محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ} (26)

{ يا داوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } أي استخلفناك على الملك في الأرض / كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها ، ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه { فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى } أي هوى النفس ، من الميل إلى مال أو جاه أو قريب أو صاحب { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي صراطه الموصل إلى الكمالات ، كحفظ المملكة والنصر على الأعداء ، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } أي بسبب نسيانهم ، وهو ضلالهم عن السبيل ، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى .

تنبيه :

في الآية بيان وجوب الحكم بالحق ، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء سبب يقتضي الميل . واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله . كذا في ( الإكليل ) .

وقال ابن كثير : هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى . ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله . وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب ، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد . روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة ، أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت فقلت : يا أمير المؤمنين  ! أقول ؟ قال : قل في أمان . قلت : يا أمير المؤمنين  ! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام ؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة . ثم توعده في كتابه قال تعالى : { يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض } الآية .

وقال الرازي : اعلم أن الإنسان خلق مدنيّا بالطبع . لأن الإنسان الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة . حتى هذا يحرث وذاك يطحن وذلك يخبر وذلك ينسج والآخر يخيط . وبالجملة ، فيكون كل واحد منهم مشغولا بمهم . وينتظم من أعمال الجميع صالح الجميع . فثبت أن الإنسان مدنيّ بالطبع . وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات . ولابد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات ويفصل تلك الحكومات . وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل . فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس . ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس ، إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه ، عظم ضرره على الخلق . فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه . وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق . وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك . أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية ، انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه : فهذا هو المراد من قوله { فاحكم بين الناس بالحق } يعني لابد من حاكم بين الناس بالحق . فكن أنت ذلك . ثم قال { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } الآية ، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله . والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب . فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب انتهى .