قوله تعالى : { يا داوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض } وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه : الأول : أن الملك الكبير إذا حُكِي عن عبده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فعند فراغه من شرح قصته على الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد إنّي فوضت إليك خلافتي ونبوتي لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر فأما جعله نائباً وخليفة لنفسه فذلك مما لا يليق البتة .
الثاني : أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة ، ثم قال بعده : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض } أشعر هذا الوصف بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة . ومعلوم أن هذا فاسد . أما لو ذكرنا أن تلك القصة كانت على وجه يدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدّة مصابرته في طاعة الله تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض } فثبت أن الذي نختاره أولى .
الثالث : أنه لما كان مقدمة الآية دالة على مدح داود- عليه ( الصلاة و ) السلام- وتعظيمه ومؤخرتها أيضاً دالة على ذلك فلو كانت الواسطة دالة على المقابح والمعايب لجرى مَجْرى أن يقال : فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله تعالى يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة له في أرضه وصوب أحكامه فكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب .
ورابعها : أن بعض القائلين ذكر في هذه الآية أن داود - عليه ( الصلاة و ) السلام- تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثلَ ما حصل للخليل من الإلقاء في النار ، وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوبَ من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه ( الصلاة و ) السلام الابتلاء فأوحى الله إليه إنك مبتلى في يوم كذا فبالغ في الاحتراز ، ثم وَقَعَت الواقعة فنقول : إن حكايتهم تدلّ على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه ، فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة بحيث إن الحكاية التي ذكروها يناقص أولُها آخرَها .
وخامسها : أن داود عليه الصلاة و السلام تمنَّى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية ) قال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } استثنى الذين آمنوا من البغي . فلو قلنا : إنه كان موصوفاً بالبغي لزم أن يقال : إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل .
وسادسها : حضرت في مجلس وفيه بعض أكابر المسلمين وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك فقلت له : لا شك أن داود عليه ( الصلاة و ) السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل وقال الله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في المطعن فيه وأيضاً فبتقدير أنه ما كان من الأنبياء فلا شك أنه كان مسلماً ؛ وقال صلى الله عليه وسلم :«لاَ تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلاَّ بِخَيْر » ثم على تقدير أنَّا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلاَّ أَنَّا نقول : إنَّ من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها في حقه صحيحةً فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئاً مِنَ الثواب ، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من ألاَّ توجب الثواب . وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة فإن ذكرها مستحق به أعظم العقاب ، والواقعة التي هذا شأنها وصفتها فإنَّ صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه ، وأن شرح تلك القصة محرم محظور ، فلما سمع ذلك الملك الشديد هذا الكلام سكت ولم يذكر شيئاً .
السابع : أن ذكر هذه القصة وذكر قصة يوسف- عليه ( الصلاة و ) السلام- يقتضي إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا .
الثامن : لو سعى داودُ في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله : «مَنْ سَعَى فِي دَمِ المرىءٍ مُسْلِم وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ » . وأيضاً لو فعل ذلك لكان ظالماً وكان يدخل تحت قوله : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] .
التاسع : عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال : ( مَنْ حَدَّثَكُمْ بحَدِيث دَاودَ عَلَى مَا تَرْويه القُصَّاصُ فاجلدوه مائةً وستينَ جَلْدةً ) وهو حّد الفِرية على الأنبياء ، وما يقوي هذا أنَّهُمْ لما قالوا : إن المغيرة بنَ شعبة زنى وشهد ثلاثةٌ من عدول الصحابة وأما الرابع فإنه لم يقل : إني رأيت ذلك بعيني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا ، فإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك فكيف الحال مع داود عليه ( الصلاة و ) السلام ؟ ! مع أنه كان من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام .
العاشر : رُوي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله ، ثم قال : فما ينبغي أن يزاد عليها وإن كانت الواقعة على ما ذكرت ثم إنه تعالى لم يذكرها لسَتْر تلك الواقعة على داود عليه الصلاة والسلام فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ستر ستره الله ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر : سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمسُ .
فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها باطلة فاسدة . فإن قال قائل : إن كثيراً من أكابر المحدثين المفسرين ذكروا هذه القصة فكيف الحال فيها ؟ !
فالجواب الحقيقي : أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر كل واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى .
وأيضاً فالأصل براءة الذمة ، وأيضاً فلما تعارض ذكر التَّحرُّم والتحليل كان جانب التحريم أولى ، وأيضاً طريقة الاحتياط توجب ترجيحَ قولِنَا ، وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول لنا الله يوم القيامة لِمَ لَمْ تَسعَوْا في تشهير هذه الواقعة أما بتقدير كونها باطلة فإنه يوجب أن لا تجوزَ الشهادة بها ، وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول ، بل الأكثرون والمحققون يردونه ويحكمون عليه بالكذب ، وإذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدِّثين تساقطت وبَقِيَ الرجوع فيه إلى الدلائل التي ذكرناها .
الاحتمال الثاني أن نحمل هذه القصة على حُصُول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه :
الأول : أن هذه المرأة خطبها «أوريا » فأجابوه ، ثم خطبها داود فآثره أهلها فكان ذنبه أن خَطبَ على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه .
الثاني : قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألْبَتَّةَ ، أما وقوع بصره عليها من غير قصد فليس بذنب ، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً ، لأن الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها لأجل أنه طمع في أن يتزوج بتلك المرأة فَحَصَلت بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل .
والثالث : أنه كان أهل زمان داود عليه ( الصلاة و ) السلام يسأل بعضهم بعضاَ أن يطلق زوجته حتى يتزوجها وكانت عادتهم مألوفة مفهومة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسألوه النزول فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإنَّ حسناتِ الأبرار سيئات المقربين . فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حَقِّ داود عليه الصلاة والسلام إلا ترك الأفضل ، والأولى .
الاحتمال الثالث : أن تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا صغيرة لداود عليه ( الصلاة و ) السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول : روي أنَّ جماعة من الأعداء طمعوا أن يقتلوا داود - عليه ( الصلاة و ) السلام- وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه ، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوَّرُوا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً وقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة . وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود عليه ( الصلاة و ) السلام إلا ألفاظ أربعة :
أحدها : قوله : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ، وثانيها : قوله : { فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً } ، وثالثها : { وَأَنَابَ } .
ورابعها : قوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } . ثم نقول : هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه من وجوه :
الأول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق وعلم داود عليه السلام دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم أي أنه مال إلى الصَّفْح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله تعالى فكانت هي الفتنة لأنها جاريةٌ مَجْرَى الابتلاء والامتحان ثم إنَّه استغفر ربه مما هَمَّ به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهمِّ وَأَنَابَ فغفر له ذلك القدر من الهمِّ والعزم .
الثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال : لَمَّا لَمْ تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك فَلَبِئْسَ ما عَمِلْتُ حيث ظننت فيهم هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد من قوله : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ثم إنه استغفر ربه وأناب منه فغفر الله له ذلك .
الثالث : دخولهم عليه كان فتنة لداود - عليه الصلاة و السلام -إلا أنه عليه الصلاة و السلام استغفر لذلك العازم على قتله كقوله في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - : { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } [ محمد : 19 ] فداود عليه السلام استغفر لهم ، وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب المغفرة لذلك الرجل الداخل القاصد القتل ، وقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي فَغَفَرْنَا ذلك الذنب لأجل احترام داود وتعظيمه كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] إن معناه : إن الله يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذَنْب أمّتك .
الرابع : أنه عاتب داود عليه السلام عن زلَّة صدرت منه لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة . ولِم لا يجوز أن يقال : إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني لأنه لما قال : «لقد ظلمت بسؤال نعجتك » حكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوة الخصم بلا بينة فيكون هذا الحكم مخالفاً للصواب . فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة إلا أن هذا من باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إِذَا حَمَلْنَا هذه الآيات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيءٍ من الذنوب إلى دَاودَ - عليه ( الصلاة و ) السلام- بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطَّاعَاتِ إليه . ثم نقول : وحمل الآية عليه أولى لوجوه :
الأول : أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل .
الثالث : أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى الله عليه وسلم : «اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ » فإن قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - لما أظهروا السفاهة حيث قالوا : إنه ساحرٌ كذاب ، واستهزأوا به حيث قالوا : ربَّنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ، فقال تعالى في أول الآية : اصبر على ما يقولون يا محمد وعلى سفاهتهم وتحمل ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على أذاهم وتحمل سفاهتهم وحَلِمَ ولم يظهر الطيش والغضب وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه .
أما إذا حملنا الآية على ما ذكروه صار الكلام متناقضاً .
الرابع : أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا : إن الخَصْمَيْن كانا ملكين وإذا كانا ملكين ولم يكن بينهما مخاصمة ولم يبغ أحدُهما على الآخر كان قولهما : «خَصْمَان بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ » كذب . فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين : أحدهما : إسناد الكذب إلى الملائكة . والثاني : إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء ، فكان قولنا أولى .
قال المفسرون قوله : وَعَزَّني ( في الخِطَاب ) أي قهرني وغلبني «في الخطاب » أي في القول . قال الضحاك يقول : إن تكلم كان أفصحَ مني ، وإن حارب كان أبطشَ مني وحقيقة المعنى أن الغلبة كانت له فضعفي في يده وإن كان الحق معي فقال داود : «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ » أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه .
فإن قيل : كيف قال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك ولم يكن سمع قول صاحبه ؟ ! .
فالجواب : قيل : إن معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك ، قال ابن إسحاق : لما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال : «لَئِنْ صَدَقَ لَقَدْ ظَلَمَهُ » .
وقال ابن الأنباري : لما ادعى أحد الخَصْمَيْن ) اعترف الثاني فحكم داود عليه ولم يذكر الله ذلك الاعتراف لدلالة الكلام عليه . وقيل التقدير : إن الخَصْمَ الذي هذا شأنه قد ظلمك ثم قال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } . قال الليث : خَلِيطُ الرَّجُلِ مُخَالِطُهُ ، وقال الزجاج : الخلطاء : الشركاء .
فإن قيل : لم خص الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك ؟ فالجواب : أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أحوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيُفْضِي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة فلهذا خص داود - عليه ( الصلاة و ) السلام الخلطاء بزيادة البغي والعُدْوَان . ثم استثنى عن هذا الحكم الذين آمنوا وعملوا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون لأجل الدين . وهذا استثناء متصل من قوله : { بَعْضهم } .
قوله : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } خبر مقدم و «ما » مزيدة للتعظيم . و «هم » مبتدأ .
قال الزمخشري : و «ما » في قوله : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } للإبهام وفيه تعجب من قلتهم . قال : فإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرئ القيس :
وَحَدِيثٍ مَا عَلَى قَصْرِهِ*** وانظر هل بقي لها معنى قط ؟
«وَظَنَّ داوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ » أي امتحناه ، قرأ العامة فتَنَّاهُ بالتخفيف وإسناده إلى ضمير المتكلم المعظِّم نفسه ، وعمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء فَتَّنَاه بتشديد التاء . وهي مبالغة . وقرأ الضحاك : أَفْتَنَّاهُ يقال : فَتَنَهُ وأَفْتَنَهُ أي حَمَلَهُ على الفِتْنَةِ ومنه : لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهيَ بِالأَمْسِ أَفْتَنَتْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ قتادة وأبو عمرو - في رواية- فَتَنَّاهُ بالتخفيف وَفتَّنَّاه بالتشديد ، والألف ضمير الخصمين ، و «راكعاً » حال مقدرة ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر لظهور المُقَارنةِ .
قال المفسرون : إن الظن ههنا بمعنى العلم ؛ لأن داودَ عليه ( الصلاة و ) السلام لما قضى بينهما نظر أحَدُهُمَا إلى صاحبه فضحك ، ثم صَعَد إلى السماء قبل وجهه فعلم داود أنَّ الله ابْتَلاَهُ بذلك فثبت أن داود علم بذلك . وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم ، لأن العلم الاستدلاليّ يشبه الظنّ مشابهةً عظيمة والمشابهة علة لجواز المجاز . قال ابن الخطيب : هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين إما إذا لم يُقَلْ ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم بل لقائل أن يقول : إنه لمَّا غَلَب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة .
قوله : { فاستغفر رَبَّهُ } أي سأل الغفران من ربه ، ثم ههنا وجهان إن قلنا : إنه صدرت منه زَلَّة حمل هذا الاستغفار عليها وإن لم يُقَل به قلنا فيه وجوه :
الأول : أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطاناً شديدَ القهر عظيمَ القوة مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع محصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئاً قَرُب الأمر من أن يدخل قلبه شي من العُجْب فاستغفر ربَّه من تلك الحالة وأناب إلى الله ، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله فغفر له وتجاوز عنه بسبب طَرَيَانِ ذلك الخاطر .
الثاني : لعله هَمَّ بإيذاء القوم ، ثم قال : إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر من ذلك الهم .
الثالث : لعل القوم تابوا إلى الله تعالى وطَلَبُوا منه أن يستغفر الله ( لهم ) ولأجل أن يَقْبَلَ توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله فغفر له توبتهم بسبب شفاعته ودعائه . وهذه كلها وجوهٌ محتملة ظاهرةٌ ، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه ، وإذا كان اللفظ محتملاً لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام ما ذكروه من المنكرات فما الذي دل عليه التزامه والقول به ؟ ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى ختم هذه القصة بقوله : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } ومثل هذه الخاتمة إنما يحصل في حقّ من صدر عنه امتثال الأوامر في الخدمة والطاعة وتحمل أنواعاً من الشدائد في الموافقة والانقياد .
قوله : { ذَلِكَ } الظاهر أنه مفعول «غَفَرْنا » وجوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي الأمرُ ذلِك ولا حاجة إلى هذا . والمشهور أَنَّ الاستغفار إنما كان بسبب قصة النَّعْجَة ، والنِّعاج ، وقيل : بسبب أنه حَكَمَ لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الثاني ، وذلك غير جائز .
قوله : { يا داوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض } أي تدبر أمور العباد بأمرنا ، واعلم أنه لما تمم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داودَ خلافةَ الأرض وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في القصة لأن من البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين رغبة في انتزاع أزواجهم منهم ، ثم يذكر عقيبه أن الله فوَّضَ خلافة الأرض إليه . ثم في تفسير كونه خليفة وجهان :
الأول : جعلناك تَخْلُفُ من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفُه وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة ، وذلك على الله محال .
الثاني : إنا جعلناك ممكناً في الناس نافذ الحكم فيهم . فبهذا التأويل يسمى خليفة ، ومنه يقال خليفة الله في الأرض وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذَ الحكم في رَعيته ، وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة مفيدةً للزوم نفاذ ذلك الحكم في تلك الحقيقة .
قوله : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } أي بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقةً للشريعة الحقيقية الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات ، وإذا كانت الأحكام على وَفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى إلى تخريب العالم ووقوع الهَرَج والمَرَج في الخلق وذلك يُفْضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال : { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } ، لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب .
قوله : { فَيُضِلَّكَ } فيه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب في جواب النهي . الثاني : أنه عطف على «لاَ تَتَّبعْ » فهو مجزومٌ ، وإنما فتحت اللام لالتقاء الساكنين . وهو نهي عن كل واحدة على حدته ، والأول فيه النهي عن الجمع بينهما وقد يترجح الثاني لهذا المعنى ، وقد تقدم تقرير ذلك في البقرة في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] .
وفاعل «فيضلك » يجوز أن يكون الهَوَى ، ويجوز أن يكون ضميرَ المصدر المفهوم من الفعل أي فيضلك إتِّبَاعُ الهوى .
قوله : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ } قرأ العامة بتفح ياء يضلون . وقرأ ابن عباس والحَسَنُ وأبو حيوةَ بضمها أي يُضِلونَ الناس وهي مستلزمة للقراءة الأولى فإنه لا يُضل غيره إلا ضَالٌّ بخلاف العكس .
قوله : { بِمَا نَسُواْ } ما مصدرية ، والجار يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه «لهم » ، و «لَهُمْ عَذَابٌ » يجوز أن يكون جملة خبراً ل «إنَّ » ، ويجوز أن يكون الخبر وحده الجار ، و «عَذَابٌ » فاعل به وهو الأحس لقربه من المفرد .
قيل : معناه بما تركوا الإيمان بيوم الحساب . وقال الزجاج : بتركهم العمل لذلك اليوم ، وقال عكرمة والسدي : في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يَوْم الحساب بما نسوا أي تركوا القضاء بالعدل .