تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

فأمر رسوله أن يشكر ربه على ذلك ، ويسبح بحمده ويستغفره ، وأما الإشارة ، فإن في ذلك إشارتين : إشارة لأن يستمر النصر لهذا الدين{[1488]} ، ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره من رسوله ، فإن هذا من الشكر ، والله يقول : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } ، وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين ، وبعدهم في هذه الأمة لم يزل نصر الله مستمرًا ، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان ، ودخل فيه ، ما لم يدخل في غيره ، حتى حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث ، فابتلاهم{[1489]} الله  بتفرق الكلمة ، وتشتت الأمر ، فحصل ما حصل .

[ ومع هذا ] فلهذه الأمة ، وهذا الدين ، من رحمة الله ولطفه ، ما لا يخطر بالبال ، أو يدور في الخيال .

وأما الإشارة الثانية ، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب ودنا ، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل ، أقسم الله به .

وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار ، كالصلاة والحج ، وغير ذلك .

فأمر الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال ، إشارة إلى أن أجله قد انتهى ، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه ، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه .

فكان صلى الله عليه وسلم يتأول القرآن ، ويقول ذلك في صلاته ، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي " .


[1488]:- في ب: إشارة أن النصر يستمر للدين.
[1489]:- في ب: فابتلوا.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

وقوله : { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } يقول : فسبح ربّك وعظمه بحمده وشكره ، على ما أنجز لك من وعده . فإنك حينئذٍ لاحق به ، وذائق ما ذاق مَنْ قَبْلك من رُسله من الموت . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، سألهم عن قول الله تعالى : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } قالوا : فتح المدائن والقصور . قال : فأنت يا ابن عباس ما تقول ؟ قلت : مَثَلٌ ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، نُعِيتْ إليه نفسه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدنيه ، فقال له عبد الرحمن : إن لنا أبناءً مثلَه ، فقال عمر : إنه من حيث تعلم ، قال : فسأله عمر عن قول الله : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } السورة ، فقال ابن عباس : أجله ، أعلمه الله إياه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم .

حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر رضي الله عنه : ما هي ؟ يعني { إذا جاء نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْحُ } قال ابن عباس : إذَا { جاءَ نَصُرُ اللّهِ{ حتى بلغ : { وَاسْتغْفِرْهُ } إنك ميت{ إنّهُ كانَ تَوّابا } . فقال عمر : ما نعلم منها إلا ما قلت .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } علم النبيّ أنه نُعِيتْ إليه نفسه ، فقيل له : { إذا جاء نصر الله والفتح } إلى آخر السورة .

حدثنا أبو كرَيب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نُعِيَتْ إليّ نَفْسِي ، كأنّي مَقْبُوضٌ فِي تِلكَ السّنَةِ » .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } قال : ذاك حين نَعَى له نفسه . يقول : إذا رأَيْتَ النّاسَ { يَدْخُلونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا } يعني إسلام الناس ، يقول : فذاك حين حضر أجلُك { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا } .

حدثني أبو السائب وسعيد بن يحيى الأموي ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول قبل أن يموت : «سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك » . قالت : فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الكلمات التي أراك قد أحدثَتها تقولها ؟ قال : «قَدْ جُعِلَتْ لي عَلامَةٌ فِي أُمّتِي إذَا رَأيْتُها قُلْتُها { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ والْفَتْحُ } إلى آخر السورة » .

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أُنزلت عليه هذه السورة { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } لا يقول قبلها : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهمّ اغفر لي .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : «سبحانك اللهمّ وبحمدك ، اللهمّ اغفر لي » ، يتأوّل القرآن .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، قال داود : لا أعلمه إلا عن مسروق ، وربما قال عن مسروق ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول : «سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه » ، فقلت : إنك تُكثر من هذا ، فقال : «إنّ رَبّي قَدْ أخْبَرنِي أنّي سأَرَى عَلامَةً فِي أُمّتِي ، وأمَرَنِي إذَا رأَيْتُ تِلكَ الْعَلامَةَ أنْ أُسَبّحَ بحَمْدِهِ ، وأسْتَغْفِرَهُ إنّهُ كانَ تَوّابا ، فَقَدْ رأيْتُها إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ » .

حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، قال : حدثنا عاصم ، عن الشعبيّ ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال : «سبحان الله وبحمده » ، فقلت : يا رسول الله ، إنك تُكثر من سبحان الله وبحمده ، لا تذهب ولا تجيء ، ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت : سبحان الله وبحمده ، قال : «إنّي أُمِرْتُ بِها » ، فقال : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } إلى آخر السورة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت سورة { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } كلها بالمدينة بعد فتح مكة ، ودخولها الناس في الدين ، يَنْعي إليه نفسه .

قال : ثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن زياد بن الحصين ، عن أبي العالية ، قال : لما نزلت : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } ونُعَيتْ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسُه ، كان لا يقوم من مجلس يجلس فيه حتى يقولَ : «سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك » .

قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، قال : لما نزلت : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول : «سبحانك اللهمّ وبحمدك ، ربّ اغفر لي وتب عليّ ، إنك أنت التوّاب الرحيم » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ قرأها كلها قال ابن عباس : هذه السورة عَلَم وحَدّ حدّه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ونَعَى له نفسَه . أي إنك لن تعيشَ بعدها إلا قليلاً . قال قتادة : والله ما عاش بعد ذلك إلا قليلاً ، سنتين ، ثم توفي صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي معاذ عيسى بن أبي يزيد ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود ، قال : لما نزلت : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } كان يُكثر أن يقول : «سبحانك اللهمّ وبحمدك ، اللهمّ اغفر لي ، سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهمّ اغفر لي ، إنك أنت التوّاب الغفور » .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قول الله : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفْتْحُ } : كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا } قال : اعلم أنك ستموت عند ذلك .

وقوله : { وَاسْتَغْفِرْهُ } يقول : وسَلْه أن يغفر ذنوبَك . إنّهُ كانَ تَوّابا : يقول : إنه كان ذا رجوع لعبده ، المطيع إلى ما يحبّ . والهاء من قوله «إنه » من ذكر الله عزّ وجلّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

{ فسبح بحمد ربك } فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامدا له ، أو فصل له حامدا على نعمه . روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد ، فدخل الكعبة ، وصلى ثماني ركعات . أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه ، حامدا له على أن صدق وعده . أو فأثن على الله تعالى بصفات الجلال ، حامدا له على صفات الإكرام .

واستغفره هضما لنفسك واستقصارا لعملك واستدراكا لما فرط منك من الالتفات إلى غيره وعنه عليه صلى الله عليه وسلم إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وقيل استغفره لأمتك وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق كما قيل ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله إنه كان توابا لمن استغفره مذ خلق المكلفين .

ختام السورة:

والأكثر على أن السورة نزلت قبل فتح مكة ، وأنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لما قرأها بكى العباس رضي الله عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك " ؟ فقال : نعيت إليك نفسك . فقال : " إنها لكما تقول " ، ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة ، وكمال أمر الدين ، فهي كقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } ، أو لأن الأمر بالاستغفار تنبيه على دنو الأجل ، ولهذا سميت سورة التوديع . وعنه صلى الله عليه وسلم : " من قرأ سورة ( إذا جاء ) أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " شرفها الله تعالى .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ فسبح بحمد ربك } يقول : فأكثر ذكر ربك { واستغفره } من الذنوب . ... { إنه كان توابا } للمستغفرين .

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله : { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } يقول : فسبح ربّك وعظمه بحمده وشكره ، على ما أنجز لك من وعده، فإنك حينئذٍ لاحق به ، وذائق ما ذاق مَنْ قَبْلك من رُسله من الموت ...

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدنيه ، فقال له عبد الرحمن : إن لنا أبناءً مثلَه ، فقال عمر : إنه من حيث تعلم ، قال : فسأله عمر عن قول الله : { إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } السورة ، فقال ابن عباس : أجله ، أعلمه الله إياه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ...

وقوله : { وَاسْتَغْفِرْهُ } يقول : وسَلْه أن يغفر ذنوبَك . إنّهُ كانَ تَوّابا : يقول : إنه كان ذا رجوع لعبده ، المطيع إلى ما يحبّ . والهاء من قوله «إنه » من ذكر الله عزّ وجلّ .

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ فسبح بحمد ربك } أي قل : سبحان الله وبحمده على ما جاء في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه " ( مسلم 484/220 ) . وهذا لأن " سبحان الله " حرف جامع يجمع جميع ما يستحق من الثناء عليه ، والوصف له بالعلو والعظمة والجلال ، والتنزيه عن جميع العيوب والآفات ، وعن جميع معاني الخلق ، جعل لهم هذا الجامع لما عرف عجزهم عن القيام بالوصف بجميع ما يستحق من الثناء عليه... { توابا } يحتمل وجوها :

أحدهما : على التكثير ، أي يقبل توبة بعد توبة ، أي إذا تاب مرة ، ثم ارتكب الحرم ، وعصاه ، ثم تاب ثانيا وثالثا ، وإن كثر فإنه يقبل توبته .

والثاني : توابا ، أي رجاعا يرجعهم ، ويردهم عن المعاصي إلى أن يتوبوا ، أي هو الذي يوفقهم إلى التوبة .

والثالث : قال { توابا } ولم يقل غفارا ، وحق مثله من الكلام أن يقال : إنه كان غفارا ، كما قال في آية أخرى : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا } ( نوح : 10 ) . ولكن المعنى عندنا أن المراد من الاستغفار ، ليس قوله : استغفر الله ، ولكن أن يتوب إليه ، ويطلب منه المغفرة بالتوبة { إنه كان توابا } ...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

في أمره بهذا التسبيح والاستغفار وجهان :

أحدهما : أنه أراد بالتسبيح الصلاة ، قاله ابن عباس . وبالاستغفار مداومة الذكر . الثاني : أنه أراد صريح التسبيح ، الذي هو التنزيه والاستغفار من الذنوب . روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك " ، فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها ؟ فقال : " جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها " ...

وفي أمره بهذا بعد النصر والفتح وجهان :

أحدهما : ليكون ذلك منه شكراً لله تعالى على نعمه ؛ لأن تجديد النعم يوجب تجديد الشكر .

الثاني : أنه نعى إليه نفسه ، ليجد في عمله.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } فقل سبحان الله ، حامداً له ، أي : فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم ، واحمده على صنعه .

أو : فاذكره مسبحاً حامداً ، زيادة في عبادته والثناء عليه ، لزيادة إنعامه عليك . أو فصل له . روت أمّ هانئ أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات . وعن عائشة : كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك " . والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين : من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية ، ليكون أمره بذلك مع عصمته لطفاً لأمته ، ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه ...

{ كَانَ تَوَّاباً } أي : كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين تواباً عليهم إذا استغفروا ، فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك .

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ فسبح } ، أي نزه أنت بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها موافقة لمولاك فيما فعل ، وزد في جميع أنواع العبادة ، تسبيحاً متلبساً { بحمد } أي بكمال وإجلال وتعظيم { ربك } أي الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين ، وقمع المعتدين ، المحسن إليك بجميع ذلك .... { واستغفره } أي اطلب غفرانه ، إنه كان غفاراً ، إيذاناً بأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره ، كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات ... { إنه } أي المحسن إليك غاية الإحسان بخلافته لك في أمتك .... { كان } أي لم يزل على التجدد والاستمرار { تواباً } أي رجاعاً بمن هذب به الشيطان من أهل رحمته ، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر ، والاختلاف ، والعداوات ، فأيدك بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً ، حتى أسرع بهم بعد سورة الفتح إلى أن دخلت مكة في عشرة آلاف ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إن شأنه - ومن معه - هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .

التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران .

والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل : الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء . وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري . فمن هذا يكون الاستغفار .

والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي ، والشدة الطاغية والكرب الغامر . . من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر ، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب ) فمن هذا يكون الاستغفار .

والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره . فجهد الإنسان ، مهما كان ، ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان . . ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . . فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .

وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار . . ففيه إيحاء للنفس واشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها . وتطلب العفو من ربها . وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور . .

ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، وهو العاجز القاصر المقصر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو . والنصر نصره ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور .

إنه الأفق الوضيء الكريم ، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه ، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه ، وترف فيه روحه طليقة لأنها تعنو لله !

إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله . ليس لها حظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق ؛ وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة ؛ وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة ، بانية عادلة خيرة ، . . الاتجاه فيها إلى الله .

وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيد برغباته ، مثقل بشهواته . عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه ، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .

وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما . .

كان هذا هو أدب يوسف - عليه السلام - في اللحظة التي تم له فيها كل شيء ، وتحققت رؤياه : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ، وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا . وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشاء ، إنه هو العليم الحكيم ) . .

وفي هذه اللحظة نزع يوسف - عليه السلام - نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر . كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام :

( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما ، وألحقني بالصالحين ) . . وهنا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان ، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين عنده . من فضله ومنه وكرمه . .

وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه : ( فلما رآه مستقرا عنده قال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ) . .

وهذا كان أدب محمد [صلى الله عليه وسلم ] في حياته كلها ، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح ، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر ، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه ، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده ، رضي الله عنهم أجمعين .

وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله ، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت ، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب ، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى ، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه ، وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد ، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه طلبه اللَّه أن يعفو عما يؤاخذه عليه . ومقتضى الظاهر أن يقول : فسبح بحمده ، لتقدم اسم الجلالة في قوله : { إذا جاء نصر اللَّه } فعدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وهو { ربك } لما في صفة ( رب ) وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإِيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإِسلام نعمةً أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب ، لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإِبلاغ إلى الكمال .

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

كيف يعبّر المسلمون عن فرحهم بالنصر ؟

{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوّاباً } وهذا هو الجوّ الذي أراد الله من النبي( ص ) أن يستقبل به النصر والفتح والاندفاع الجماهيري للأمة نحو الإسلام . فليست هناك احتفالات للنصر ، ولا هتافات للفاتحين ، ولا استعراضٌ للقوى المسلّحة ، ولا استعلاء للقيادة ؛ لأن النصر هو نصر الله الذي رحم به عباده المسلمين ، فلا بد للنبي والمسلمين معه أن يواجهوا الموقف بالتسبيح لله تعالى والتحميد له ، للانفتاح على مواقع عظمته في انطلاقات رحمته وفيوضات نعمته ؛ لأن ذلك يؤكد في نفوسهم معنى الخشوع لله ، والإحساس بعبوديتهم له ....