ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق ، فقال : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب ، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك .
{ وَالسَّلْوَى } طائر صغير يقال له السماني ، طيب اللحم ، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين ، فلم يشكروا هذه النعمة ، واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب .
{ وَمَا ظَلَمُونَا } يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين ، كما لا تنفعه طاعات الطائعين ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فيعود ضرره عليهم .
{ وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلََكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ عطف على قوله : ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فتأويل الآية : ثم بعثناكم من بعد موتكم ، وظللنا عليكم الغمام ، وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم لعلهم يشكرون . والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة ، والغمام هو ما غمّ السماء فألبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين ، وكل مغطّى فإن العرب تسميه مغموما . وقد قيل : إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : ليس بالسحاب .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة لم يكن إلا لهم .
وحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : هو بمنزلة السحاب .
وحدثني القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : هو غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله : في ظلل من الغمام ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر . قال ابن عباس : وكان معهم في التيه . وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا مما غمّ السماء من شيء فغطى وجهها عن الناظر إليها ، فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل فوصفه بأنه كان غماما بأولى بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء ، وقد قيل : إنه ما ابيضّ من السحاب .
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ .
اختلف أهل التأويل في صفة المنّ . فقال بعضهم بما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وَأنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ قال : المن : صمغة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَأنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ وَالسّلْوَى يقول : كان المنّ ينزل عليهم مثل الثلج .
وقال آخرون : هو شراب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : المنّ : شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ، ثم يشربونه .
وقال آخرون : المن : عسل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المنّ : عسل كان ينزل لهم من السماء .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المنّ .
وقال آخرون : المنّ : خبز الرقاق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا وسئل ما المنّ ، قال : خبز الرقاق ، مثل الذرة ، ومثل النّقْي .
وقال آخرون : المنّ : الترنجبين . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : المنّ كان يسقط على شجر الترنجبين .
وقال آخرون : المنّ هو الذي يسقط على الشجر الذي تأكله الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان المنّ ينزل على شجرهم فيغدون عليه فيأكلون منه ما شاءوا .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد . عن عامر في قوله : وأنْزلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ قال : المنّ : الذي يقع على الشجر .
وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : المنّ قال : المن : الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد ، عن عامر ، قال : المنّ : هذا الذي يقع على الشجر . وقد قيل إن المنّ : هو الترنجبين .
وقال بعضهم : المنّ : هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر ، وهو حلو كالعسل ، وإياه عنى الأعشى ميمون بن قيس بقوله :
لَوْ أُطْعِمُوا المَنّ وَالسّلْوَى مكانَهُمُ *** ما أبْصَرَ النّاسُ طُعْما فِيهمُ نَجَعا
وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الكمأةُ مِنَ المَنّ ، وماؤها شِفاءٌ للْعَيْنِ » . وقال بعضهم : المنّ : شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه . وأما أمية بن أبي الصلت فإنه جعله في شعره عسلاً ، فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه :
فَرأى اللّهُ أنّهُمْ بِمَضيعٍ *** لا بِذِي مَزْرَعٍ وَلا مَثْمُورَا
فنساها عَلَيْهِمُ غَادِياتٍ *** ومَرَى مُزْنَهُمْ خَلايا وخُورَا
عَسَلاً ناطِفا ومَاءً فُرَاتا *** وَحَليبا ذَا بَهْجَةٍ مَمْرُورَا
الممرور : الصافي من اللبن ، فجعل المنّ الذي كان ينزل عليهم عسلاً ناطفا ، والناطف : هو القاطر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالسّلْوَى والسلوى : اسم طائر يشبه السمانَي ، واحده وجماعه بلفظ واحد ، كذلك السمانَي لفظ جماعها وواحدها سواء . وقد قيل : إن واحدة السلوى سلواة . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : السلوى : طير يشبه السمانَي .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان طيرا أكبر من السماني .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : السلوى : طائر كانت تحشرها عليهم ريح الجنوب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : السلوى : طائر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : السلوى : طير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا سئل : ما السلوى ؟ فقال : طير سمين مثل الحمام .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : السلوى : طير .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : السلوى : كان طيرا يأتيهم مثل السماني .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد ، عن عامر ، قال : السلوى : السماني .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : السلوى : هو السماني .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : أخبرنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد ، عن عامر ، قال : السلوى : السماني .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الضحاك ، قال : السمانَى هو السلوى .
فإن قال قائل : وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام وإنزاله المنّ والسلوى على هؤلاء القوم ؟ قيل : قد اختلف أهل العلم في ذلك ، ونحن ذاكرون ما حضرنا منه .
فحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : لما تاب الله على قوم موسى وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم ، أمرهم الله بالمسير إلى أريحا ، وهي أرض بيت المقدس . فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا . وكان من أمرهم وأمر الجبارين ، وأمر قوم موسى ما قد قصّ الله في كتابه ، فقال قوم موسى لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ فغضب موسى ، فدعا عليهم قال : رَبّ إني لا أمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وأخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ فكانت عجلة من موسى عجلها فقال الله تعالى : إِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ . فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى ، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه ، فقالوا له : ما صنعت بنا يا موسى ؟ فلما ندم أوحى الله إليه أنْ لا تأسَ على القَوْمِ الفاسقِينَ أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين . فلم يحزن . فقالوا : يا موسى كيف لنا بماء ههنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المنّ ، فكان يسقط على شجر الترنجبين ، والسلوى : وهو طير يشبه السماني ، فكان يأتي أحدهم ، فينظر إلى الطير إن كان سمينا ذبحه ، وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه . فقالوا : هذا الطعام ، فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الطعام والشراب ، فأين الظلّ ؟ فظلل عليهم الغمام ، فقالوا : هذا الظلّ فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ، ولا يتخرّق لهم ثوب ، فذلك قوله : وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمْ الغَمَامَ وأنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ وَالسّلْوَى وقوله : وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا قَدْ عَلِمَ كلّ أُناسِ مَشْرَبَهُمْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل ، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة ، وقال : إنني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً ، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ فإني ناصركم عليهم فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عزّ وجل ، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظلّ ، دعا موسى ربه حين آذاهم الحر ، فظلل عليهم بالغمام ، ودعا لهم بالرزق ، فأنزل الله لهم المنّ والسلوى .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس . وحدثت عن عمار بن الحسن ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : ظلل عليهم الغمام في التيه : تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة ، كلما أصبحوا ساروا غادين ، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه ، فكانوا كذلك حتى مرّت أربعون سنة . قال : وهم في ذلك ينزل عليهم المنّ والسلوى ولا تبلى ثيابهم ، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا يقول : إن بني إسرائيل لما حرّم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض شكوا إلى موسى ، فقالوا : ما نأكل ؟ فقال : إن الله سيأتيكم بما تأكلون . قالوا : من أين لنا إلا أن يمطر علينا خبزا ؟ قال : إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزا مخبوزا . فكان ينزل عليهم المنّ . سئل وهب : ما المنّ ؟ قال : خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي قالوا : وما نأتدم ، وهل بدّلنا من لحم ؟ قال : فإن الله يأتيكم به . فقالوا : من أين لنا إلا أن تأتينا به الريح ؟ قال : فإن الريح تأتيكم به ، وكانت الريح تأتيهم بالسلوى فسئل وهب : ما السلوى ؟ قال : طير سمين مثل الحمام كانت تأتيهم فيأخذون منه من السبت إلى السبت قالوا : فما نلبس ؟ قال : لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة . قالوا : فما نحتذي ؟ قال : لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة ، قالوا : فإن فينا أولادا فما نكسوهم ؟ قال : ثوب الصغير يشب معه . قالوا : فمن أين لنا الماء ؟ قال : يأتيكم به الله . قالوا : فمن أين ؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر . فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر . قالوا : فبم نبصر ؟ تغشانا الظلمة . فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم أضاء عسكرهم كله ، قالوا : فبم نستظل ؟ فإن الشمس علينا شديدة قال : يظلكم الله بالغمام .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، فذكر نحو حديث موسى بن هارون عن عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي .
حدثني القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال : عبد الله بن عباس : خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن . قال : وقال ابن جريج : إن أخذ الرجل من المنّ والسلوى فوق طعام يوم فسد ، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا .
القول في تأويل قوله تعالى : كُلُوا مِنْ طَيّبات ما رزَقْنَاكُمْ .
وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أن تأويل الآية : وظللنا عليكم الغمام ، وأنزلنا عليكم المن والسلوى ، وقلنا لكم : كلوا من طيبات ما رزقناكم . فترك ذكر قوله : «وقلنا لكم . . . » لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه . وعنى جل ذكره بقوله : كُلُوا مِنْ طَيّباتِ مَا رزَقْنَاكُمْ كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه . وقد قيل عنى بقوله : مِنْ طَيبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ من حلاله الذي أبحناه لكم ، فجعلناه لكم رزقا . والأول من القولين أولى بالتأويل لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم ، فوصف ذلك بالطيب الذي هو بمعنى اللذّة أحرى من وصفه بأنه حلال مباح . و«ما » التي مع «رزقناكم » بمعنى «الذي » كأنه قيل : كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه .
القول في تأويل قوله تعالى : ومَا ظَلَمُونا وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .
وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه . وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ثم رسولنا إليهم ، وما ظلمونا . فاكتفى بما ظهر عما ترك . وقوله : وَما ظَلَمُونَا يقول : وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . ويعني بقوله : وَمَا ظَلَمُونَا : وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرّة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرّة عليها ومنقصة لها . كما :
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وَما ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ قال : يضرّون . وقد دللنا فيما مضى على أن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه بما فيه الكفاية ، فأغنى ذلك عن إعادته . وكذلك ربنا جل ذكره لا تضرّه معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل بل نفسه يظلم الظالم ، وحظها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 57 )
ومعنى { ظللنا } جعلناه ظللاً ، و { الغمام } السحاب لأنه يغم وجه السماء أي يستره .
وقال مجاهد : «هو أبرد من السحاب وأرق وأصفى ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : يأتي أمره وسلطانه وقضاؤه . وقيل { الغمام } ما ابيض من السحاب .
و { المن } صمغة حلوه ، هذا قول فرقة ، وقيل : هو عسل ، وقيل : شراب حلو ، وقيل : الذي ينزل اليوم على الشجر( {[632]} ) ، وقيل : { المن } خبز الرقاق مثل النقي( {[633]} ) : وقيل : هو الترنجبين( {[634]} ) وقيل الزنجبيل ، وفي بعض هذه الأقوال بعد . وقيل : { المن } مصدر يعني به جميع ما من الله به مجملاً .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب مسلم : الكمأة مما من الله به على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين .
فقيل : أراد عليه السلام أن الكمأة نفسها مما أنزل نوعها على بني إسرائيل .
وقيل : أراد أنه لا تعب في الكمأة ولا جذاذ ولا حصاد ، فهي منه دون تكلف من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف( {[635]} ) .
وروي أن { المن } كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج( {[636]} ) فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه ، فإن ادخر فسد عليه( {[637]} ) إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم ، لأن يوم السبت يوم عبادة ، و { المن } هنا اسم جمع لا واحد له من لفظه ، { والسلوى } طير بإجماع( {[638]} ) من المفسرين ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم .
قيل : هو السماني بعينه . وقيل : طائر يميل إلى الحمرة مثل السمانى ، وقيل : طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب .
قال الأخفش : «السلوى جمعه وواحده بلفظ واحد » . قال الخليل : { السلوى } جمع واحدته سلواة .
قال الكسائي : { السلوى } واحدة جمعها سلاوى ، { والسلوى } اسم مقصور لا يظهر فيه الإعراب ، لأن آخره ألف ، والألف حرف هوائي أشبه الحركة فاستحالت حركته ولو حرك لرجع حرفاً آخر ، وقد غلط الهذلي فقال : [ الطويل ]
وقاسمها بالله عهداً لأنتمُ . . . ألذُّ من السلوى إذا ما نشورُها( {[639]} )
وقوله تعالى : { كلوا } الآية ، معناه وقلنا كلوا ، فحذف اختصاراً لدلالة الظاهر عليه ، والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ .
وقوله تعالى : { وما ظلمونا } يقدر قبله : فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ، والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب .
وقال بعض المفسرين : { ما ظلمونا } ما نقصونا ، والمعنى يرجع إلى ما لخصناه ،
عطف { وظللنا } على { بعثناكم } [ البقرة : 56 ] . وتعقيب ذكر الوحشة بذكر جائزة شأن الرحيم في تربية عبده ، والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيليم وسينا في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم ومما تنبته الأرض . وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سينا فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني إسرائيل بالرحيل فإذا حلت السحابة حلوا إلخ ، كذا تقول كتبهم{[127]} .
فلما سأل بنو إسرائيل الخبز واللحم كان المن ينزل عليهم في الصباح والسلوى تسقط عليهم في المساء بمقدار ما يكفي جميعهم ليومه أو ليلته إلا يوم الجمعة فينزل عليهم منهما ضعف الكمية لأن في السبت انقطاع النزول .
والمن مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول ، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل في برية سينا . وقد وصفته التوراة{[128]} بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا ، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه كطعم قطائف بزيت{[129]} وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون .
وأما السلوى فهي اسم جنس جمعي واحدته سلواة وقيل : لا واحد له وقيل : واحده وجمعه سواء ، وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضاً ويسمى هذا الطائر أيضاً السمانى بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحبارى ، وهو أيضاً اسم يقع للواحد والجمع ، وقيل : هو الجمع وأما الفرد فهو سماناة .
وقوله : كلوا من طيبات ما رزقناكم مقول قول محذوف لأن المخاطبين حين نزول القرآن لم يؤمروا بذلك فدل على أنه من بقية الخبر عن أسلافهم .
وقوله : { وما ظلمونا } قدره صاحب « الكشاف » معطوفاً على مقدر أي فظلموا وقرره شارحوه بأن ( ما ظلمونا ) نفي لظلم متعلق بمفعول معين وهو ضمير الجلالة وهذا النفي يفيد في المقام الخطابي أن هنالك ظلماً متعلقاً بغير هذا المنصوب إذ لو لم يكن الظلم واقعاً لنفى مطلقاً بأن يقال : وما ظلموا وليس المعنى عليه ، وأنه إنما قدر في « الكشاف » الفعل المحذوف مقترناً بالفاء لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب معنى السببية غالباً ، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها فشبه وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا ريثٍ وبدون مراقبة ذلك الإحسان حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة ، ورمز إلى لفظ المشبه به برديفه وهو فاء السببية وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح لأن يكون مسبباً عن الإنعام على حد قولك أحسنتُ إلى فلان فأساء إليَّ وقوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون فالفاء مجاز لغير الترتب على أسلوب قولك : أنعمَتُ عليه فكفر . ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها فإن الاطراد من علامات الحقيقة . وأما الترتب أي السببية فأمر عارض لها فهو من المجاز أو من مستتبعات التراكيب ألا ترى أنه يوجد تارة ويتخلف أخرى فإنه مفقود في عطف المفردات نحو جاء زيد فعمرو وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى : { لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } [ ق : 22 ] فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجاً إلى القرائن فإن لم تتطلب له علاقة قلت هو من مستتبعات تراكيب بقرينة المقام وإن تطلبت له علاقة وهي لا تعوزك قلت هو مجاز لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية ولو عرفا ولو ادعاء فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس .
ومما يدل على أن حقيقة الفاء العاطفة هو الترتيب والتعقيب فقط أن بعض البيانيين جعلوا قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا } [ القصص : 8 ] اللامَ فيه مستعارة لمعنى فاء التعقيب أي فكان لهم عدوًّا فجعلوا الفاء حقيقة في التعقيب ولو كانت للترتيب لساوت اللام فلم تستقم الاستعارة فيكون الوجه الحامل للزمخشري على تقدير المحذوف مقترناً بالفاء هو أنه رأى عطف الظلم على { وظللنا عليكم الغمام } وما بعده بالواو ولا يحسن لعدم الجهة الجامعة بين الامتنان والذم والمناسبةُ شرط في قبول الوصل بالواو بخلاف العطف بالفاء ، فتعين إما تقدير ظلموا مستأنفاً بدون عطف وظاهر أنه ليس هنالك معنى على الاستئناف وإما ربط ظلموا بعاطف سوى الواو وليس يصلح هنا غير الفاء لأن المعطوف حصل عقب المعطوف عليه فكان ذلك التعاقب في الخارج مغنياً عن الجهة الجامعة ولذلك كانت الفاء لا تستدعي قوة مناسبة كمناسبة الواو ولكن مناسبة في الخيال فقط وقد وجدت هنا لأن كون المعطوف حصل في الخارج عقب المعطوف عليه مما يجعله حاضراً في خيال الذي يتكلم عن المعطوف عليه ، وأما قبح نحو قولك جاء زيد فصاح الديك فلقلة جدوى هذا الخبر ألا تراه يصير حسناً لو أردت بقولك فصاح الديك معنى التوقيت بالفجر فبهذا ظهر أنه لم يكن طريق لربط الظلم المقدر بالفعلين قبله إلا الفاء .
وفي ذلك الإخبار والربط والتصدي لبيانه مع غرابة هذا التعقيب تعريض بمذمتهم إذ قابلوا الإحسان بالكفران وفيه تعريض بغباوتهم إذ صدَفوا عن الشكر كأنهم ينكون بالمنعم وهم إنما يوقعون النكاية بأنفسهم ، هذا تفصيل ما يقال على تقدير صاحب « الكشاف » .
والذي يظهر لي أن لا حاجة إلى التقدير وأن جملة { وما ظلمونا } عطف على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل ومثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلماً قد حصل منهم من قوله : { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } [ البقرة : 51 ] وقوله : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } [ البقرة : 55 ] وما تضمنه قوله : { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون } [ البقرة : 56 ] الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته الجمل السابقة نظير قوله : { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 8 ] عقب قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } [ البقرة : 8 ] ونظير قوله : { وظلموا أنفسهم } [ سبأ : 19 ] بعد الكلام السابق وهو قوله : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } [ سبأ : 18 ] الآية .
وغير الأسلوب في هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد الاتعاظ بحالهم وتعريضاً بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم . وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى : { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 62 ] الآية فكان قوله : { وما ظلمونا } تمهيداً له وتعجيلاً بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم .
وقوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولاً بمجرد الجمع بين النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكي غيره كما قيل : يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه .