{ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ } من المنافقين ، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم ، وصاروا أيضًا من المخذولين ، فلا صبروا بأنفسهم ، ولا تركوا الناس من شرهم ، فقالت هذه الطائفة : { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون { يا أهل المدينة } فنادوهم باسم الوطن المنبئ [ عن التسمية ]{[693]} فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية ، ليس له في قلوبهم قدر ، وأن الذي حملهم على ذلك ، مجرد الخور الطبيعي .
{ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ } أي : في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة ، وكانوا عسكروا دون الخندق ، وخارج المدينة ، { فَارْجِعُوا } إلى المدينة ، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد ، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم ، ويأمرونهم بترك القتال ، فهذه الطائفة ، شر الطوائف وأضرها ، وطائفة أخرى دونهم ، أصابهم الجبن والجزع ، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف ، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة ، وهم الذين قال اللّه فيهم : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي : عليها الخطر ، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء ، ونحن غُيَّبٌ عنها ، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها ، فنحرسها ، وهم كذبة في ذلك .
{ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ } أي : ما قصدهم { إِلَّا فِرَارًا } ولكن جعلوا هذا الكلام ، وسيلة وعذرًا . [ لهم ]{[694]} فهؤلاء قل إيمانهم ، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن .
( وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ) . .
فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف ، والعودة إلى بيوتهم ، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا ، لا موضع لها ولا محل ، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم . . وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها ، ثغرة الخوف على النساء والذراري . والخطر محدق والهول جامح ، والظنون لا تثبت ولا تستقر !
( ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة ) . .
يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو . متروكة بلا حماية .
وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة :
ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار :
وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقولون : ( إن بيوتنا عورة ) ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا . ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجعإلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا . فأذن لهم [ صلى الله عليه وسلم ] فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله لا تأذن لهم . إنا والله ما اصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا . . فردهم . .
فهكذا كان أولئك الذين يجبههم القرآن بأنهم : ( إن يريدون إلا فرارا ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُواْ بِهَآ إِلاّ يَسِيراً } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ وإذ قال بعضهم : يا أهل يثرب ، ويثرب : اسم أرض ، فيقال : إن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية من يثرب . وقوله : «لا مَقامَ لَكُمْ فارْجِعُوا » بفتح الميم من مقام . يقول : لا مكان لكم ، تقومون فيه ، كما قال الشاعر :
فأيّيّ ما وأَيّكَ كانَ شَرّا *** فَقيدَ إلى المَقامَةِ لا يَرَاها
قوله فارْجِعُوا يقول : فارجعوا إلى منازلكم أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرار منه ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن ذلك من قيل أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد ، بن رومان وَإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهْلَ يَثْرِبِ . . . إلى فِرَارا يقول : أوس بن قيظي ، ومن كان على ذلك من رأيه من قومه . والقراءة على فتح الميم من قوله : «لا مَقامَ لَكُمْ » بمعنى : لا موضع قيام لكم ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها . وذُكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك : لا مُقامَ لَكُمْ بضم الميم ، يعني : لا إقامة لكم .
وقوله : وَيَسْتأذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ يقول تعالى ذكره : ويستأذن بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله ، ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَسْتأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ . . . إلى قوله إلاّ فِرَارا قال : هم بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قال : نخشى عليها السرق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْتأذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بعَوْرَةٍ وإنها مما يلي العدوّ ، وإنا نخاف عليها السرّاق ، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلا يجد بها عدوّا ، قال الله : إنْ يُرِيدُونَ إلاّ فِرَارا يقول : إنما كان قولهم ذلك إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ إنما كان يريدون بذلك الفرار .
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا عبيد الله بن حمران ، قال : حدثنا عبد السلام بن شدّاد أبو طالوت عن أبيه في هذه الاَية إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ قال : ضائعة .
{ وإذ قالت طائفة منهم } يعني أوس بن قيظي وأتباعه . { يا أهل يثرب } أهل المدينة ، وقيل هو اسم ارض وقعت المدينة في ناحية منها . { لا مقام } لا موضع قيام . { لكم } ها هنا ، وقرأ حفص بالضم على انه مكان أو مصدر من أقام . { فارجعوا } إلى منازلكم هاربين ، وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا ، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفارا ليمكنكم المقام بها . { ويستأذن فريق منهم النبي } للرجوع . { يقولون أن بيوتنا عورة } غير حصينة وأصلها الخلل ، ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرئ بها . { وما هي بعورة } بل هي حصينة . { إن يريدون إلا فرارا } أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال .
هذه المقالة روي أن بني حارثة قالوها ، و { يثرب } قطر محدود ، المدينة في طرف منه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وحفص عن عاصم ومحمد اليماني والأعرج «لا مُقام لكم » بضم الميم ، والمعنى لا موضع إقامة ، وقرأ الباقون «لا مَقام » بفتح الميم بمعنى لا موضع قيام ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وأبي رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة ، والمعنى في حومة القتال وموضع الممانعة ، { فارجعوا } معناه إلى منازلكم وبيوتكم وكان هذا على جهة التخذيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والفريق المستأذن روي أن أوس بن قيظي استأذن في ذلك عن اتفاق من عشيرته فقال { إن بيوتنا عورة } أي : منكشفة للعدو ، وقيل أراد خالية للسراق ، ويقال أعور المنزل إذا انكشف ومنه قول الشاعر :
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا{[9470]} . . .
قال ابن عباس «الفريق » بنو حارثة ، وهم كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولون الأدبار ، وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء «عِورة » بكسر الواو فيهما وهو اسم فاعل ، قال أبو الفتح صحة الواو في هذه شاذة لأنها متحركة قبلها فتحة ، وقرأ الجمهور «عوْرة » ساكنة الواو على أنه مصدر وصف به ، و «البيت المعور » هو المنفرد المعرض لمن شاءه بسوء .