تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

{ 61 ْ } { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ }

يخبر تعالى عن منته على عباده ، وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ْ } أي : ليس على هؤلاء جناح ، في ترك الأمور الواجبة ، التي تتوقف على واحد منها ، وذلك كالجهاد ونحوه ، مما يتوقف على بصر الأعمى ، أو سلامة الأعرج ، أو صحة للمريض ، ولهذا المعنى العام الذي ذكرناه ، أطلق الكلام في ذلك ، ولم يقيد ، كما قيد قوله : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : حرج { أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } أي : بيوت أولادكم ، وهذا موافق للحديث الثابت : " أنت ومالك لأبيك " والحديث الآخر : " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم " وليس المراد من قوله : { مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } بيت الإنسان نفسه ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، الذي ينزه عنه كلام الله ، ولأنه نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم من هؤلاء المذكورين ، وأما بيت الإنسان نفسه فليس فيه أدنى توهم .

{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ْ } وهؤلاء معروفون ، { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ْ } أي : البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة ، أو ولاية ونحو ذلك ، وأما تفسيرها بالمملوك ، فليس بوجيه ، لوجهين : أحدهما : أن المملوك لا يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال : " ما ملكتموه " أو " ما ملكت أيمانكم " لأنهم مالكون له جملة ، لا لمفاتحه فقط .

والثاني : أن بيوت المماليك ، غير خارجة عن بيت الإنسان نفسه ، لأن المملوك وما ملكه لسيده ، فلا وجه لنفي الحرج عنه .

{ أَوْ صَدِيقِكُمْ ْ } وهذا الحرج المنفي عن الأكل{[572]}  من هذه البيوت كل ذلك ، إذا كان بدون إذن ، والحكمة فيه معلومة من السياق ، فإن هؤلاء المسمين{[573]}  قد جرت العادة والعرف ، بالمسامحة في الأكل منها ، لأجل القرابة القريبة ، أو التصرف التام ، أو الصداقة ، فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة والشح في الأكل المذكور ، لم يجز الأكل ، ولم يرتفع الحرج ، نظرا للحكمة والمعنى .

وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ْ } فكل ذلك جائز ، أكل أهل البيت الواحد جميعا ، أو أكل كل واحد منهم وحده ، وهذا نفي للحرج ، لا نفي للفضيلة وإلا فالأفضل الاجتماع على الطعام .

{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا ْ } نكرة في سياق الشرط ، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره ، سواء كان في البيت ساكن أم لا ، فإذا دخلها الإنسان { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : فليسلم بعضكم على بعض ، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد ، من تواددهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت ، من غير فرق بين بيت وبيت ، والاستئذان تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه ، ثم مدح هذا السلام فقال : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ْ } أي : سلامكم بقولكم : " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " أو " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " إذ تدخلون البيوت ، { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ْ } أي : قد شرعها لكم ، وجعلها تحيتكم ، { مُبَارَكَةً ْ } لاشتمالها على السلامة من النقص ، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة ، { طَيِّبَةً ْ } لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله ، الذي فيه طيبة نفس للمحيا ، ومحبة وجلب مودة .

لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة قال :

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ ْ } الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ } عنه فتفهمونها ، وتعقلونها بقلوبكم ، ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة ، فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها ، يزيد في العقل ، وينمو به اللب ، لكون معانيها أجل المعاني ، وآدابها أجل الآداب ، ولأن الجزاء من جنس العمل ، فكما استعمل عقله للعقل عن ربه ، وللتفكر في آياته التي دعاه إليها ، زاده من ذلك .

وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي : أن " العرف والعادة مخصص للألفاظ ، كتخصيص اللفظ للفظ " فإن الأصل ، أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره ، مع أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء ، للعرف والعادة ، فكل مسألة تتوقف على الإذن من مالك الشيء ، إذا علم إذنه بالقول أو العرف ، جاز الإقدام عليه .

وفيها دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ، لأن الله سمى بيته بيتا للإنسان .

وفيها دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان ، كزوجته ، وأخته ونحوهما ، يجوز لهما الأكل عادة ، وإطعام السائل المعتاد .

وفيها دليل ، على جواز المشاركة في الطعام ، سواء أكلوا مجتمعين ، أو متفرقين ، ولو أفضى ذلك إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض .


[572]:- في ب: من.
[573]:- مراد الشيخ -رحمه الله- فإن بيوت هؤلاء المسمين، كما يبدو -والله أعلم-.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (61)

58

ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء :

ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ، أو بيوت آبائكم ، أو بيوت أمهاتكم ، أو بيوت أخوانكم ، أو بيوت أخواتكم ، أو بيوت أعمامكم ، أو بيوت عماتكم ، أو بيوت أخوالكم ، أو بيوت خالاتكم ؛ أو ما ملكتم مفاتحه ، أو صديقكم . ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا . فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، تحية من عند الله مباركة طيبة . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون . .

روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة - دون استئذان - ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم . . الفقراء منهم . . فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن . ذلك حين نزلت : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )فقد كانت حساسيتهم مرهفة . فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه ، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد . فأنزل الله هذه الآية ، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج ، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيب نفس " .

ولآن الآية آية تشريع ، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي ، والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول ( من بيوتكم )فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج ، فبيت الابن بيت لأبيه ، وبيت الزوج بيت لزوجته ، وتليها بيوت الآباء ، فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة ، فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام ، فبيوت العمات ، فبيوت الأخوال ، فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .

فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها ، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا )فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد ، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .

فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ) . . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح ، وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . .

وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة :

( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ) . . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير . .