{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ْ }
أي : من تكرر منه الكفر بعد الإيمان فاهتدى ثم ضل ، وأبصر ثم عمي ، وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه ، فإنه بعيد من التوفيق والهداية لأقوم الطريق ، وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها . فإن كفره يكون عقوبة وطبعًا لا يزول كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ } { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ } ودلت الآية : أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى الإيمان ، وتركوا ما هم عليه من الكفران ، فإن الله يغفر لهم ، ولو تكررت منهم الردة .
وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت منه ثم عاد إلى التوبة ، عاد الله له بالمغفرة .
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : { إنّ الّذِينَ آمَنُوا } بموسى { ثُمّ كَفَرُوا } به { ثُمّ آمَنُوا } يعني النصارى بعيسى ، { ثُمّ كَفَرُوا } به { ثُمّ ازدادوا كُفُرْا } بمحمد ، { لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبيِلاً } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ الّذينَ آمَنُوا ثمّ كَفَروا ثمّ آمنُوا ثمّ كفَرُوا ثمّ ازْدَادُوا كُفْرا } وهم اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة ، ثم كفرت¹ وآمنت النصارى بالإنجيل ، ثم كفرت¹ وكفرهم به : تركهم إياه ، ثم ازدادوا كفرا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقال الله : { لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدَيهُمْ سَبِيلاً } يقول : لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى ، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : «إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثمّ كَفَروا } قال : هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ، ثم كفروا . ثم ذكر النصاري ، ثم قال : { ثمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } يقول : آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل عني بذلك : أهل النفاق أنهم آمنوا ثم ارتدّوا ، ثم آمنوا ثم ارتدّوا ، ثم ازدادوا كفرا بموتهم على كفرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : { إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : كنا نحسبهم المنافقين ، ويدخل في ذلك من كان مثلهم . { ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : ثَمّوا على كفرهم حتى ماتوا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : ماتوا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : حتى ماتوا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا } . . . الاَية ، قال : هؤلاء المنافقون آمنوا مرّتين ، وكفروا مرّتين ، ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك .
وقال آخرون : بل هم أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا ، فلم تقبل منهم التوبة فيها مع إقامتهم على كفرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية : { إنّ الّذِينَ آمنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : هم اليهود والنصارى أذنبوا في شركهم ، ثم تابوا فلم تقبل توبتهم ، ولو تابوا من الشرك لقبل منهم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : عني بذلك أهل الكتاب الذين أقرّوا بحكم التوراة ، ثم كذبوا بخلافهم إياه ، ثم أقرّ من أقرّ منهم بعيسى والإنجيل ، ثم كذب به بخلافه إياه ، ثم كذّب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان ، فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره .
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الاَية ، لأن الاَية قبلها في قصص أهل الكتابين ، أعني قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ } ولا دلالة تدلّ على أن قوله : { إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا } منقطع معناه من معنى ما قبله ، فإلحاقه بما قبله أَوْلَى حتى تأّي دلالة دالة على انقطاعه منه .
وأما قوله : { لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } فإنه يعني : لم يكن الله ليستر عليهم كفرهم وذنوبهم بعفوه عن العقوبة لهم عليه ، ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد . { وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } يقول : ولم يكن ليسدّدهم لإصابة طريق الحقّ فيوفقهم لها ، ولكنه يخذلهم عنها عقوبة لهم على عظيم جرمهم وجراءتهم على ربهم . وقد ذهب قوم إلى أن المرتدّ يستتاب ثلاثا انتزاعا منهم بهذه الاَية ، وخالفهم على ذلك آخرون . ذكر من قال يستتاب ثلاثا :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الشعبيّ ، عن عليّ عليه السلام ، قال : إن كنت لمستتيب المرتدّ ثلاثا . ثم قرأ هذه الاَية : { إنّ الّذينَ آمَنُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن عليّ رضي الله عنه : يستتاب المرتدّ ثلاثا ، ثم قرأ : { إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْداداوا كُفْرا } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم ، عن رجل ، عن ابن عمر ، قال : يستتاب المرتدّ ثلاثا .
وقال آخرون : يستتاب كلما ارتدّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عمن سمع إبراهيم ، قال : يستتاب المرتدّ كلما ارتد .
قال أبو جعفر : وفي قيام الحجة بأن المرتدّ يستتاب المرة الأولى ، الدليل الواضح على أن الحكم كل مرّة ارتدّ فيها عن الإسلام حكم المرّة الأولى في أن توبته مقبولة ، وأن إسلامه حقن له دمه¹ لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامه ، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه محقونا في الحالة الأولى ثم يكون دمه مباحا مع وجودها ، إلا أن يفرق بين حكم المرّة الأولى وسائر المرّات غيرها ما يجب التسليم له من أصل محكم ، فيخرج من حكم القياس حينئذٍ .
{ إن الذين آمنوا } يعني اليهود آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام . { ثم كفروا } حين عبدوا العجل . { ثم آمنوا } بعد عوده إليهم . { ثم كفروا } بعيسى عليه الصلاة والسلام . { ثم ازدادوا كفرا } بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو قوما تكرر منهم الارتداد ثم أصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي . { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } إذ يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان ، فإن قلوبهم ضربت بالكفر وبصائرهم عميت عن الحق لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم ، وخبر كان في أمثال ذلك محذوف تعلق به اللام مثل : لم يكن الله مريدا ليغفر لهم .
واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } فقالت طائفة منهم قتادة وأبو العالية : الآية في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورجح الطبري هذا القول ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره }{[4329]} وقال مجاهد وابن زيد : الآية في المنافقين ، فإن منهم من كان يؤمن ثم يكفر ، ثم يؤمن ثم يكفر ، يتردد في ذلك ، فنزلت هذه الآية فيمن ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات .
قال القاضي : وهذا هو القول المترجح ، وقول الحسن بن أبي الحسن جيد محتمل ، وقول قتادة وأبي العالية وهو الذي رجح الطبري قول ضعيف ، تدفعه ألفاظ الآية ، وذلك أن الآية إنما هي في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من التردد بين الكفر والإيمان ، ثم يزداد كفراً بالموافاة ، واليهود والنصارى لم يترتب في واحد منهم إلا إيمان واحد وكفر واحد ، وإنما يتخيل فيهم الإيمان والكفر مع تلفيق الطوائف التي لم تتلاحق في زمان واحد ، وليس هذا مقصد الآية{[4330]} ، وإنما توجد هذه الصفة في شخص من المنافقين ، لأن الرجل الواحد منهم يؤمن ثم يكفر ، ثم يوافي على الكفر وتأمل قوله تعالى : { لم يكن الله ليغفر لهم } فإنها عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم ، ولذلك ترددوا وليست هذه العبارة مثل أن يقول : لا يغفر الله لهم ، بل هي أشد ، وهي مشيرة إلى استدراج من هذه حاله وإهلاكه{[4331]} ، وهي عبارة تقتضي لسامعها أن ينتبه ويراجع قبل نفوذ الحتم عليه ، وأن يكون من هؤلاء ، وكل من كفر كفراً واحداً ووافى عليه فقد قال الله تعالى : إنه لا يغفر له ، ولم يقل { لم يكن الله ليغفر له } فتأمل الفرق بين العبارتين فإنه من دقيق غرائب الفصاحة التي في كتاب الله تعالى ، كأن قوله { لم يكن الله } حكم قد تقرر عليهم في الدنيا وهم أحياء .