{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية ، { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } أي : العدل ، وهذا لا يتمكن منه ، إلا بعلم بالواجب ، وعلم بالواقع ، وقدرة على تنفيذ الحق ، { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى } فتميل مع أحد ، لقرابة أو صداقة أو محبة ، أو بغض للآخر { فَيُضِلَّكَ } الهوى { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ويخرجك عن الصراط المستقيم ، { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } خصوصا المتعمدين منهم ، { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم ، لم يميلوا مع الهوى الفاتن .
ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ، بتلك التوجيهات الحكيمة ، والآداب القويمة ، التى وجهها - سبحانه - إلى كل حاكم فى شخص داود - عليه السلام - فقال : { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض . . } والخليقة : هو من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل . والتاء فيه للمبالغة . أى : يا داود إنا جعلناك - بفضلنا ومنتنا - خليفة ونائبا عنا فى الأرض ، لتتولى سياسة الناس ، ولترشدهم إلى الصراط المستقيم .
والجملة الكريمة مقولة لقول محذوف معطوفة على ما سبقتها . أى : فغفرنا له ذلك وقلنا له يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض . ويصح أن تكون مستأنفة لبيان مظاهر الزلفى والمكانة الحسنة التى وهبها - سبحانه - لداود ؟ حيث جعله خليفة فى الأرض .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى . . } للتفريع ، أو هى جواب لشرط مقدر . والهوى : ميل النفس إلى رغباتها بدون تحر للعدل والصواب .
أى : إذا كان الأمر كما أخبرناك فاحكم - يا داود - بين الناس بالحكم الحق الذى أرشدك الله - تعالى - إليه ، وواظب على ذلك فى جميع الأزمان والأحوال : ولا تتبع هوى النفس وشهواتها ، فإن النفس أمارة بالسوء .
وقوله - سبحانه - { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله . . . } بيان للمصير السيئ الذى يؤدى إليه اتباع الهوى فى الأقوال والأحكام .
وقوله { فَيُضِلَّكَ } منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية ، على أنه جواب للنهى السابق . أى : ولا تتبع الهوى ، فإن اتباعك له ، يؤدى بك إلى الضلال عن طريق الحق ، وعن مخالفة شرع الله - تعالى - ودينه .
ثم بين - سبحانه - عاقبة الذين يضلون عن سبيله فقال : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب } .
أى : إن الذين يضلون عن دين الله وعن طريقه وشريعته ، بسبب اتباعهم للهوى ، لهم عذاب شديد لا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - لأنهم تركوا الاستعداد ليوم الحساب ، وما فيه من ثواب وعقاب .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1 - سمو منزلة داود - عليه السلام - عند ربه ، فقد افتتحت هذه الآيات ، بأن أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر ما حدث لأخيه داود . ليكون هذا التذكير تسلية له عما أصابه من المشركين وعونا له على الثبات والصبر .
ثم وصف - سبحانه - عبده داود بأنه كان قويا فى دينه ، ورجاعا إلى ما يرضى ربه ، وأنه - سبحانه - قد وهبه نعما عظيمة ، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب .
ثم ختمت هذه الآيات - أيضا - بالثناء على داود - عليه السلام - حيث قال - سبحانه - : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } . وببيان أنه - تعالى - قد جعله خليفة فى الأرض .
ومن الأحاديث التى وردت فى فضله - عليه السلام - ما أخرجه البخاري فى تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر داود ، وحدث عنه قال : " كان أعبد البشر " .
وأخرجه الديلمى عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينبغى لأحد أن يقول إنى أعبد من داود " .
2 - أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب ، قصة حقيقية ، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس فى شأن غنم لهما ، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التى حكاها القرآن الكريم ، فزع منهما داود - عليه السلام - وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه ، وأن الله - تعالى - يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث .
فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه ، وإنما يريدان التحاكم إليه فى مسألة معينة ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق - أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله - تعالى - له . .
والذى يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا فى تأييد هذا المعنى .
قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - : والذى أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم . . . وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونة ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم فى شئ منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - فى كتابه . يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه .
2 - ومع أن ما ذكرناه سابقا ، وما نقلناه عن الإِمام أبى حيان ، هو المعنى الظاهر من الآيات ، وهو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه يتناسب مع مكانة داود - عليه السلام - ، ومع ثناء الله - تعالى - عليه وتكريمه له .
أقول مع كل ذلك ، إلا أنا وجدنا كثيرا من المفسرين عند حديثهم عن قصة الخصوم الذين تسوروا على داود المحراب ، يذكرون قصصا فى نهاية النكارة ، وأقوالا فى غاية البطلان والفساد .
فمثلا نرى ابن جرير وغيره يذكرون قصة مكذوبة ملخصها : " أن داود - عليه السلام - كان يصلى فى محرابه . . . ثم تطلع من نافذة المكان الذى كان يصلى فيه ، فرأى امرأة جميلة فأرسل إليها فجاءته ، فسألها عن زوجها فأخبرته بأن زوجها ، اسمه " أوريا " وأنه خرج مع الجيش الذى يحارب الأعداء . . فأمر داود - عليه السلام - قائد الجيش أن يجعله فى المقدمة لكى يكون عرضة للقتل . وبعد قتله تزوج داود بتلك المرأة . .
ونرى صاحب الكشاف بعد أن يذكر هذه القصة ، ثم يعلق عليها بقوله : " فهذا ونحوه مما يقبح أن يُحَدَّثَ به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين ، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء . . " نراه يذكر معها قصصا أخرى ملخصها : أن داود - عليه السلام - لم يعمل على قتل " أوريا " وإنما سأله أن يتنازل له عن امرأته ، فانصاع لأمره وتنازل له عنها . . أو أنه خطبها بعد أن خطبها " أوريا " فآثر أهلها داود على " أوريا " .
قال صاحب الكشاف : كان أهل زمان داود - عليه السلام - يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة فى المواساة بذلك قد اعتادوهها . . فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له " أوريا " فأحبها ، فسأله النزول عنها ، فاستحيا أن يرده ، ففعل ، فتزوجها ، وهى أم سليمان - عليه السلام - وقيل : خطبها " أوريا " ثم خطبها داود فآثر أهلها داود على أوريا . .
والذى نراه أن هذه الأقوال وما يشبهها عارية عن الصحة ، وينكرها النقل والعقل ، ولا يليق بمؤمن أن يقبل شيئا منها . .
ينكرها النقل : لأنها لم تثبت من طريق يعتد به ، بل الثابت أنها مكذوبة . قال ابن كثير : قد ذكر المفسرون ها هنا قصة ، أكثرها مأخوذ من الإِسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبى حاتم حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشى ، عن أنس - ويزيد وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . .
وقال السيوطى : القصة التى يحكونها فى شأن المرأة وأنها أعجبته ، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل ، أخرجها ابن أبى حاتم من حديث أنس مرفوعا ، وفى إسناده ابن لهيعة ، وحاله معروف - عن ابن صخر ، عن زيد الرقاشى ، وهو ضعيف . .
وقال البقاعى : وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود - وقد أخبرنى بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك فى حق داود - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - من ذريته ، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه .
إذا فهذه القصص وتلك الأقوال غير صحيحة من ناحية النقل ، لأن رواتها معروفون بالضعف . وبالنقل عن الإِسرائيليات .
ويروى أن الإِمام عليا - رضى الله عنه - قال : " من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة ، وهو حد الفرية على الأنبياء " . وهى غير صحيحة من ناحية العقل ، لأنه ليس من المعقول أن يمدح الله - تعالى - نبيه داود هذا المدح فى أول الآيات وفى آخرها كما سبق أن أشرنا ، ثم نرى بعد ذلك من يتهمه بأنه أعجب بامرأة ، ثم تزوجها بعد أن احتال لقتل زوجها ، بغير حق . أو طلب منه التنازل له عنها ، أو خطبها على خطبته .
إن هذه الأفعال يتنزه عنها كثير من الناس الذين ليسوا بأنبياء ، فكيف يفعلها واحد من أعلام الأنبياء . هو داود - عليه السلام - الذى مدحه الله - تعالى - بالقوة فى دينه . وبكثرة الرجوع إلى ما يرضى الله - تعالى - ، وبأنه - سبحانه - آتاه الحكمة وفصل الخطاب . وبأن له عند ربه { لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } .
والخلاصة : أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة . لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل . بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا . لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء . الذين صانهم الله - تعالى - من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها .
قال الإِمام ابن حزم ما ملخصه : " ما حكاه الله - تعالى - عن داود قول صادق صحيح . لا يدل على شئ مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولَّدها اليهود . وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك . مختصيمن فى نعاج من الغنم .
ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء . فقد كذب الله - تعالى - ما لم يقل ، وزاد فى القرآن ما ليس فيه . . لأن الله - تعالى - يقول : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم } فقال لهو : لم يكونوا خصمين . ولا بغى بعهضم على بعض . ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة . ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له : { أَكْفِلْنِيهَا . . } .
4 - هذا : وهناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات . منها : أن استغفار داود - عليه السلام - إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزالة التى جعلت داود يستغفر ربه - إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر ، فإنه لما قال له : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ . . } فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب ، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل .
والذى نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب ، ولا يتناسب مع منزلة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته ، أن لا يحكم القاضى بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا ، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام آخر .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين ، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه ؟ . قلت : ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه ، ولكنه لم يحك فى القرآن لأنه معلوم ، ويروى أنه قال : أريد أخذها منه وأكمل نعانجى مائة فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا . وأشار إلى طرف الأنف والجبهة . .
ومنهم من يرى ، أن استغفار داود - عليه السلام - كان سببه : أن قوما من الأعداء أرادوا قتله ، فتسوروا عليه المحراب ، فلما دخلوا عليه لقصد قتله وجدوا عنده أقواما . فلم يستطيعوا تنفيذ ما قصدوه ، وتصنعوا هذه الخصومة فعلم داود قصدهم ، وعزم على الانتقام منهم ، ثم عفا عنهم ، واستغفر ربه مما كان قد عزم عليه ، لأنه كان يرى أن الأليق به العفو لا الانتقام .
وهذا القول - وإن كان لا بأس به من حيث المعنى - إلا ان الرأى الذى سقناه سابقا ، والذى ذهب إليه الإِمام أبو حيان ، أرجح وأقرب إلى ما هو ظاهر من معنى الآيات .
وملخصه : أن الخصومة حقيقية بين اثنتين من البشر ، واستغفار داود - عليه السلام - سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإِيذائه ، وأن هذا ابتلاء من الله - تعالى - ابتلاه به ، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم فى خصومة ، فاستغفر ربه من ذلك الظن . فغفر الله - تعالى - له .
ولعلنا بهذا البيان نكون قد وفقنا للصواب ، فى تفسير هذه الآيات الكريمة ، التى ذكر بعض المفسرين عند تفسيرها أقوالا وقصصا لا يؤيدها عقل أو نقل ، ولا يليق بمسلم أن يصدقها ، لأنها تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين اختارهم الله - تعالى - لتبليغ دعوته ، وحمل رسالته . وإرشاد الناس إلى إخلاص العبادة له - سبحانه - وإلى مكارم الأخلاق ، وحميد الخصال .
{ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } استخلفناك على الملك فيها ، أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق . { فاحكم بين الناس بالحق } بحكم الله . { ولا تتبع الهوى } ما تهوى النفس ، وهو يؤيد ما قيل إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته . { فيضلك عن سبيل الله } دلائله التي نصبها على الحق . { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن السبيل ، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى .
مقول قول محذوف معطوف على { فغفرنا له ذلك } [ ص : 25 ] أي صفَحنا عنه وذكرناه بنعمة المُلك ووعظناه ، فجمع له بهذا تنويهاً بشأنه وإرشاداً للواجب . وافتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وَعْيه واهتمامه بما سيقال له .
والخليفة : الذي يخلف غيره في عمللٍ ، أي يقوم مقامه فيه ، فإن كان مع وجود المخلوف عنه قيل : هو خليفة فُلان ، وإن كان بعدما مضى المخلوف قيل : هو خليفة مِن فلان . والمراد هنا : المعنى الأول بقرينة قوله : { فاحكم بين الناس بالحق } .
فالمعنى : أنه خليفة الله في إنفاذ شرائعه للأمة المجعول لها خليفة مما يوحي به إليه ومما سبق من الشريعة التي أوحي إليه العمل بها . وخليفةٌ عن موسى عليه السلام وعن أحبار بني إسرائيل الأولين المدعوين بالقُضاة ، أو خليفة عمن تقدمه في الملك وهو شاول .
و { الأرض } : أرض مملكته المعهودة ، أي جعلناك خليفة في أرض إسرائيل . ويجوز أن يجعل الأرض مراداً به جميع الأرض فإن داود كان في زمنه أعظم ملوك الأرض فهو متصرف في مملكته ويَخاف بأسَه ملوكُ الأرض فهو خليفة الله في الأرض إذ لا ينفلت شيء من قبضته ، وهذا قريب من الخلافة في قوله تعالى : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } [ يونس : 14 ] وقوله : { ويجعلكم خلفاء الأرض } [ النمل : 62 ] .
وهذا المعنى خلاف معنى قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] فإن الأرض هنالك هي هذه الكرة الأرضية . قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله صلى الله عليه وسلم وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفةُ الذي قبلَه ، ألاَ ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرّروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر رضي الله عنه : يا خليفة رسول الله ، وبهذا كان يدعى بذلك مدة حياته ، فلما ولي عمر قالوا : يا خليفةَ خليفة رسول الله فطال ورأوْا أنه سيطول أكثر في المستقبل إذا ولي خليفة بعد عمر فدعوا عُمر أميرَ المؤمنين ، وقصر هذا على الخلفاء ، وما يجيء في الشعر من دعاء أحد الخلفاء خليفة الله فذلك تجوّز كما قال ابنُ قيسسِ الرقياتِ :
خليفة الله في بريته *** جَفَّت بذاك الأقلام والكتب
وفُرع على جعله خليفة أمرُه بأن يحكم بين الناس بالحق للدلالة على أن ذلك واجبه وأنه أحق الناس بالحكم بالعدل ، ذلك لأنه هو المرجع للمظلومين والذي تُرفع إليه مظالم الظلمة من الولاة فإذا كان عادلاً خشيهُ الولاة والأمراء لأنه ألف العدل وكره الظلم فلا يُقر ما يجري منه في رعيته كلما بلغه فيكون الناس في حذر من أن يصدر عنهم ما عسى أن يرفع إلى الخليفة فيقتص من الظالم ، وأمّا إن كان الخليفة يظلم في حكمه فإنه يألف الظلم فلا يُغضبه إذا رفعت إليه مظلمة شخص ولا يحرص على إنصاف المظلوم .
وفي « الكشاف » : أن بعض خلفاء بني أمية قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري : هل سمعتَ ما بلغَنا ؟ قال : وما هو ؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تُكتب له معصية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ، ثم تلا هذه الآية . والمراد ب { النَّاسِ } ناس مملكته فالتعريف للعهد أو هو للاستغراق العرفي .
والحق : هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضاً وتصرفاتهم في خاصّتهم وعامّتهم ويتعين الحق بتعيين الشريعة . والباء في { بالحَقِّ } باء المجازية ، جعل الحق كالآلة التي يعمل بها العامل في قولك : قطعه بالسكين ، وضربه بالعصا .
وقوله : { ولا تَتَّبِعِ الهوى } معطوف على التفريع ، ولعله المقصود من التفريع . وإنما تقدم عليه أمره بالحكم بالحق ليكون توطئة للنهي عن اتباع الهوى سَدًّا لذريعة الوقوع في خطأ الحق فإن داود ممن حكم بالحق فأمره به باعتبار المستقبل . والتعريف في { الهوى } تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، فالنهي يعمّ كل ما هو هوى ، سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره مثل هوى زوجه وولده وسيده ، وصديقه ، أو هوى الجمهور : { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } [ الأعراف : 138 ] .
ومعنى الهوى : المحبة ، وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة ، أي ولو كان هوى شديداً تعلقُ النفس به . والهوى : كناية عن الباطل والجور والظلم لِما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس ، فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالباً ، ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيّد بالحِفظ أو العصمة .
والنهي عن اتباع الهوى تحذير له وإيقاظ ليحذّر من جراء الهوى ويتّهم هوى نفسه ويتعقبه فلا ينقاد إليه فيما يدعوه إليه إلا بعد التأمل والتثبت ، وقد قال سهل بن حُنيْف رضي الله عنه : « اتهموا الرَّأي » ، ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها ومعظم الكمالات صعبة على النفس لأنها ترجع إلى تهذيب النفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج المَلكية ، ففي جميعها أو معظمها صرف للنفس عما لاصَقَها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية لأنها إما مدعوة لِداعي الشهوة أو داعي الغضب فالاسترسال في اتباعها وقوع في الرذائل في الغالب ، ولهذا جُعل هنا الضلال عن سبيل الله مسبباً على اتباع الهوى ، وهو تسبب أغلبي عرفي ، فشبه الهوى بسائرٍ في طريق مهلكة على طريقة المكنية ورمز إليه بلازم ذلك وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله ، فإن الذي يتبع سائراً غيرَ عَارف بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجد نفسه وإياه في مهلكة أو مَقطعة طريق .
واتّباع الهوى قد يكون اختياراً ، وقد يكون كرهاً . والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه ؛ فأما الاتّباع الاختياري فالحذر منه ظاهر ، وأما الاتباع الاضطراري فالتخلص منه بالانسحاب عما جرّه إلى الإِكراه ، ولذلك اشترط العلماء في الخليفة شروطاً كلّها تحوم حول الحيلولة بينه وبين اتباع الهوى وما يوازيه من الوقوع في الباطل ، وهي : التكليف ، والحُرّية ، والعدالة ، والذكورة ، وأما شرط كونه من قريش عند الجمهور فلئلا يضعف أمام القبائل بغضاضة .
وانتصب { فَيُضِلَّكَ } بعد فاء السببية في جواب النهي . ومعنى جواب النهي جواب المنهي عنه فهو السبب في الضلال وليس النهي سبباً في الضلال . وهذا بخلاف طريقة الجزم في جواب النهي .
و { سبيل الله } : الأعمال التي تحصُل منها مرضاته وهي الأعمال التي أمر الله بها ووعد بالجزاء عليها ، شُبّهت بالطريق الموصل إلى الله ، أي إلى مرضاته . وجملة : { إنَّ الذين يضلون عن سبيل الله } إلى آخرها يظهر أنها مما خاطب الله به داود ، وهي عند أصحاب العدد آية واحدة من قوله : { ياداود إنَّا جعلناك خليفة في الأرض } إلى { يومَ الحِسَابِ } ، فهي في موقع العلة للنهي ، فكانت ( إنّ ) مغنية عن فاء التسبب والترتب ، فالشيء الذي يفضي إلى العذاب الشديد خليق بأن يُنهى عنه ، وإن كانت الجملة كلاماً منفصلاً عن خطاب داود كانت معترضة ومستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان خطر الضلال عن سبيل الله .
والعموم الذي في قوله { الذين يضلون عن سبيل الله } يُكسب الجملة وصف التذييل أيضاً وكلا الاعتبارين موجب لعدم عطفها . وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة علة لاستحقاق العذاب . واللام في { لهُم عَذَابٌ } للاختصاص ، والباء في { بِما نسُوا يومَ الحِسَابِ } سببية .
و ( ما ) مصدرية ، أي بسبب نسيانهم يوم الحساب ، وتتعلق الباء بالاستقرار الذي ناب عنه المجرور في قوله : { لَهُم عَذَابٌ } .
والنسيان : مستعار للإِعراض الشديد لأنه يشبه نسيان المعرض عنه كما في قوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : 67 ] ، وهو مراتب أشدها إنكار البعث والجزاء ، قال تعالى : { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم } [ السجدة : 14 ] . ودونه مراتب كثيرة تكون على وفق مراتب العذاب لأنه إذا كان السبب ذا مراتب كانت المسببات تبعاً لذلك .
والمراد ب { يَوْمَ الحسابِ } ما يقع فيه من الجزاء على الخير والشر ، فهو في المعنى على تقدير مضاف ، أي جزاء يوم الحساب على حدّ قوله تعالى : { ونسي ما قدمت يداه } [ الكهف : 57 ] ، أي لم يفكر في عاقبة ما يقدمه من الأعمال . وفي جعل الضلال عن سبيل الله ونسيان يوم الحساب سببين لاستحقاق العذاب الشديد تنبيه على تلازمهما فإن الضلال عن سبيل الله يفضي إلى الإِعراض عن مراقبة الجزاء . وترجمة داود تقدمت عند قوله تعالى : { ومن ذريته داود } في [ الأنعام : 84 ] وقوله : { وآتينا داود زبوراً } في [ النساء : 163 ] .