ثم أمرهم بالأمر الخاص ، الذي لا يتم إيمانهم ، ولا يصح إلا به فقال : { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ } وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بالإيمان به ، واتباعه ، ويستلزم ذلك ، الإيمان بمن أنزل عليه ، وذكر الداعي لإيمانهم به ، فقال : { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } أي : موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا ، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب ، غير مخالف لها ، فلا مانع لكم من الإيمان به ، لأنه جاء بما جاءت به المرسلون ، فأنتم أولى من آمن به وصدق به ، لكونكم أهل الكتب والعلم .
وأيضا فإن في قوله : { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به ، عاد ذلك عليكم ، بتكذيب ما معكم ، لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم .
وأيضا ، فإن في الكتب التي بأيدكم ، صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به ، فإن لم تؤمنوا به ، كذبتم ببعض ما أنزل إليكم ، ومن كذب ببعض ما أنزل إليه ، فقد كذب بجميعه ، كما أن من كفر برسول ، فقد كذب الرسل جميعهم .
فلما أمرهم بالإيمان به ، نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال : { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي : بالرسول والقرآن .
وفي قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أبلغ من قوله : { ولا تكفروا به } لأنهم إذا كانوا أول كافر به ، كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به ، عكس ما ينبغي منهم ، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم .
ثم ذكر المانع لهم من الإيمان ، وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية ، فقال : { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل ، التي يتوهمون انقطاعها ، إن آمنوا بالله ورسوله ، فاشتروها بآيات الله واستحبوها ، وآثروها .
{ وَإِيَّايَ } أي : لا غيري { فَاتَّقُونِ } فإنكم إذا اتقيتم الله وحده ، أوجبت لكم تقواه ، تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل ، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل ، فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم .
{ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : آمِنُوا : صدّقوا ، كما قد قدمنا البيان عنه قبل . ويعني بقوله : بمَا أنْزَلْت : ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن . ويعني بقوله : مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ أن القرآن مصدّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة . فأمرهم بالتصديق بالقرآن ، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة . ففي تصديقهم بما أنزل على محمد تصديق منهم لما معهم من التوراة ، وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة . وقوله : مُصَدّقا قَطْعٌ من الهاء المتروكة في أنْزَلْتُهُ من ذكر «ما » . ومعنى الكلام : وآمنوا بالذي أنزلته مصدّقا لما معكم أيها اليهود . والذي معهم هو التوراة والإنجيل . كما :
حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ يقول : إنما أنزلت القرآن مصدقا لما معكم التوراة والإنجيل .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ يقول : يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدّقا لما معكم . يقول : لأنهم يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : كيف قيل : وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ والخطاب فيه لجمع وكافر واحد ؟ وهل نجيز إن كان ذلك جائزا أن يقول قائل : لا تكونوا أوّل رجل قام ؟ قيل له : إنما يجوز توحيد ما أضيف له «أفعل » ، وهو خبر لجمع ، إذا كان مشتقا من «فعل » و«يفعل » لأنه يؤدي عن المراد معه المحذوف من الكلام ، وهو «مَنْ » ، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه «مَنْ » من الجمع والتأنيث وهو في لفظ واحد . ألا ترى أنك تقول : ولا تكونوا أوّل من يكفر به ، ف«مَنْ » بمعنى جمع وهو غير متصرّف تصرّف الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث . فإذا أقيم الاسم المشتق من فعل ويفعل مقامه ، جرى وهو موحد مجراه في الأداء عما كان يؤدّي عنه من معنى الجمع والتأنيث ، كقولك : الجيش ينهزم ، والجند يقبل فتوحد الفعل لتوحيد لفظ الجيش والجند ، وغير جائز أن يقال : الجيش رجل ، والجند غلام ، حتى تقول : الجند غلمان ، والجيش رجال لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من فعل ويفعل لا يؤدي عن معنى الجماعة منهم ، ومن ذلك قول الشاعر :
وَإذَا هُمُ طَعِمُوا فألأَمُ طاعِمٍ *** وَإِذَا هُمُ جاعُوا فَشَرّ جِياعِ
فوحد مرّة على ما وصفت من نية «مَنْ » ، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتقّ من فعل ويفعل مقامه . وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء المخبر عنهم . ولو وحد حيث جمع أو جمع حيث وحد كان صوابا جائزا .
فأما تأويل ذلك فإنه يعني به : يا معشر أحبار أهل الكتاب صدّقوا بما أنزلت على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدّق كتابكم ، والذي عندكم من التوراة والإنجيل المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبي المبعوث بالحقّ ، ولا تكونوا أوّل من كذّب به وجحد أنه من عندي وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم . وكفرُهم به : جحودهم أنه من عند الله ، والهاء التي في «به » من ذكر «ما » التي مع قوله : وآمِنُوا بِمَا أنْزَلْتُ . كما :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : وَلا تَكُونُوا أولَ كَافِرٍ بِهِ بالقرآن .
قال أبو جعفر : ورُوي عن أبي العالية في ذلك ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ يقول : لا تكونوا أوّل من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : وَلا تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ يعني بكتابكم ، ويتأوّل أن في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبا منهم بكتابهم لأن في كتابهم الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدان . وذلك أن الله جل ثناؤه أمر المخاطبين بهذه الآية في أوّلها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال جل ذكره : وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد ، لأن محمدا صلوات الله عليه رسول مرسل لا تنزيلٌ مُنزل ، والمنزل هو الكتاب . ثم نهاهم أن يكونوا أوّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أوّل الآية من أهل الكتاب . فذلك هو الظاهر المفهوم ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكر ظاهر فيعاد عليه بذكره مكنيّا في قوله : وَلا تَكُونُوا أوّلَ كافِرٍ بِهِ ، وإن كان غير محال في الكلام أن يذكر مكنيّ اسم لم يجر له ذكر ظاهر في الكلام . وكذلك لا معنى لقول من زعم أن العائد من الذكر في «به » على «ما » التي في قوله : لِمَا مَعَكُمْ لأنّ ذلك وإن كان محتملاً ظاهر الكلام ، فإنه بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التلاوة والتنزيل ، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أوّل الآية هو القرآن ، فكذلك الواجب أن يكون المنهي عن الكفر به في آخرها هو القرآن . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غير المنهي عن الكفر به في كلام واحد وآية واحدة ، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام ، هذا مع بعد معناه في التأويل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَآمنُوا بِمَا أنْزَلْتَ مصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنا قَلِيلاً .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية وَلاَ تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنا قَلِيلاً يقول : لا تأخذوا عليه أجرا . قال : هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول : يا ابن آدم عَلّمْ مجانا كما عُلّمْتَ مَجّانا .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنا قَلِيلاً يقول : لا تأخذوا طمعا قليلاً وتكتموا اسم الله . فذلك الطمع هو الثمن .
فتأويل الآية إذا : لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيس وعرض من الدنيا قليل . وبيعهم إياه تركهم إبانة ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس ، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بثمن قليل ، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم ، وأخذهم الأجر ممن بينوا له ذلك على ما بينوا له منه .
وإنما قلنا معنى ذلك : «لا تبيعوا » لأن مشترى الثمن القليل بآيات الله بائع الاَيات بالثمن ، فكل واحد من الثمن والمثمن مبيع لصاحبه ، وصاحبه به مشتري . وإنما معناه على ما تأوّله أبو العالية : بينوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا تبتغوا عليه منهم أجرا . فيكون حينئذٍ نهيه عن أخذ الأجر على تبيينه هو النهي عن شراء الثمن القليل بآياته .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإيّايَ فاتّقُونِ .
قال أبو جعفر : يقول : فاتقون في بيعكم آياتي بالخسيس من الثمن ، وشرائكم بها القليل من العَرَض ، وكفركم بما أنزلت على رسولي ، وجحودكم نبوّة نبيي أن أحلّ بكم ما أحللت بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنّقِمَات .
وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ( 41 )
{ وآمنوا } معناه صدقوا ، و { مصدقاً } نصب على الحال من الضمير في { أنزلت }( {[533]} ) ، وقيل ما «والعامل فيه { آمنوا } وما أنزلت كناية عن القرآن ، و { لما معكم } يعني من التوراة وقوله تعالى : { ولا تكونوا أول كافر به } هذا من مفهوم الخطاب الذي : المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد ، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي( {[534]} ) ، ولكن حذروا البدار إلى الكفر به إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به( {[535]} ) ، ونصب أول على خبر كان .
قال سيبويه : { أول } أفعل لا فعل له لاعتلال فائه وعينه » قال غير سيبويه : «هو أوأل من وأل إذا نجا( {[536]} ) ، خففت الهمزة وأبدلت واواً وأدغمت » .
وقيل : إنه من آل فهو أأول قلب فجاء وزنه أعفل ، وسهل وأبدل وأدغم ، ووحد كافر وهو بنية الجمع لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم ، والمراد به الجماعة( {[537]} ) .
وإذا همُ طعموا فألأمُ طاعمٍ . . . وإذا همُ جاعوا فشرُّ جياع( {[538]} )
وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال ولا تكونوا أول كافرين به( {[539]} ) وقيل معناه : ولا تكونوا أول فريق كافر به .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقد كان كفر قبلهم كفار قريش ، فإنما معناه من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا ، لأنهم حجة مظنون بهم علم ، واختلف في الضمير في { به } على من يعود ، فقيل على محمد عليه السلام ، وقيل على التوراة إذ تضمنها قوله : { لما معكم } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وعلى هذا القول( {[540]} ) يجيء { أول كافر به } مستقيماً على ظاهرة في الأولية ، وقيل الضمير في { به } عائد على القرآن ، إذ تضمنه قوله { بما أنزلت } .
واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات . فقالت طائفة : إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة ، فنهوا عن ذلك وفي كتبهم : علم مجاناً كما علمت مجاناً أي باطلاً بغير أجرة .
وقال قوم : كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك .
وقال قوم : إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه السلام في التوراة ، ففي ذلك قال تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً }( {[541]} ) [ البقرة : 41 ، المائدة : 44 ] .
وقال قوم : معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيَّ وآياتي ثمناً قليلاً ، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له ، وقد تقدم نظير قوله { وإياي فاتقون }( {[542]} ) وبين { اتقون }( {[543]} ) و { ارهبون } فرق ، ان الرهبة مقرون بها وعيد بالغ .