تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (215)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 215 ) .

أي : يسألونك عن النفقة ، وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه ، فأجابهم عنهما فقال : ( قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ ) أي : مال قليل أو كثير ، فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم ، أعظمهم حقا عليك ، وهم الوالدان الواجب برهما ، والمحرم عقوقهما ، ومن أعظم برهما ، النفقة عليهما ، ومن أعظم العقوق ، ترك الإنفاق عليهما ، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة ، على الولد الموسر ، ومن بعد الوالدين الأقربون ، على اختلاف طبقاتهم ، الأقرب فالأقرب ، على حسب القرب والحاجة ، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة ، ( وَالْيَتَامَى ) وهم الصغار الذين لا كاسب لهم ، فهم في مظنة الحاجة لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم ، وفقد الكاسب ، فوصى الله بهم العباد ، رحمة منه بهم ولطفا ، ( وَالْمَسَاكِينِ ) وهم أهل الحاجات ، وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة ، فينفق عليهم ، لدفع حاجاتهم وإغنائهم .

( وَابْنَ السَّبِيلِ ) أي : الغريب المنقطع به في غير بلده ، فيعان على سفره بالنفقة ، التي توصله إلى مقصده .

ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف ، لشدة الحاجة ، عمم تعالى فقال : ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ) من صدقة على هؤلاء وغيرهم ، بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات ، لأنها تدخل في اسم الخير ، ( فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) فيجازيكم عليه ، ويحفظه لكم ، كل على حسب نيته وإخلاصه ، وكثرة نفقته وقلتها ، وشدة الحاجة إليها ، وعظم وقعها ونفعها .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (215)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد ، أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ، وعلى من ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم : ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لاَبائكم وأمهاتكم وأقربيكم ، ولليتامى منكم والمساكين وابن السبيل ، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم ، وهو محصيه لكم حتى يوفيكم أجوركم عليه يوم القيامة ، ويثيبكم على ما أطعتموه بإحسانكم عليه . والخير الذي قال جل ثناؤه في قوله : قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ هو المال الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من النفقة منه ، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية .

وفي قوله : ماذَا وجهان من الإعراب : أحدهما أن يكون «ماذا » بمعنى أيّ شيء ، فيكون نصبا بقوله : «ينفقون » ، فيكون معنى الكلام حينئذً : يسألونك أيّ شيء ينفقون ، ولا ينصب ب«يسألونك » . والاَخر منهما الرفع . وللرفع في «ذلك » وجهان : أحدهما أن يكون «ذا » الذي مع «ما » بمعنى «الذي » ، فيرفع «ما » ب«ذا » و«ذا » ب«ما » ، و«ينفقون » من صلة «ذا » ، فإن العرب قد تصل «ذا » ، وهذا كما قال الشاعر :

عَدَسْ ، ما لعَبّادٍ عليكِ إمارَةٌ *** أمِنْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ

ف«تحملين » من صلة «هذا » ، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : يسألونك ما الذي ينفقون . والاَخر من وجهي الرفع أن تكون «ماذا » بمعنى أيّ شيء ، فيرفع «ماذا » ، وإن كان قوله : يُنْفِقُونَ واقعا عليه ، إذ كان العامل فيه وهو «ينفقون » لا يصلح تقديمه قبله ، وذلك أن الاستفهام لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام ، كما قال الشاعر :

ألا تَسألاَنِ المَرْءَ ماذَا يُحاوِلُ *** أنَحْبٌ فَيُقْضَى أمْ ضَلالٌ وَباطِلُ

وكما قال الاَخر :

وَقالُوا تَعَرّفُها المَنازِلُ مِنْ مِنًى *** وَما كُلّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أنا عارفُ

فرفع كلّ ولم ينصبه بعارف . إذْ كان معنى قوله : «وما كان من يغشى منى أنا عارف » جحود معرفة من يغشى منى ، فصار في معنى ما أحد . وهذه الآية ( نزلت ) فيما ذكر قبل أن يفرض الله زكاة الأموال . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ قال : يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم ؟ فنزلت : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ واليتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فذلك النفقة في التطوّع والزكاة سوى ذلك كله . قال : وقال مجاهد : سألوا فأفتاهم في ذلك ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين وما ذكر معهما .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح في قول الله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قال : سألوه فأفتاهم في ذلك : فللوالدين والأقربين وما ذكر معهما .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قوله : قُلْ ما أنْفَقْتُم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ قال : هذا من النوافل . قال : يقول : هم أحق بفضلك من غيرهم .

وهذا الذي قاله السدي من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاة ، وإنما كانت نفقة ينفقها الرجل على أهله ، وصدقة يتصدق بها ، ثم نسختها الزكاة ، قول ممكن أن يكون ، كما قال : وممكن غيره . ولا دلالة في الآية على صحة ما قال ، لأنه ممكن أن يكون قوله : قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبيِنَ الآية ، حَثّا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غير واجبة من الاَباء والأمهات والأقرباء ، ومن سمى معهم في هذه الآية ، وتعريفا من الله عباده مواضع الفضل التي تصرف فيها النفقات ، كما قال في الآية الأخرى : وآتَى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُربى واليَتَامى وَالمَساكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتَى الزّكاة وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه . وقد بينا معنى المسكنة ، ومعنى ابن السبيل فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (215)

استئناف ابتدائي لابتداء جواب عن سؤال سأله بعض المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم روى الواحدي عن ابن عباس أن السائل عَمْرو بن الجَمُوح الأنصاري ، وكان ذا مال فقال يا رسول الله : بماذا يُتصدق وعلى مَن يُنْفَق ؟ وقال ابن عطية : السائلون هم المؤمنون يعني أنه تكرر السؤال عن تفصيل الإنفاق الذي أمروا به غير مرة على الإجمال ، فطلبوا بيان من ينفق عليهم وموقع هذه الآية في هذا الموضع إما لأن نزولها وقع عقب نزول التي قبلها وإما لأمر بوضعها في هذا الموضع جمعاً لطائفة من الأحكام المفتتحة بجملة { يسألونك } وهي ستة أحكام .

ثم قد قيل إنها نزلت بعد فرض الزكاة ، فالسؤال حينئذ عن الإنفاق المتطوع به وهي محكمة وقيل نزلت قبل فرض الزكاة فتكون بياناً لمصارف الزكاة ثم نسخت بآية { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية في [ سورة براءة : 60 ] ، فهو بتخصيص لإخراج الوالدين والأقربين واليتامى ، وإن كانوا من غير الأصناف الثمانية المذكورة في آية براءة .

وماذا } استفهام عن المنفق ( بفتح الفاء ) ومعنى الاستفهام عن المنفق السؤال عن أحواله التي يقع بها موقع القبول عند الله ، فإن الإنفاق حقيقة معروفة في البشر وقد عرفها السائلون في الجاهلية . فكانوا في الجاهلية ينفقون على الأهل وعلى الندامى وينفقون في الميسر ، يقولون فلان يتمم أيساره أي يدفع عن أيساره أقساطهم من مال المقامرة ويتفاخرون بإتلاف المال . فسألوا في الإسلام عن المعتدِّ به من ذلك دون غيره ، فلذلك طابق الجوابُ السؤال إذ أجيب : { قُل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } ، فجاء ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده ، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل ، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام ، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء ، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه ، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه ، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض ، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي ، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي .

والخير : المال كما تقدم في قوله تعالى : { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] آية الوصية .

و { ما أنفقتم } شرط ، ففعل { أنفقتم } مراد به الاستقبال كما هو مقتضى الشرط ، وعبر بالماضي لإظهار الرغبة في حصول الشرط فينزل كالحاصل المتقرر .

واللام في { للوالدين } للمِلْك ، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين ، وقد تقدم بيانهم في قوله تعالى : { وآتى المال على حبه ذوي القربى } [ البقرة : 177 ] الآية .

والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه ، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة ، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم ، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين ، وذلك كله بحسب عادة أمثالهم ، وفي تحديد القربى الموجبة للإنفاق خلاف بين الفقهاء . فليست هاته الآية بمنسوخة بآية الزكاة ، إذ لا تعارض بينهما حتى نحتاج للنسخ وليس في لفظ هاته الآية ما يدل على الوجوب حتى يظن أنها نزلت في صدقة واجبة قبل فرض الزكاة .

وابن السبيل هو الغريب عن الحي المار في سفره ، ينفق عليه ما يحتاج إليه .

وقوله : { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } تذييل والمقصود من قوله : { فإن الله به عليم } الكناية عن الجزاء عليه ، لأن العليم القدير إذا امتثل أحد لأمره لا يحول بينه وبين جزائه عليه حائل . وشمل عمومُ { وما تفعلوا من خير } الأفعالَ الواجبة والمتطوع بها فيعم النفقات وغيرها .