{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
المقصود من اليمين ، والقسم تعظيم المقسم به ، وتأكيد المقسم عليه ، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان ، وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء ، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين ، يتضمن ترك ما هو أحب إليه ، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة ، أي : مانعة وحائلة عن أن يبروا : أن{[140]} يفعلوا خيرا ، أو يتقوا شرا ، أو يصلحوا بين الناس ، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه ، وحرم إقامته على يمينه ، ومن حلف على ترك مستحب ، استحب له الحنث ، ومن حلف على فعل محرم ، وجب الحنث ، أو على فعل مكروه استحب الحنث ، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث .
ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ، أنه " إذا تزاحمت المصالح ، قدم أهمها " فهنا تتميم اليمين مصلحة ، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء ، مصلحة أكبر من ذلك ، فقدمت لذلك .
ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : لجميع الأصوات { عَلِيمٌ } بالمقاصد والنيات ، ومنه سماعه لأقوال الحالفين ، وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر ، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته ، وأن أعمالكم ونياتكم ، قد استقر علمها عنده .
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَن تَبَرّواْ وَتَتّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ فقال بعضهم : معناه : ولا تجعلوه علة لأيمانكم ، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الخير والإصلاح بين الناس ، قال : عليّ يمين بالله ألا فعل ذلك ، أو قد حلفت بالله أن لا أفعله . فيعتلّ في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأِيمَانِكُمْ قال : هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح ، ثم يعتلّ بيمينه يقول الله : أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح ، وإن حلفت كفّرت عن يمينك وفعلت الذي هو خير لك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه مثله ، إلا أنه قال : وإن حلفت فكفر عن يمينك ، وافعل الذي هو خير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عبيد الله عن إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ قال : هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدّق ، أو يكون بينه وبين إنسان مغاضبة ، فيحلف لا يصلح بينهما ويقول : قد حلفت ، قال : يكفر عن يمينه ، وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا يقول : لا تعتلوا بالله أن يقول أحدكم : إنه تألّى أن لا يصل رحما ، ولا يسعى في صلاح ، ولا يتصدّق من ماله ، مهلاً مهلاً بارك الله فيكم فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان ، فلا تطيعوه ، ولا تنفذوا له أمرا في شيء من نذوركم ولا أيمانكم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ قال : هو الرجل يحلف لا يصلح بين الناس ولا يبرّ ، فإذا قيل له قال : قد حلفت .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ قال : الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير الأمر الحسن يقول حلفت ، قال الله : افعل الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ، ولا تجعل الله عرضة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ . . . الآية ، هو الرجل يحرّم ما أحلّ الله له على نفسه ، فيقول : قد حلفت فلا يصلح إلا أن أَبرّ يميني . فأمرهم الله أن يكفروا أيمانهم ، ويأتوا الحلال .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ أما عُرْضَة : فيعرض بينك وبين الرجل الأمر ، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله ، وأما تبّروا : فالرجل يحلف لا يبرّ ذا رحمه ، فيقول : قد حلفت . فأمر الله أن لا يعرّض بيمينه بينه وبين ذي رحمه ، وليبرّه ولا يبالي بيمينه ، وأما تصلحوا : فالرجل يصلح بين الاثنين فيعصيانه ، فيحلف أن لا يُصلح بينهما ، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه ، وهذا قبل أن تنزل الكفارات .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ قال : يحلف أن لا يتقي الله ولا يصل رحمه ولا يصلح بين اثنين ، فلا يمنعه يمينه .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تعترضوا بالحلف بالله في كلامكم فيما بينكم ، فتجعلوا ذلك حجة لأنفسكم في ترك فعل الخير . ذكر من قال ذلك :
3حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ يقول : لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير .
3حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ كان الرجل يحلف على الشيء من البرّ والتقوى ولا يفعله . فنهى الله عز وجل عن ذلك ، فقال : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ قال : هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته ولا يصل رحمه ولا يصلح بين اثنين . يقول : فليفعل وليكفر عن يمينه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن إبراهيم النخعي في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ قال : لا تحلف أن لا تتقي الله ، ولا تحلف أن لا تبرّ ولا تعمل خيرا ، ولا تحلف أن لا تصل ، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس ، ولا تحلف أن تقتل وتقطع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن داود ، عن سعيد بن جبير ومغيرة عن إبراهيم في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً الآية ، قالا : هو الرجل يحلف أن يبرّ ولا يتقي ولا يصلح بين الناس ، وأمر أن يتقي الله ، ويصلح بين الناس ، ويكفر عن يمينه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس ، فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله وليدع يمينه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ الآية ، قال ذلك في الرجل يحلف أن لا يبرّ ولا يصل رحمه ولا يصلح بين الناس ، فأمره الله أن يدع يمينه ويصل رحمه ويأمر بالمعروف ويصلح بين الناس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ قالت : لا تحلفوا بالله وإن بررتم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثت أن قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ الآية ، نزلت في أبي بكر في شأن مِسْطح .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ الآية ، قال : يحلف الرجل أن لا يأمر بالمعروف ، ولا ينهى عن المنكر ، ولا يصل رحمه .
حدثني المثنى ، حدثنا سويد ، أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ قال : يحلف أن لا يتقي الله ، ولا يصل رحمه ، ولا يصلح بين اثنين ، فلا يمنعه يمينه :
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد ، عن مكحول أنه قال في قول الله تعالى ذكره : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لاِءَيْمَانِكُمْ قال : هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرا ولا يصل رحمه ولا يصلح بين الناس ، نهاهم الله عن ذلك .
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : معنى ذلك لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبين الله وبين الناس . وذلك أن العرضة في كلام العرب : القوّة والشدة ، يقال منه : هذا الأمر عرضة له ، يعني بذلك : قوّة لك على أسبابك ، ويقال : فلانة عرضة للنكاح : أي قوّة ، ومنه قول كعب بن زهير في صفة نوق :
مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرى إذَا عَرقتْ *** عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ
يعني ب«عرضتها » : قوتها وشدتها .
فمعنى قوله تعالى ذكره : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ إذا : لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبرّوا ، ولا تتقوا ، ولا تصلحوا بين الناس ، ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البرّ والإصلاح بين الناس فليحنث في يمينه ، وليبرّ ، وليتق الله ، وليصلح بين الناس ، وليكفر عن يمينه . وترك ذكر «لا » من الكلام لدلالة الكلام عليها واكتفاء بما ذكر عما ترك ، كما قال امرؤ القيس :
فَقُلْتُ يَمِينُ اللّهِ أبْرَحُ قاعِدا *** ولَوْ قَطّعُوا رأسي لَدَيْكِ وأوْصَالي
بمعنى : فقلت : يمين الله لا أبرح . فحذف «لا » اكتفاء بدلالة الكلام عليها .
وأما قوله : أنْ تَبَرّوا فإنه اختلف في تأويل البرّ الذي عناه الله تعالى ذكره ، فقال بعضهم : هو فعل الخير كله . وقال آخرون : هو البرّ بذي رحمه ، وقد ذكرت قائلي ذلك فيما مضى .
وأولى ذلك بالصواب قول من قال : عنى به فعل الخير كله ، وذلك أن أفعال الخير كلها من البرّ . ولم يخصص الله في قوله أنْ تَبَرّوا معنى دون معنى من معاني البرّ ، فهو على عمومه ، والبرّ بذوي القرابة أحد معاني البرّ .
وأما قوله : وَتَتّقُوا فإن معناه : أن تتقوا ربكم فتحذروه وتحذروا عقابه في فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدوها ، وقد ذكرنا تأويل من تأول ذلك أنه بمعنى التقوى قبل .
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا قال : كان الرجل يحلف على الشيء من البرّ والتقوى لا يفعله ، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك ، فقال : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ الآية ، قال : ويقال : لا يتق بعضكم بعضا بي ، تحلفون بي وأنتم كاذبون ليصدقكم الناس وتصلحون بينهم ، فذلك قوله : أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا . . . الآية .
وأما قوله : وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مأثم فيه ، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه .
وأما الذي ذكرنا عن السدي من أن هذه الآية نزلت قبل نزول كفارات الأيمان ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ، والخبر عما كان لا تدرك صحته إلا بخبر صادق ، وإلا كان دعوى لا يتعذر مثلها وخلافها على أحد . وغير محال أن تكون هذه الآية نزلت بعد بيان كفارات الأيمان في سورة المائدة ، واكتفي بذكرها هناك عن إعاتها ههنا ، إذ كان المخاطبون بهذه الآية قد علموا الواجب من الكفارات في الأيمان التي يحنث فيها الحالف .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بذلك : والله سميع لما يقوله الحالف منكم بالله إذا حلف ، فقال : والله لا أبرّ ، ولا أتقي ، ولا أصلح بين الناس ، ولغير ذلك من قيلكم وأيمانكم ، عليم بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك ، الخير تريدون أم غيره ، لأني علام الغيوب وما تضمره الصدور ، لا تخفى عليّ خافية ، ولا ينكتم عني أمر عُلن ، فظهر أو خفي فبطن ، وهذا من الله تعالى ذكره تهدد ووعيد . يقول تعالى ذكره : واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول ، أو بأبدانكم من الفعل ، ما نهيتكم عنه ، أو تضمروا في أنفسكم ، وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيات فعل ما زجرتكم عنه ، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرفتكموها ، فإني مطلع على جميع ما تعلنونه أو تسرّونه .
جملة معطوفة على جملة { نساؤكم حرث لكم } [ البقرة : 223 ] عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعاً من قربان الأزواج في حالة الحيض ، وكون مضمون هذه الجملة تمهيداً لجملة { للذين يؤلون من نسائهم } [ البقرة : 226 ] ، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة { نساؤكم حرث لكم } ، وجملة { للذين يؤلون من نسائهم } وسلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } [ البقرة : 222 ] .
وقال التفتازاني : الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة اهـ . وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة ، وجوز التفتازاني أن يكون معطوفاً على الأوامر السابقة وهي { وقدموا } [ البقرة : 223 ] { واتقوا } [ البقرة : 223 ] { واعلموا أنكم ملاقاة } [ البقرة : 223 ] اه أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئاً من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم ؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه ، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمداً ، فجىء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث ، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين ، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به ، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز .
وقال عبد الحكيم : معطوف على جملة { قل } [ البقرة : 222 ] بتقدير قل أي : وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله : { وقدموا } [ البقرة : 223 ] إن جعل قوله : { وقدموا } من جملة مقول { قل } .
وذكر جمع من المفسرين عن ابن جريج أنها نزلت حين حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق على قريبه مِسطح بن أثاثة لمشاركته الذين تكلموا بخبر الإفك عن عائشة رضي الله عنها ، وقال الواحدي عن الكلبي : نزلت في عبد الله بن رواحة حلف ألا يكلِّم خَتَنه على أخته بشير بن النعمان ولا يدخل بيته ولا يصلح بينه وبين امرأته ، وأياً ما كان فواو العطف لا بد أن تربط هذه الجملة بشيء من الكلام الذي قبلها .
وتعليق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم ، فالتقدير : ولا تجعلوا اسم الله ، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة :
حَلفت فلم أترك لنفسك ريبةً *** وليس وراءَ اللَّهِ للمرء مذهب
أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف .
والعُرضة اسم على وزن الفُعلة وهو وزن دال على المفعول كالقُبْضة والمُسْكة والهُزْأَة ، وهو مشتق من عَرَضَه إذا وضعه على العُرْض أي الجانب ، ومعنى العَرض هنا جعل الشيء حاجزاً من قولهم عَرض العود على الإناء فنشأ عن ذلك إطلاق العُرضة على الحاجز المتعرض ، وهو إطلاق شائع يساوي المعنى الحقيقي ، وأطلقت على ما يكثر جَمْع الناس حوله فكأنه يعترضهم عن الانصراف وأنشد في « الكشاف » :
* ولا تَجْعَلُوني عُرْضَةً للَّوَائِم{[183]} *
واللام في قوله : { لأيمانكم } لام التعدية تتعلق بعُرضة لما فيها من معنى الفعل : أي تجعلوا اسم الله معرَّضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح ثم تقولوا سبقتْ منا يمين ، ويجوز أن تكون اللام للتعليل : أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تَبَروا .
والأَيمان جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يميناً أخذاً من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله ، وهي اشتقت من اليمن وهو البركة ، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى ، وسمي الحلف يميناً لأن العرب كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر قال تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } [ الفتح : 10 ] فكانوا يقولون أعطى يمينه ، إذا أكد العهد . وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير :
حتى وضعت يمينى لا أنازعه *** في كف ذي يسرات قيله القيل
ثم اختصروا فقالوا صدرت منه يمين أو حلف يميناً ، فتسمية الحلف يميناً من تسمية الشيء باسم مقارنه الملازم له ، أو من تسمية الشيء باسم مكانه ؛ كما سَمَّوا الماء وادياً وإنما المحل في هذه التسمية على هذا الوجه محل تخييلي .
ولما كان غالب أَيمانهم في العهود والحلف ، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم بعضَها في بعض ، شاع إطلاق اليمين على كل حَلِف ، جرياً على غالب الأحوال ؛ فأطلقت اليمين على قَسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف .
والقصد من الحَلِف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان اللَّهَ تعالى على صدقه في خبر أو وعد أو تعليق ، ولذلك يقوله : { بالله } أي أخبر متلبساً بإشهاد الله ، أو أعد أو أُعلِّق متلبساً بإشهاد الله على تحقيق ذلك ، فمِن أجْل ذلك تضمن اليمين معنى قوياً في الصدق ، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأَ عليه واستخف به ، ومما يدل على أن أصل اليمين إشْهاد اللَّهِ ، قوله تعالى : { ويشهد الله على ما في قلبه } [ البقرة : 204 ] كما تقدم ، وقول العرب يَعْلم الله في مقام الحلف المغلظ ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها ، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي .
ومعنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز نهيُ المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلاً معنوياً دون فعل ما حلفوا على تركه من البر والتقوى والإصلاححِ بين الناس فاللاَّم للتعليل ، وهي متعلقة بتجعلوا ، و { أن تبروا } متعلق بعرضة على حذف اللام الجارة ، المطرد حذفها مع أَنْ ، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزاً عن فعل البر والإصلاح والتقوى ، فالآية على هذا الوجه نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل خير شرعي ، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحلوف على تركه ، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان ، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص .
وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب فتقسم بالله وبآلهتها وبآبائها ، على الامتناع من شيء ، ليسدوا باليمين بابَ المراجعة أو الندامة .
وفي « الكشاف » « كان الرجل يحلف على ترك الخير من صلة الرحم ، أو إصلاح ذات البين ، أو إحسان ، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني ، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم .
وقد قيل إن سبب نزولها حلف أبي بكر ألا ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة لأنه ممن خاضوا في الإفك . ولا تظهر لهذا القول مناسبة بموقع الآية . وقيل : نزلت في حلف عبد الله بن رواحة ألا يكلم ختنه بشير بن النعمان الأنصاري ، وكان قد طلق أخت عبد الله ثم أراد الرجوع والصلح ، فحلف عبد الله ألا يصلح بينهما . وإما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرض لفعل في غرض ، فالمعنى لا تجعلوا اسم الله معرضاً لأن تحلفوا به في الامتناع من البر ، والتقوى ، والإصلاح بين الناس ، فالأيمان على ظاهره ، وهي الأقسام واللام متعلقة بعرضة ، و { أن تبروا } مفعول الأيمان ، بتقدير لا محذوفة بعد ( أن ) والتقدير ألا تبروا ، نظير قوله تعالى : { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] وهو كثير فتكون الآية نهيا عن الحلف بالله على ترك الطاعات ؛ لأن تعظيم الله لا ينبغي أن يكون سبباً في قطع ما أمر الله بفعله ، وهذا النهي يسلتزم : أنه إن وقع الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح ، أنه لا حرج في ذلك ، وأنه يكفر عن يمينه ويفعل الخير . أو معناه : لا تجعلوا اسم الله معرضاً للحلف ، كما قلنا ، ويكون قوله : { أن تبروا } مفعولاً لأجله وهو علة للنهي ؛ أي إنما نهيتكم لتكونوا أبراراً أتقياء مصلحين ، وفي قريب من هذا ، قال مالك « بلغني أنّه الحلف بالله في كل شيء » وعليه فتكون الآية نهياً عن الإسراع بالحلف لأن كثرة الحلف . تعرض الحالف للحنث . وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية ، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونُعر الحمق ، فنهى الإسلام عن ذلك ولذلك تمدحوا بقلة الأيمان قال كثيِّر :
قليل الألايى حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليَّةُ برَّت
وفي معنى هذا أن يكون العرضة مستعاراً لما يكثر الحلول حوله ، أي لا تجعلوا اسم الله كالشيء المعرَّض للقاصدين . وليس في الآية على هذه الوجوه ما يفهم الإذن في الحلف بغير الله ، لما تقرر من النهي عن الحلف بغير اسم الله وصفاته .
وقوله : { والله سميع عليم } تذييل ، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات ، والمقصود لازمه ، وهو الوعد على الامتثال ، على جميع التقادير ، والعذر في الحنث على التقدير الأول ، والتحذير من الحلف على التقدير الثاني .
وقد دلت الآية على معنى عظيم وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير ، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى ، وتصديق الشهادة به على الفعل المحلوف عليه ، وهذا وإن كان مقصداً جليلاً يُشكر عليه الحالف الطالب للبر ؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضَى به الله تعالى ، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر . والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له ، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه ، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح ، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط ، إذ قد علم الله تعالى أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث ، فبِر اليمينِ أدبٌ مع اسم الله تعالى ، والإتيانُ بالأعمال الصالحة مرضاة لله ؛ فأمَرَ الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه ، كما قيل : الامتثالُ مقدَّم على الأدب . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفّرت عن يميني وفعلتُ الذي هو خير » ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة ، أمره الله أن يأخذ ضغثاً من مائة عصا فيضربها به ، وقد علم الله أن هذا غيرُ مقصد أيوب ؛ ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته نهاه عن ذلك ، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه ، وكراهته أن يتخلف منه معتاده في تعظيم اسم ربه ، فهذا وجه من التحلة ، أفتى الله به نبيه . ولعل الكفّارة لم تكن مشروعة فهي من يسر الإسلام وسماحته ، فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلّة اليمين بالكفّارة ؛ ولذلك صار لا يجزىء في الإسلام أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب .