{ 25-28 } { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان على أعقابهم إلى الضلال والكفران ، ذلك لا عن دليل دلهم ولا برهان ، وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم ، وإملاء منه لهم : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا }
وقوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى يقول الله عزّ وجلّ إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل ، فعرفوا واضح الحجة ، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى هم أعداء الله أهل الكتاب ، يعرفون بعث محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندهم ، ثم يكفرون به .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى إنهم يجدونه مكتوبا عندهم .
وقال آخرون : عنى بذلك أهل النفاق . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ . . . إلى قوله فأَحْبَطَ أعمالَهُمْ هم أهل النفاق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ . . . إلى إسْرَارَهُمْ هم أهل النفاق . وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا ، أشبه منها بصفة أهل الكتاب ، وذلك أن الله عزّ وجلّ أخبر أن ردّتهم كانت بقيلهم لِلّذِينَ كَرِهُوا ، ما نَزّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُم في بَعْضِ الأَمْرِ ولو كانت من صفة أهل الكتاب ، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل قيلهم ما قالوا .
وقوله : الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ يقول تعالى ذكره : الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم ، من بعد ما تبين لهم الهدى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة الشّيْطانُ سَوّلَ لَهُمْ وأمْلَى لَهُمْ يقول : زين لهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَوّلَ لَهُمْ يقول : زين لهم .
وقوله : وأمْلَى لَهُمْ يقول : ومدّ الله لهم في آجالهم مُلاوة من الدهر ، ومعنى الكلام : الشيطان سوّل لهم ، والله أملى لهم .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة وأمْلَى لَهُمْ بفتح الألف منها بمعنى : وأملى الله لهم . وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة «وأُمْلِيَ لَهُمْ » على وجه ما لم يسمّ فاعله . وقرأ مجاهد فيما ذُكر عنه «وأُمْلِي » بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم .
وأولى هذه القراءات بالصواب ، التي عليها عامة قرّاء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك ، لأنها القراءة المستفيضة في قَرَأةَ الأمصار ، وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه .
وقوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } الآية ، قال قتادة : إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه ، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى . وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم . والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر . و : { سول } معناه : أرجاهم سولهم وأمانيهم ، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى : دلاهم ، مأخوذ من السول : وهو الاسترخاء والتدلي{[10375]} .
وقرأ جمهور القراء : «وأملى لهم » وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف : «أملى » . وفاعل { أملى } هنا : قال الحسن : هو { الشيطان } جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء ، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر ، يقال مُلاوة ومَلاوة ومِلاوة بضم الميم وفتحها وكسرها ، وهي القطعة من الزمن ، ومنه الملوان الليل والنهار ، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب ، ويحتمل أن يكون الفاعل في { أملى } الله عز وجل ، كأنه قال : الشيطان سول لهم وأملى الله لهم . وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل ، وهذا هو الأرجح . وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش : «وأُملِي لهم » بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم ، ورواها الخفاف عن أبي عمرو «وأُمليَ » بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول ، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني ، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى .
لم يزل الكلام على المنافقين فالذين ارتدوا على أدبارهم منافقون ، فيجوز أن يكون مراداً به قوم من أهل النفاق كانوا قد آمنوا حقا ثم رجعوا إلى الكفر لأنهم كانوا ضعفاء الإيمان قليلي الاطمئنان وهم الذين مثلهم الله في سورة البقرة ( 17 ) بقوله : { مَثَلهم كمثل الذين استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } الآية .
والارتداد على الأدبار على هذا الوجه : تمثيل للراجع إلى الكفر بعد لإيمان بحال من سار ليصل إلى مكان ثم ارتد في طريقه . ولما كان الارتداد سيراً إلى الجهة التي كانت وراء السائر جُعل الارتداد إلى الأدبار ، أي إلى جهة الأدبار . وجيء بحرف على } للدلالة على أن الارتداد متمكن من جهة الأدبار كما يقال : على صراط مستقيم .
والهدى : الإيمان ، وتبيّن الهدى لهم على هذا الوجه تبيّن حقيقي لأنهم ما آمنوا إلا بعد أن تبين لهم هدى الإيمان .
وعلى هذا الوجه فالإتيان بالموصول والصلة ليس إظهاراً في مقام الإضمار لأن أصحاب هذه الصلة بعض الذين كان الحديث عنهم فيما تقدم . ويجوز أن يكون مراداً به جميعُ المنافقين ، عبر عن تصميمهم على الكفر بعد مشاركتهم المسلمين في أحوالهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة معه وسماععِ القرآن والمواعظ بالارتداد لأنه مفارقة لتلك الأحوال الطيبة ، أي رجعوا إلى أقوال الكفر وأعماله وذلك إذا خلوا إلى شياطينهم ، وتبين الهدى على هذا الوجه كونه بيّناً في نفسه ، وهو بيّن لهم لوضوح أدلته ولا غبار عليه ، فهذا التبين من قبيل قوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] ، أي ليس معه ما يوجب ريب المرتابين . l ويجوز أن يكون المراد به قوماً من المنافقين لم يقاتلوا مع المسلمين بعد أن علموا أن القتال حق . وهذا قول ابن عباس والضحاك والسدّي ، وعليه فلعل المراد : الجماعة الذين انخزلوا يوم أُحُد مع عبد الله بن أُبَيّ بن سلول ، والارتداد على الأدْبار على هذا الوجه حقيقة لأنهم رجعوا عن موقع القتال بعد أن نزلوا به فرجعوا إلى المدينة وكانت المدينة خلفهم . وهذا عندي أظهر الوجهين وأليق بقوله بعد { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر إلى قوله : { وأدبارهم } [ محمد : 26 ، 27 ] . والهدى على هذا الوجه هو الحقّ ، أي من بعد ما علموا أن الحق قتال المشركين .
وأوثر أن يكون خبر ( إنَّ ) جملة ليتاتَّى بالجملة اشتمالها على خصائص الابتداءِ باسم الشيطان للاهتمام به في غرض ذمهم ، وأن يسند إلى اسمه مُسند فعلي ليفيد تقوّي الحكم نحو : هو يعطي الجزيل .
والتسويل : تسهيل الأمر الذي يستشعر منه صعوبة أو ضر وتزيين ما ليس بحسن .
والإملاء : المدّ والتمديد في الزمان ، ويطلق على الإبقاء على الشيء كثيراً ، أي أراهم الارتداد حسناً دائماً كما حكى عنه في قوله تعالى : { قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخُلد ومُلك لا يبلى } [ طه : 120 ] ، أي أن ارتدادهم من عمل الشيطان .
وقرأ الجمهور { وأملى لهم } بفتح الهمزة على صيغة المبني للفاعل . وقرأه أبو عمرو بضم الهمزة وكسر اللام وفتح التحتية على صيغة المبني إلى المجهول . وقرأه يعقوب بضم الهمزة وكسر اللام وسكون التحتية على أنه مسند إلى المتكلم فالضمير عائد إلى الله تعالى ، أي الشيطان سَوّل لهم وأنا أُملِي لهم فيكون الكلام وعيداً ، أي أنا أؤخرهم قليلاً ثم أعاقبهم .