التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ} (26)

ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ، بتلك التوجيهات الحكيمة ، والآداب القويمة ، التى وجهها - سبحانه - إلى كل حاكم فى شخص داود - عليه السلام - فقال : { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض . . } والخليقة : هو من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل . والتاء فيه للمبالغة . أى : يا داود إنا جعلناك - بفضلنا ومنتنا - خليفة ونائبا عنا فى الأرض ، لتتولى سياسة الناس ، ولترشدهم إلى الصراط المستقيم .

والجملة الكريمة مقولة لقول محذوف معطوفة على ما سبقتها . أى : فغفرنا له ذلك وقلنا له يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض . ويصح أن تكون مستأنفة لبيان مظاهر الزلفى والمكانة الحسنة التى وهبها - سبحانه - لداود ؟ حيث جعله خليفة فى الأرض .

والفاء فى قوله - تعالى - : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى . . } للتفريع ، أو هى جواب لشرط مقدر . والهوى : ميل النفس إلى رغباتها بدون تحر للعدل والصواب .

أى : إذا كان الأمر كما أخبرناك فاحكم - يا داود - بين الناس بالحكم الحق الذى أرشدك الله - تعالى - إليه ، وواظب على ذلك فى جميع الأزمان والأحوال : ولا تتبع هوى النفس وشهواتها ، فإن النفس أمارة بالسوء .

وقوله - سبحانه - { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله . . . } بيان للمصير السيئ الذى يؤدى إليه اتباع الهوى فى الأقوال والأحكام .

وقوله { فَيُضِلَّكَ } منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية ، على أنه جواب للنهى السابق . أى : ولا تتبع الهوى ، فإن اتباعك له ، يؤدى بك إلى الضلال عن طريق الحق ، وعن مخالفة شرع الله - تعالى - ودينه .

ثم بين - سبحانه - عاقبة الذين يضلون عن سبيله فقال : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب } .

أى : إن الذين يضلون عن دين الله وعن طريقه وشريعته ، بسبب اتباعهم للهوى ، لهم عذاب شديد لا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - لأنهم تركوا الاستعداد ليوم الحساب ، وما فيه من ثواب وعقاب .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

1 - سمو منزلة داود - عليه السلام - عند ربه ، فقد افتتحت هذه الآيات ، بأن أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر ما حدث لأخيه داود . ليكون هذا التذكير تسلية له عما أصابه من المشركين وعونا له على الثبات والصبر .

ثم وصف - سبحانه - عبده داود بأنه كان قويا فى دينه ، ورجاعا إلى ما يرضى ربه ، وأنه - سبحانه - قد وهبه نعما عظيمة ، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب .

ثم ختمت هذه الآيات - أيضا - بالثناء على داود - عليه السلام - حيث قال - سبحانه - : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } . وببيان أنه - تعالى - قد جعله خليفة فى الأرض .

ومن الأحاديث التى وردت فى فضله - عليه السلام - ما أخرجه البخاري فى تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر داود ، وحدث عنه قال : " كان أعبد البشر " .

وأخرجه الديلمى عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينبغى لأحد أن يقول إنى أعبد من داود " .

2 - أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب ، قصة حقيقية ، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس فى شأن غنم لهما ، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التى حكاها القرآن الكريم ، فزع منهما داود - عليه السلام - وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه ، وأن الله - تعالى - يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث .

فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه ، وإنما يريدان التحاكم إليه فى مسألة معينة ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق - أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله - تعالى - له . .

والذى يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا فى تأييد هذا المعنى .

قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - : والذى أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم . . . وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونة ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم فى شئ منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - فى كتابه . يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه .

2 - ومع أن ما ذكرناه سابقا ، وما نقلناه عن الإِمام أبى حيان ، هو المعنى الظاهر من الآيات ، وهو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه يتناسب مع مكانة داود - عليه السلام - ، ومع ثناء الله - تعالى - عليه وتكريمه له .

أقول مع كل ذلك ، إلا أنا وجدنا كثيرا من المفسرين عند حديثهم عن قصة الخصوم الذين تسوروا على داود المحراب ، يذكرون قصصا فى نهاية النكارة ، وأقوالا فى غاية البطلان والفساد .

فمثلا نرى ابن جرير وغيره يذكرون قصة مكذوبة ملخصها : " أن داود - عليه السلام - كان يصلى فى محرابه . . . ثم تطلع من نافذة المكان الذى كان يصلى فيه ، فرأى امرأة جميلة فأرسل إليها فجاءته ، فسألها عن زوجها فأخبرته بأن زوجها ، اسمه " أوريا " وأنه خرج مع الجيش الذى يحارب الأعداء . . فأمر داود - عليه السلام - قائد الجيش أن يجعله فى المقدمة لكى يكون عرضة للقتل . وبعد قتله تزوج داود بتلك المرأة . .

ونرى صاحب الكشاف بعد أن يذكر هذه القصة ، ثم يعلق عليها بقوله : " فهذا ونحوه مما يقبح أن يُحَدَّثَ به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين ، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء . . " نراه يذكر معها قصصا أخرى ملخصها : أن داود - عليه السلام - لم يعمل على قتل " أوريا " وإنما سأله أن يتنازل له عن امرأته ، فانصاع لأمره وتنازل له عنها . . أو أنه خطبها بعد أن خطبها " أوريا " فآثر أهلها داود على " أوريا " .

قال صاحب الكشاف : كان أهل زمان داود - عليه السلام - يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة فى المواساة بذلك قد اعتادوهها . . فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له " أوريا " فأحبها ، فسأله النزول عنها ، فاستحيا أن يرده ، ففعل ، فتزوجها ، وهى أم سليمان - عليه السلام - وقيل : خطبها " أوريا " ثم خطبها داود فآثر أهلها داود على أوريا . .

والذى نراه أن هذه الأقوال وما يشبهها عارية عن الصحة ، وينكرها النقل والعقل ، ولا يليق بمؤمن أن يقبل شيئا منها . .

ينكرها النقل : لأنها لم تثبت من طريق يعتد به ، بل الثابت أنها مكذوبة . قال ابن كثير : قد ذكر المفسرون ها هنا قصة ، أكثرها مأخوذ من الإِسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبى حاتم حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشى ، عن أنس - ويزيد وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . .

وقال السيوطى : القصة التى يحكونها فى شأن المرأة وأنها أعجبته ، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل ، أخرجها ابن أبى حاتم من حديث أنس مرفوعا ، وفى إسناده ابن لهيعة ، وحاله معروف - عن ابن صخر ، عن زيد الرقاشى ، وهو ضعيف . .

وقال البقاعى : وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود - وقد أخبرنى بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك فى حق داود - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - من ذريته ، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه .

إذا فهذه القصص وتلك الأقوال غير صحيحة من ناحية النقل ، لأن رواتها معروفون بالضعف . وبالنقل عن الإِسرائيليات .

ويروى أن الإِمام عليا - رضى الله عنه - قال : " من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة ، وهو حد الفرية على الأنبياء " . وهى غير صحيحة من ناحية العقل ، لأنه ليس من المعقول أن يمدح الله - تعالى - نبيه داود هذا المدح فى أول الآيات وفى آخرها كما سبق أن أشرنا ، ثم نرى بعد ذلك من يتهمه بأنه أعجب بامرأة ، ثم تزوجها بعد أن احتال لقتل زوجها ، بغير حق . أو طلب منه التنازل له عنها ، أو خطبها على خطبته .

إن هذه الأفعال يتنزه عنها كثير من الناس الذين ليسوا بأنبياء ، فكيف يفعلها واحد من أعلام الأنبياء . هو داود - عليه السلام - الذى مدحه الله - تعالى - بالقوة فى دينه . وبكثرة الرجوع إلى ما يرضى الله - تعالى - ، وبأنه - سبحانه - آتاه الحكمة وفصل الخطاب . وبأن له عند ربه { لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } .

والخلاصة : أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة . لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل . بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا . لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء . الذين صانهم الله - تعالى - من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها .

قال الإِمام ابن حزم ما ملخصه : " ما حكاه الله - تعالى - عن داود قول صادق صحيح . لا يدل على شئ مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولَّدها اليهود . وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك . مختصيمن فى نعاج من الغنم .

ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء . فقد كذب الله - تعالى - ما لم يقل ، وزاد فى القرآن ما ليس فيه . . لأن الله - تعالى - يقول : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم } فقال لهو : لم يكونوا خصمين . ولا بغى بعهضم على بعض . ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة . ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له : { أَكْفِلْنِيهَا . . } .

4 - هذا : وهناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات . منها : أن استغفار داود - عليه السلام - إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر .

قال الإِمام الرازى ما ملخصه : لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزالة التى جعلت داود يستغفر ربه - إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر ، فإنه لما قال له : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ . . } فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب ، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل .

والذى نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب ، ولا يتناسب مع منزلة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته ، أن لا يحكم القاضى بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا ، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام آخر .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين ، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه ؟ . قلت : ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه ، ولكنه لم يحك فى القرآن لأنه معلوم ، ويروى أنه قال : أريد أخذها منه وأكمل نعانجى مائة فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا . وأشار إلى طرف الأنف والجبهة . .

ومنهم من يرى ، أن استغفار داود - عليه السلام - كان سببه : أن قوما من الأعداء أرادوا قتله ، فتسوروا عليه المحراب ، فلما دخلوا عليه لقصد قتله وجدوا عنده أقواما . فلم يستطيعوا تنفيذ ما قصدوه ، وتصنعوا هذه الخصومة فعلم داود قصدهم ، وعزم على الانتقام منهم ، ثم عفا عنهم ، واستغفر ربه مما كان قد عزم عليه ، لأنه كان يرى أن الأليق به العفو لا الانتقام .

وهذا القول - وإن كان لا بأس به من حيث المعنى - إلا ان الرأى الذى سقناه سابقا ، والذى ذهب إليه الإِمام أبو حيان ، أرجح وأقرب إلى ما هو ظاهر من معنى الآيات .

وملخصه : أن الخصومة حقيقية بين اثنتين من البشر ، واستغفار داود - عليه السلام - سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإِيذائه ، وأن هذا ابتلاء من الله - تعالى - ابتلاه به ، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم فى خصومة ، فاستغفر ربه من ذلك الظن . فغفر الله - تعالى - له .

ولعلنا بهذا البيان نكون قد وفقنا للصواب ، فى تفسير هذه الآيات الكريمة ، التى ذكر بعض المفسرين عند تفسيرها أقوالا وقصصا لا يؤيدها عقل أو نقل ، ولا يليق بمسلم أن يصدقها ، لأنها تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين اختارهم الله - تعالى - لتبليغ دعوته ، وحمل رسالته . وإرشاد الناس إلى إخلاص العبادة له - سبحانه - وإلى مكارم الأخلاق ، وحميد الخصال .