تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

{ 28 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره { نَجَسٌ } أي : خبثاء في عقائدهم وأعمالهم ، وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة لا تنفع ولا تضر ، ولا تغني عنه شيئا ؟ " .

وأعمالهم ما بين محاربة للّه ، وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل ، ورد للحق ، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح ، فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم .

{ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وهو سنة تسع من الهجرة ، حين حج بالناس أبو بكر الصديق ، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا ، أن يؤذن يوم الحج الأكبر ب { براءة } فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

وليس المراد هنا ، نجاسة البدن ، فإن الكافر كغيره طاهر البدن ، بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها ، ولم يأمر بغسل ما أصاب{[366]}  منها .

والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار ، ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها ، تَقَذُّرَهْم من النجاسات ، وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية ، بالشرك ، فكما أن التوحيد والإيمان ، طهارة ، فالشرك نجاسة .

وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها المسلمون { عَيْلَةً } أي : فقرا وحاجة ، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام ، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فليس الرزق مقصورا على باب واحد ، ومحل واحد ، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة ، فإن فضل اللّه واسع ، وجوده عظيم ، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم ، فإن اللّه أكرم الأكرمين .

وقد أنجز اللّه وعده ، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله ، وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك .

وقوله : { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء بالمشيئة ، لأن الغنى في الدنيا ، ليس من لوازم الإيمان ، ولا يدل على محبة اللّه ، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة .

فإن اللّه يعطي الدنيا ، من يحب ، ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان والدين ، إلا من يحب .

{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : علمه

واسع ، يعلم من يليق به الغنى ، ومن لا يليق ، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها .

وتدل الآية الكريمة ، وهي قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أن المشركين بعد ما كانوا ، هم الملوك والرؤساء بالبيت ، ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين ، مع إقامتهم في البيت ، ومكة المكرمة ، ثم نزلت هذه الآية .

ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز ، فلا يبقى فيها دينان ، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام ، فيدخل في قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }


[366]:- الجملة غير واضحة في أ، وأقرب ما تكون أنها: (ولم يأمر أن يغتسل مما أصاب).
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

عندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ ، ينهي القول في شأن المشركين . ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين :

( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ؛ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء . إن الله عليم حكيم ) . .

إنما المشركون نجس . يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم . فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس ، ويتطهر منه المتطهرون ! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة ، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها . إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم .

( نجس . فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . .

وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام ، حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه ، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور !

ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة ؛ والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ؛ ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة . . . أنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج ؛ وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة . . .

نعم ! ولكنها العقيدة . والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة !

وبعد ذلك ، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة :

( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) . .

وحين يشاء الله يستبدل أسبابا بأسباب ؛ وحين يشاء يغلق بابا ويفتح الأبواب . .

( إن الله عليم حكيم ) . .

يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة ، وعن تقدير وحساب . .

لقد كان المنهج القرآني يعمل ، في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح ؛ والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد . .

وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات . فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات . ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد .

إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها ، هي قمة التجرد لله ، والخلوص لدينه . وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة . وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيدا لله وحده ، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض . . وهما منهجان لا يلتقيان . . ولا يتعايشان . .

وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته ، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها ؛ لا يملك إنسان أن يقوم الأحكام الإسلامية ، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات .