تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

أي : وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله ، وهو القرآن استكبروا وعتوا ، و { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي : بما سواه من الكتب ، مع أن الواجب أن يؤمن بما أنزل الله مطلقا ، سواء أنزل عليهم ، أو على غيرهم ، وهذا هو الإيمان النافع ، الإيمان بما أنزل الله على جميع رسل الله .

وأما التفريق بين الرسل والكتب ، وزعم الإيمان ببعضها دون بعض ، فهذا ليس بإيمان ، بل هو الكفر بعينه ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا }

ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا ، وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه ، فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال : { وَهُوَ الْحَقُّ } فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات ، والأوامر والنواهي ، وهو من عند ربهم ، فالكفر به بعد ذلك كفر بالله ، وكفر بالحق الذي أنزله .

ثم قال : { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } أي : موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه .

فلم تؤمنون بما أنزل عليكم ، وتكفرون بنظيره ؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى ؟

وأيضا ، فإن كون القرآن مصدقا لما معهم ، يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب ، قلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به ، فإذا كفروا به وجحدوه ، صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها ، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته ، ثم يأتي هو لبينته وحجته ، فيقدح فيها ويكذب بها ، أليس هذا من الحماقة والجنون ؟ فكان كفرهم بالقرآن ، كفرا بما في أيديهم ونقضا له .

ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله : { قُلْ } لهم : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنبياء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }

يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإذَا قِيلَ لَهُمْ } وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمِنُوا أي صدّقوا ، بِمَا أنْزَلَ اللّهُ يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم . قالُوا نُؤْمِنُ أي نصدّق ، بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } .

يعني جل ثناؤه بقوله : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } ويجحدون بما وراءه ، يعني بما وراء التوراة .

قال أبو جعفر : وتأويل «وراءه » في هذا الموضع «سوى » كما يقال للرجل المتكلم بالحسن : ما وراء هذا الكلام شيء ، يراد به ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام فكذلك معنى قوله : وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ أي بما سوى التوراة وبما بعده من كتب الله التي أنزلها إلى رسله . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَيَكُفُرُونَ بِمَا وراءَهُ } يقول : بما بعده .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي بما بعده ، يعني بما بعد التوراة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يقول : بما بعده .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ } .

يعني بقوله جل ثناؤه : { وهُوَ الحَقّ مُصدّقا } أي ما وراء الكتاب الذي أنزل عليهم من الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه الحق . وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أنْزَلَ اللّهُ ، قالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } وهو القرآن . يقول الله جل ثناؤه : وَهُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ . وإنما قال جل ثناؤه : { مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ } لأن كتب الله يصدّق بعضها بعضا ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به وبما جاء به ، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام فلذلك قال جل ثناؤه لليهود إذ خبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه : إنّهُ الحَقّ مُصَدّقا للكتاب الذي معهم ، يعني أنه له موافق فيما اليهود به مكذّبون .

قال : وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان ، عنادا لله وخلافا لأمره وبغيا على رسله صلوات الله عليهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لمَ تَقْتُلُونَ أنبياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .

يعني جل ذكره بقوله : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّه } ِ : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل الذين إذا قلت لهم : آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ، لِمَ تَقْتُلُونَ إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم ، أنْبِياءهُ وقد حرّم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم . وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم : نُؤمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وتعيير لهم . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال الله تعالى ذكره وهو يعيرهم ، يعني اليهود : { فلم تَقْتُلُون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } .

فآن قال قائل : وكيف قيل لهم : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياء اللّهِ مِنْ قَبْلُ فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل ، ثم أخبر أنه قد مضى ؟ قيل : إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك ، فقال بعض البصريين : معنى ذلك : فلم قتلتم أنبياء الله من قبل ؟ كما قال جل ثناؤه : وَاتّبعُوا ما تَتْلُو الشّياطِين أي ما تلت ، وكما قال الشاعر :

ولقَدْ أمُرّ على اللّئِيمِ يسُبّنِي فمَضَيْتُ عَنْهُ وقُلْتُ لا يَعْنِينِي

يريد بقوله : «ولقد أمرّ » : ولقد مررت . واستدلّ على أن ذلك كذلك بقوله : «فمضيت عنه » ، ولم يقل : «فأمضي عنه » . وزعم أن «فعل ويفعل » قد تشترك في معنى واحد ، واستشهد على ذلك بقول الشاعر :

وإنّي لاَتِيكُمْ تَشَكّرَ ما مَضَى *** مِنَ الأمرِ واسْتِيجابَ ما كانَ فِي غَدِ

يعني بذلك : ما يكون في غد . وبقول الحطيئة :

شَهِدَ الحطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبّهُ *** أنّ الوَلِيدَ أحَقّ بالعُذْرِ

يعني : يشهد . وكما قال الاَخر :

فَمَا أُضْحي وَلا أمْسَيْتُ إلاّ *** أرَانِي مِنْكُمُ في كَوّفانٍ

فقال : أضحي ، ثم قال : ولا أمسيت .

وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما قيل : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ } فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ومعناه الماضي ، كما يعنف الرجلُ الرجل على ما سلف منه من فعل ، فيقول له : ويحك لم تكذب ولم تبغّض نفسك إلى الناس ؟ كما قال الشاعر :

إذَا ما انْتَسَبْنا لَمْ تَلِدنِي لَئِيمَةٌ *** ولَمْ تَجْدِي مِنْ أَنْ تُقِرّي بِهِ بُدّا

فالجزاء للمستقبل ، والولادة كلها قد مضت وذلك أن المعنى معروف ، فجاز ذلك .

قال : ومثله في الكلام إذا نظرت في سيرة عمر لم تجده يسيء ، المعنى : لم تجده أساء ، فلما كان أمر عمر لا يشكّ في مضيه لم يقع في الوهم أنه مستقبل ، فلذلك صلحت من قبل مع قوله : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ .

قال : وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة ، إنما قتلَ الأنبياءَ أسلافُهم الذين مضوا ، فتلوهم على ذلك ورضوا فنسب القتل إليهم .

والصواب فيه من القول عندنا أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ، بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور ، بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم ، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه ، وارتكابهم معاصيه ، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه ، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به نظير قول العرب بعضها لبعض : فعلنا بكم يوم كذا وكذا ، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا ، على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا ، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم . فكذلك ذلك في قوله : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ ، وإن كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم على نحو الذي بينا ، جاز أن يقال من قبل إذْ كان معناه : قل فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل ؟ وكان معلوما بأن قوله : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إنما هو خبر عن فعل سلفهم . وتأويل قوله : مِنْ قَبْلُ أي من قبل اليوم .

أما قوله : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإنه يعني إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما زعمتم . وإنما عَنَى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم ، إن كانوا وكنتم كما تزعمون أيها اليهود مؤمنين . وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه عند قولهم حين قيل لهم : آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا لأنهم كانوا لأوائلهم الذين تولوا قتل أنبياء الله مع قيلهم : نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنا متولّين ، وبفعلهم راضين ، فقال لهم : إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم ، فلم تتولون قتلة أنبياء الله ؟ أي ترضون أفعالهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)

{ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } يعم الكتب المنزلة بأسرها . { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } أي بالتوراة { ويكفرون بما وراءه } حال من الضمير في قالوا ، ووراء في الأصل جعل ظرفا ، ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد . { وهو الحق } الضمير لما وراءه ، والمراد به القرآن { مصدقا لما معهم } حال مؤكدة تتضمن رد مقالهم ، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } اعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع إدعاء الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغه ، وإنما أسنده إليهم لأنه فعل آبائهم ، وأنهم راضون به عازمون عليه . وقرأ نافع وحده أن " أنباء الله " مهموزا في جميع القرآن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }( 91 )

وقوله تعالى : { وإذا قيل لهم } يعني : اليهود أنهم إذ قيل لهم : آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } يعنون التوراة وما وراءه . قال قتادة : أي ما بعده ، وقال الفراء ، أي ما سواه ويعني به القرآن( {[945]} ) ، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلاً فأجاد يقال له ما وراء ما أتيت به شيء ، أي ليس يأتي بعده( {[946]} ) . ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق ، و { مصدقاً } حال مؤكدة عند سيبويه( {[947]} ) ، وهي غير منتقلة ، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد ، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة .

[ البسيط ] :

أنا ابن دارة معروفاً بها حسبي . . . وهل لدارة يا للنّاس من عار( {[948]} )

و { لما معهم } يريد به التوراة .

وقوله تعالى : { قل فلم تقتلون } الآية رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم ، وتكذيب منه لهم في ذلك ، واحتجاج عليهم . ولا يجوز الوقف على { فلم } لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي( {[949]} ) وقف عليه بالهاء ، وسائر القراء بسكون الميم( {[950]} ) . وخاطب الله من حضر محمداً صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم . وجاء { تقتلون } بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله { من قبل } وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي . قال الحطيئة

[ الكامل أخذ مضمر ] .

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه . . . أن الوليد أحق بالعذر( {[951]} )

وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل ، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع( {[952]} ) . وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر( {[953]} ) . ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء ، و { إن كنتم } شرط والجواب متقدم ، وقالت فرقة : { إن } نافية بمعنى ما .


[945]:- ما قاله قتادة والفراء بمعنى واحد.
[946]:- أي ليس عندك شيء سوى ذلك.
[947]:- زعم سيبويه، والخليل، وجميع النحاة الموثوق بهم، أن قولك: "هو زيد قائما" غير قولك: هو زيد معروفا" لأن الحال في الأول يوجب أنه إن كان قائما فهو زيد، وإذا ترك القيام فليس بزيد، فذلك القول خطأ- وأما قولك: "هو زيد معروفا" فمعناه هو زيد حقا لأنه إنما يكون زيدا إذا كان يُعرف بزيد، ومثله قوله تعالى: "هو الحق مصدقا"- فالقرآن هو الحق إذا كان مصدقا لما معهم.
[948]:- قائله: سالم بن دارة، ودارة اسم أمه، وقيل: اسم أحد أجداده. ومعروفا حال مؤكدة لجملة: أنا ابن دارة. كقوله تعالى: "مصدقا" فهو حال مؤكدة لقوله: "وهو الحق". ويروى: (نسبي) بدلا من (حسبي).
[949]:- هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة، محقق، متقن للقراءة، لكنه في الحديث منكر ضعيف الحديث.توفي سنة (250هـ).
[950]:- وهذا الموقف لا يجوز إلا لقصد الاختبار أو لانقطاع النفس.
[951]:- الحطيئة لقب لجرول العبسي الشاعر المشهور، وشهد بمعنى يشهد.
[952]:- نحو قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله) لما كان ذلك محقق الوقوع في المستقبل عبر عنه بالماضي الذي يدل على الوقوع.
[953]:- ولذلك كانوا يحومون حول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسحروه وسموه حتى قال صلى الله عليه وسلم عند موته: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبهري)- ولقد كان في الإتيان بالفعل مستقبلا ما يهدي إلى أن عادتهم قتل الأنبياء- لأنه إذا كان هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل قد أمروا أن يؤمنوا به وينصروه، ومع ذلك راموا قتله، فكيف من لم يتقدم لهم فيه عهد من الله فقتله عندهم أولى، والحديث المشار إليه أخرجه البزار وغيره من حديث أبي هريرة، والقضية مذكورة في البخاري ومسلم.