أيضاً عن عاصم ، وقرأ ابن عامر : «ويكفرُ » بالياء ورفع الراء ، وقرأ ابن عباس { وتكفر } بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء ، وقرأ عكرمة : { وتكفر } بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء ، وقرأ الحسن : «ويكفرْ » بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش أنه قرأ : { ويكفر } بالياء ونصب الراء ، وقال أبو حاتم : قرأ الأعمش : «يكفر » بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء ، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ : «وتكفرُ » بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء( {[2662]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة ، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة ، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات ، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر ، والإعطاء في خفاء هو المكفر ، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين : أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء ، وتقدير ونحن نكفر ، أو وهي تكفر ، أعني الصدقة ، أو والله يكفر ، والثاني : القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة ، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى : { فهو خير } إذ هو في موضع جزم جواباً للشرط ، كأنه قال : وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم ، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ :
{ من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم }( {[2663]} ) [ الأعراف : 186 ] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة ، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن » وتأمل( {[2664]} ) ، وقال المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام . والجزم في الراء أفصح هذه القراءات . لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء . وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى( {[2665]} ) ، و { من } في قوله : { من سيئاتكم } للتبعيض المحض( {[2666]} ) ، والمعنى في ذلك متمكن ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : { من } زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ ، وقوله : { والله بما تعملون خبير } وعد ووعيد .