ثم قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال : { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول ، الرادين دعوته ، الزاعمين كذبه في شك واشتباه ، مما نزلنا على عبدنا ، هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف ، فيه الفيصلة بينكم وبينه ، وهو أنه بشر مثلكم ، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم{[67]} وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ، لا يكتب ولا يقرأ ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه ، فإن كان الأمر كما تقولون ، فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم ، فإن هذا أمر يسير عليكم ، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة ، والعداوة العظيمة للرسول ، فإن جئتم بسورة من مثله ، فهو كما زعمتم ، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولكن هذا التقييم{[68]} على وجه الإنصاف والتنزل معكم ، فهذا آية كبرى ، ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به ، فيتعين عليكم اتباعه ، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] ، أن كانت وقودها الناس والحجارة ، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب ، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله . فاحذروا الكفر برسوله ، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله .
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي ، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }
وكيف يقدر المخلوق من تراب ، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه ، أن يأتي بكلام ككلام الكامل ، الذي له الكمال المطلق ، والغنى الواسع من كل الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ، ولا في قدرة الإنسان ، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام ، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ، ظهر له الفرق العظيم .
وفي قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره ، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال ، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق{[69]} إن كان صادقا في طلب الحق .
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ، فهذا لا يمكن رجوعه ، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له ، لم يتركه عن جهل ، فلا حيلة فيه .
وكذلك الشاك غير الصادق{[70]} في طلب الحق ، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه ، فهذا في الغالب أنه لا يوفق .
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم ، قيامه بالعبودية ، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين .
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال ، فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }
{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال أبو جعفر : وهذا من الله عزّ وجلّ احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وإياهم يخاطب بهذه الاَيات ، وضُرباءَهم يعني بها ، قال الله جل ثناؤه : وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شكّ وهو الريب مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي ، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول ، فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوّة على صدقه في دعواه النبوّة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق ، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبرهانه على نبوّته ، وأن ما جاء به من عندي ، عَجْزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله . وإذا عجزتم عن ذلك ، وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية ، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز . كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوّته من الاَيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي . فيتقرّر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوّله ولم يختلقه ، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقوّلاً لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بشرا مثلكم ، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان ، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه ، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعني من مثل هذا القرآن حقّا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يقول : بسورة مثل هذا القرآن .
وحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مثل القرآن .
وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قال : مثله ، مثل القرآن .
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما ، أن الله جل ذكره قال لمن حاجّه في نبيه صلى الله عليه وسلم من الكفار : فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب ، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم .
وقد قال قوم آخرون : إن معنى قوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ : من مثل محمد من البشر ، لأن محمدا بشر مثلكم .
قال أبو جعفر : والتأويل الأوّل الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى : أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ . ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه ، فيجوز أن يقال : فأتوا بسورة مثل محمد .
فإن قال قائل : إنك ذكرت أن الله عنى بقوله : فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ من مثل هذا القرآن ، فهل للقرآن من مثل فيقال : ائتوا بسورة من مثله ؟ قيل : إنه لم يعن به : ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره ، وإنما عنى : ائتوا بسورة من مثله في البيان لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي ، فكلام العرب لا شكّ له مثل في معنى العربية فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين ، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه . وإنما احتجّ الله جل ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتجّ به له عليهم من القرآن ، إذ ظهر القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان ، إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم ، وكلاما نزل بلسانهم ، فقال لهم جل ثناؤه : وإن كنتم في ريب من أنّ ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي ، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية ، إذْ كنتم عربا ، وهو بيان نظير بيانكم ، وكلام شبيه كلامكم . فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن ، فيقدروا أن يقولوا : كلفتنا ما لو أحسنّاه أتينا به ، وإنا لا نقدر على الإتيان به ، لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به ، فليس لك علينا حجة بهذا لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنا لسنا بأهله ، ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به . ولكنه جل ثناؤه قال لهم : ائتوا بسورة مثله ، لأن مثله من الألسن ألسنتكم ، وأنتم إن كان محمد اختلقه وافتراه ، إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم أقدر على اختلاقه ووضعه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه فلن تعجزوا وأنتم جميع عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحده ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فقال ابن عباس بما :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ يعني أعوانكم على ما أنتم عليه ، إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ناس يشهدون .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : قوم يشهدون لكم .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ قال : ناس يشهدون . قال ابن جريج : شهداءكم عليها إذا أتيتم بها أنها مثله مثل القرآن .
وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : فادْعُوا يعني استنصروا واستعينوا ، كما قال الشاعر :
فَلَمّا الْتَقَتْ فُرْسانُنا وَرِجَالُهُم ْدَعَوْا يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنا لِعامِرِ
يعني بقوله : دعوا يالكعب : استنصروا كعبا واستعانوا بهم .
وأما الشهداء فإنها جمع شهيد ، كالشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب . والشهيد يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه ، وقد يسمى به المشاهد للشيء كما يقال فلان جليس فلان ، يعني به مجالسه ، ونديمه يعني به منادمه ، وكذلك يقال : شهيده يعني به مشاهده . فإذا كانت الشهداء محتملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن يكون معناه : واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشهداءَكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء ، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم : هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله ، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا ؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جريج في تأويل ذلك فلا وجه له لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا ثلاثة : أهل إيمان صحيح ، وأهل كفر صحيح ، وأهل نفاق بين ذلك . فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين ، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شهداء على حقيقة ما كانوا يأتون به لو أتوا باختلاق من الرسالة ، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من المؤمنين . فأما أهل النفاق والكفر فلا شك أنهم لو دُعوا إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم ، فمن أيّ الفريقين كانت تكون شهداءهم لو ادّعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن ؟ ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه : قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنّ على أنْ يأتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به وتحدّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة ، فقال تعالى : وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا على عَبْدِنَا فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِين يعني بذلك : إن كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي ، فأتوا بسورة من مثله ، وليستنصر بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم حتى تعلموا أنكم إذا عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم ولا من البشر أحد ، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي .