روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ} (26)

{ يا داوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الارض } إما حكاية لما خوطب به عليه السلام مبنية لزلفاه عنده عز وجل وإما مقول لقول مقدر معطوف على { غفرنا } [ ص : 25 ] أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وهو على الأول : مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوباً من قبله لتنفيذ ما يريده ، وعلى الثاني : من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما ، والأول أظهر والمنة به أعظم فهو عليه السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت ، قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله ، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات

: خليفة الله في بريته *** جفت بذاك الأفلام والكتب

وقالت الصحابة لأبي بكر : خليفة رسول الله وبذلك كان يدعي إلى أن توفي فلما ولي عمر قالوا خليفة خليفة رسول الله فعدل عنه اختصاراً إلى أمير المؤمنين . وذهب الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره إلى أن الخليفة من الرسل من فوض إليه التشريع ولعله من جملة اصطلاحاته ولا مشاحة في الاصطلاح ، واستدل بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله عز وجل وهو قول من أوجب على الله تعالى نصب الإمام لأنه من اللطف الواجب عليه سبحانه ، والجماعة لا يقولون بذلك والإمامة عندهم من الفروع وإن ذكروها في كتب العقائد ، وليس في الآية ما يلزم منه ذلك كما لا يخفى وتحقيق المطلب في محله { الارض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } الذي شرعه الله تعالى لك فالحق خلاف الباطل وأل فيه للعهد ، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي بحكم الحق أي الله عز وجل للعلم بأن الذوات لا يكون محكوماً بها . وتعقب بأن مقابلته بالهوى تأبى ذلك ، ولعل من يقول به يجعل المقابل المضاف المحذوف والمقابلة باعتبار أن حكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق ، وفرع الأمر بالحكم بالحق على ما تقدم لأن الاستخلاف بكلا المعنيين مقتض للحكم العدل لاسيما على المعنى الأول لظهور اقتضاء كونه عليه السلام خليفة له تعالى أن لا يخالف حكمه حكم من استخلفه بل يكون على وفق إرادته ورضاه .

وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة . وذكر الحق لأن به سداده ، وقيل ترتب ذلك لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل .

وفي «البحر » أن هذا أمر بالديمومة وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق وإلا فهو من حيث أنه معصوم لا يحكم إلا بالحق ، وعلى نحو هذا يخرج النهي عندي في قوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } فإن اتباع الهوى مما لا يكاد يقع من المعصوم . وظاهر السياق أن المراد ولا تتبع هوى النفس في الحكومات ، وعمم بعضهم فقال : أي في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا .

وأيد بهذا النهي ما قيل إن ذنبه عليه السلام المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته لا الميل إلى امرأة أوريا فكأنه قيل ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولاً ، وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله تعالى له غير مناسب لمقامه لاسيما وقد أخبر الله تعالى قبل الإخبار بمسألة المتحاكمين أنه أتاه الحكم وفصل الخطاب فليس هذا إلا إرشاداً لما يقتضيه منصب الخلافة وتنبيهاً لمن هو دونه عليه السلام ، وأصل الهوى ميل النفس إلى الشهوة ، ويقال للنفس المائلة إليها ويكون بمعنى المهوى كما في قوله :

هواي مع الركب اليمانين مصعد *** جنيب وجثماني بمكة موثق

وبه فسره هنا بعضهم فقال : أي لا تتبع ما تهوى الأنفس { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } بالنصب على أنه جواب النهي ، وقيل هو مجزوم بالعطف على النهي مفتوح لالتقاء الساكنين أي فيكون الهوى أو اتباعه سبباً لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق وهي أعم من الدلائل العقلية والنقلية ، وصد ذلك عن الدلائل إما لعدم فهمها أو العمل بموجبها ، وقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار سبيل الله في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه ، وخبر إن إما جملة { لَهُمْ عَذَابَ } على أن { لَهُمْ } خبر مقدم وعذاب مبتدأ وأما الظرف وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من الاستقرار .

وقرأ ابن عباس . والحسن بخلاف عنهما . وأبو حيوة { يُضِلُّونَ } بضم الياء قال أبو حيان : وهذه القراءة أعم لأنه لا يضل إلا ضال في نفسه ، وقراءة الجمهور أوضح لأن المراد بالموصول من أضلهم اتباع الهوى وهم بعد أن أضلهم صاروا ضالين .

وقوله تعالى : { بِمَا نَسُواْ } متعلق بالاستقرار والباء سببية وما مصدرية ، وقوله سبحانه : { يَوْمِ الحساب } مفعول { نَسُواْ } على ما هو الظاهر أي ثابت لهم ذلك العذاب بسبب نسيانهم وعدم ذكرهم يوم الحساب ؛ وعليه يكون تعليلاً صريحاً لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الإشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده .

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الكلام من التقديم والتأخير أي لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا فيكون يوم الحساب ظرفاً لقوله تعالى : { لَهُمْ } وجعل النسيان عليه مجازاً عن ضلالهم عن سبيل الله بعلاقة السببية ومن ضرورته جعل مفعول النسيان سبيل الله تعالى ، وعليه يكون التعليل المصرح به عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان فتدبر .

هذا ومما قاله بعض السادة الصوفية في بعض الآيات : { يا داوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض } [ ص : 26 ] نقل الشعراني أن خلافته عليه السلام وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني فإن لكل شخص من أهله مقاماً معلوماً عينه له ربه سبحانه ، وللشيخ الأكبر قدس سره كلام طويل في الخلافة ، ويحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة ولا هو داخل في ربقة التكليف لأن مرتبته مرتبة مستخلفة وهو كفر صراح ، وفرق العلماء بين الخليفة والملك .

أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال : حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة . والزبير . وكعباً . وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك ؟ فقال طلحة . والزبير : ما ندري فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى فقال كعب : ما كنت أحسب أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري فقوله تعالى :

{ فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } [ ص : 26 ] كالتفسير لهذه الخلافة وفيه إشارة إلى ذم الهوى ، وفي بعض الآثار ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى فهو أعظم الأصنام .