تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

ولما أمرهم باتباع ملة إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته الحرام بالحج وغيره ، فقال : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

يخبر تعالى عن شرف هذا البيت الحرام ، وأنه أول بيت وضعه الله للناس ، يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم ، وتقال عثارهم ، ويحصل لهم به من الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم والفوز بثوابه والنجاة من عقابه ، ولهذا قال : { مباركا } أي : فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية والدنيوية كما قال تعالى { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } { وهدى للعالمين } والهدى نوعان : هدى في المعرفة ، وهدى في العمل ، فالهدى في العمل ظاهر ، وهو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به ، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق بسبب الآيات البينات التي ذكر الله تعالى في قوله{ فيه آيات بينات }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبى صلى الله عليه وسلم وهى مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد ، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم فى الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذى نازعوا فى أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ . . . } .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : فى اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه :

الأول : أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود فى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود فى نبوته وقالوا : إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض الحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا ، فأجاب الله عنه بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فبين - سبحانه - أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى " .

والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته فى الأرض ، وقيل المراد بها كونه أولا فى الوضع وفى البناء ، ورووا فى ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه .

وبكة : لغة فى مكة عند الأكثرين ، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيراً ، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع . وقيل هما متغايران : فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها . وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام . يقال تباك القوم إذا تزاحموا ، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها . والبك أيضاً دق العنق ، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء . وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها ، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها .

والمعنى : إن أول بيت وضعه الله - تعالى - للناس فى الأرض ليكون متعبداً لهم ، هو البيت الحرام الذى بمكة ، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله ، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم .

روى الشيخان عن أبى ذر قال : " قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع فى الأرض أول ؟ قال : المسجد الحرام . قلت : ثم آي ؟ قال المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : حيثما أدركتك الصلاة فصل . والأرض لك مسجد " .

قالوا : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال : معلوم أن سليمان بن داود هو الذى بنى المسجد الأقصى ، والذى بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل ، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فيكف قال صلى الله عليه وسلم : إن بين بناء المسجدين أربعين سنة !

والجواب أن الوضع غير البناء ، فالذى أسس المسجد الأقصى ووضعه فى الأرض بأمر الله سيدنا يعقوبن بن إسحاق بن إبراهيم ويعقوب هذه المدة التى جاءت في الحديث ، أما سليمان فلم يكن مؤسساً للمسجد الأقصى أو واضعاً له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة .

وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى ، وأجمع منه للديانات السماوية ، وهو - أى البيت الحرام - أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج ، وجعل الطوف حوله عبادة ، وتقبيل الحجر الأسود الذى هو ضمن بنائه عبادة .

. . ولا يوجد بيت سواه فى الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام .

وبذلك ثبت كذب اليهود فى دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام ، وأن فى تحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فى صلاته مخالفة للأنبياء قبله .

ثم مدح الله - تعالى - بيته بكونه { مُبَارَكاً } أى كثير الخير دائمه ، من البركة وهى النماء والزيادة والدوام .

أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه ، أو طاف حوله ، بسبب مضاعفة الأجر ، وإجابة الدعاء ، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة لله رب العالمين .

وإن هذا البيت فى الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية .

فمن بركاتع المادية : قدوم الناس إليه من مشارق الإرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض ، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام ، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ومن بركاته المعنوية : أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهى فريضة الحج ، وإليه يتجه المسلمون فى صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم .

وقوله { مُبَارَكاً } حال من الضمير فى " وضع " .

ثم مدحه بأنه { هُدًى لِّلْعَالَمِينَ } آي بذاته مصدر هداية للعالمين ، لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، وفى استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

يُخْبر تعالى أن{[5338]} أول بيت وُضع للناس ، أي : لعموم الناس ، لعبادتهم ونُسُكهم ، يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } يعني : الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل [ عليه السلام ]{[5339]} الذي يَزْعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجِه ، ولا يَحجُّون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه . ولهذا قال : { مُبَارَكًا } أي وُضع مباركا { وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ }

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن أبيه ، عن أبي ذَر ، رضي الله عنه ، قال قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ مَسجِد وُضِع في الأرض أوَّلُ ؟ قال : " الْمسْجِدُ الْحَرَامُ " . قلت : ثم أَيُّ ؟ قال : " الْمسجِدُ الأقْصَى " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أرْبَعُونَ سَنَةً " . قلتُ : ثم أَيُّ ؟ قال : ثُم حَيْثُ أدْرَكْت{[5340]} الصَلاةَ فَصَلِّ ، فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ " .

وأخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث الأعمش ، به{[5341]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصَّبَّاحِ ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا شَرِيك عن مُجالد ، عن الشَّعْبيّ عن علِيّ في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا } قال : كانت البيوت قبلة ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله [ تعالى ]{[5342]} .

[ قال ]{[5343]} وحدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحْوَص ، عن سِماك ، عن خالد ابن عَرْعَرة قال : قام رجل إلى عَليّ فقال : ألا تُحَدِّثني عن البيت : أهو أولُ بيت وُضِع في الأرض ؟ قال{[5344]} لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا . وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت ، وقد ذكرنا ذلك مُستَقصًى في سورة البقرة فأغْنَى عن إعادته{[5345]} .

وزعم السُّدِّي أنه أولُ بيت وضع على وجه الأرض مطلقا . والصحيحُ قولُ علِيّ [ رضي الله عنه ]{[5346]} فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في{[5347]} كتابه دلائل النبوة ، من طريق ابن لَهِيعة ، عن يَزيد بن أبي حَبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلَى آدَمَ وحَوَّاءَ ، فَأمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَبَنَاهُ آدَمُ ، ثُمَّ أمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ ، وَقِيلَ لَهُ : أنْتَ أوَّلُ النَّاسِ ، وهَذَا أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ " {[5348]} فإنَّهُ كَمَا تَرَى مِنْ مُفْرَدَاتِ ابْنِ لَهِيعة ، وهو ضعيف . والأشْبَهُ ، والله أعلمُ ، أن يكون هذا مَوْقُوفا على عبد الله بن عَمْرو . ويكون من الزاملتين اللتين {[5349]} أصابهما يوم الْيَرْمُوك ، من كلام أهل الكتاب .

وقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } بَكَّة : من أسماء مكة على المشهور ، قيل{[5350]} سُمِّيت بذلك لأنها تَبُكّ أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى : يُبَكون{[5351]} بها ويخضعون عندها . وقيل : لأن الناس يَتَبَاكّون فيها ، أي : يزدحمون .

قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعا ، فيصلي{[5352]} النساء أمام الرجال ، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها .

وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعَمْرو بن شُعَيب ، ومُقاتل بن حَيَّان .

وذكر حَمّاد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : مَكَّة من الفجّ إلى التنعيم ، وبكّة من البيت إلى البطحاء .

وقال شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : بَكَّة : البيت والمسجد . وكذا قال الزهري .

وقال عكرمة في رواية ، وميمون بن مِهْران : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة .

وقال أبو صالح ، وإبراهيم النّخَعي ، وعطية [ العَوْفي ]{[5353]} ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت ، وما سوى ذلك مكة .

وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، والبلد الأمين ، والمأمون ، وأُمَّ رُحْم ، وأم القُّرَى ، وصلاح ، والعرْش على وزن بدر ، والقادس ؛ لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والناسّة : بالنون ، وبالباء أيضا ، والحاطمة ، والنسَّاسة {[5354]} والرأس ، وكُوثى ، والبلدة ، والبَنِيَّة ، والكعبة .


[5338]:في جـ: "بأن".
[5339]:زيادة من و.
[5340]:في أ: "أدركتك".
[5341]:المسند (5/150) وصحيح البخاري برقم (3366، 3425) وصحيح مسلم برقم (520).
[5342]:زيادة من أ، و.
[5343]:زيادة من و.
[5344]:في ر، أ، و: "فقال".
[5345]:تفسير ابن أبي حاتم (2/403).
[5346]:زيادة من أ، و.
[5347]:في أ، و: "من".
[5348]:دلائل النبوة للبيهقي (2/45) وقال البيهقي: "تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا".
[5349]:في أ: "اللذين".
[5350]:في ر: "وقيل".
[5351]:في و: "يذلون".
[5352]:في جـ، ر: "فتصلي".
[5353]:زيادة من جـ، أ، و.
[5354]:في جـ، ر: "النساسة والحطامة".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

وقرأ جمهور الناس : «وُضع » على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله ، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول ، وقرأ عكرمة ، «وَضع » بفتح الواو والضاد ، فيحتمل أن يريد : وضع الله ، فيكون المعنى منقطعاً كما هو في قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام ، فيكون المعنى متصلاً بالذي قبله ، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته ، في الحج وغيره على ما روى عكرمة : أنه لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } الآية : قال اليهود : نحن على الإسلام فقرئت ، { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] قيل له : أحجهم يا محمد ، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام .

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال ( أربعون سنة ) {[3337]} ، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعاً ، ويضعف ما قال الزجّاج : من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود ، اللهم إلا أن يكون جدده ، وأين مدة سليمان ، من مدة إبراهيم ؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة ، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد ؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله : { إن أول } فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى الآية أن أول بيت وضع مباركاً وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى ، وقال قوم : بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض{[3338]} .

قال الفقيه القاضي أبو محمد : ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض ، ونحو ما قال الزجّاج : من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديداً ، قال قتادة : ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان{[3339]} ، واختلف الناس في { بكة } ، فقال الضحاك وجماعة من العلماء : «بكة » هي مكة ، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم ، على لغة مازن وغيرهم ، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله ، و «بكة » مزدحم الناس حيث يتباكون ، وهو المسجد وما حول البيت ، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية : «بكة » موضع البيت ، ومكة غيره من المواضع ، قال ابن القاسم : يريد القرية ، قال الطبري : ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة ، وقال قوم : «بكة » ، ما بين الجبلين ومكة ، الحرم كله ، و { مباركاً } نصب على الحال ، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال ، قوله : { وضع } والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله { ببكة } تقديره : استقر ببكة مباركاً ، وفي وصف البيت ب { هدى } مجازية بليغة ، لأنه مقوم مصلح ، فهو مرشد ، وفيه إرشاد ، فجاء قوله ، { وهدى } بمعنى وذا هدى ، ويحتمل أن يكون { هدى } في هذه الآية ، بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعي العالمون إليه .


[3337]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما- عن أبي ذر (فتح القدير: 1/332)
[3338]:- أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي، في الشعب عن ابن عمر، وأخرج نحوه ابن المنذر عن أبي هريرة. (فتح القدير. 1: 332)
[3339]:- انظر تفسير الطبري 4/8
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ آل عمران : 95 ] لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاماً لإبراهيم ففضائل هذا البيتِ تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النَّاس ، فهذا الاستدلال خطابي ، وهو أيضاً إخبار بفضيلة الكعبة ، وحرمتها فيما مضى من الزّمان .

وقد آذن بكون الكلام تعليلاً موقع ( إنّ ) في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر ، أو شكّ شاكّ .

ومن خصائص ( إنّ ) إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام ، أن تغني غَناء فاء التفريع وتفيد التَّعليل والربط ، كما في دلائل الإعجاز .

ولِمَا في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون ( إنّ ) مؤذنة بالربط . وبيانُ وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهُدى وإعلان توحيد الله ليكون علماً مشهوداً بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك ، فقد كان جامعاً لدلائل الحنيفية ، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور ، دون غيره من الهياكل الدينية الَّتي نشأت بعده ، وهو مائل ، كان ذلك دلالة إلهية على أنَّه بمحلّ العناية من الله تعالى ، فدلّ على أنّ الدّين الَّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله ، وهذا يؤول إلى معنى قوله : { إن الدين عند اللَّه الإسلام } [ آل عمران : 19 ] .

وهذا التَّعليل خطابي جار على طريقة اللُّزوم العرفي .

وقال الواحدي ، عن مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المَقْدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنَّه مُهَاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله هذه الآية .

و { أوَّل } اسم للسابق في فِعلٍ مَّا فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه .

والبيت بناء يأوِي واحداً أو جماعة ، فيكون بيتَ سكنى ، وبيت صلاة ، وبيت ندوة ، ويكون مبنياً من حَجَر أو من أثواببِ نسيج شعر أو صوف ، ويكون من أدم فيسمّى قبَّة قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } [ النحل : 81 ] .

ومعنى { وُضع } أسّسَ وأثْبِتَ ، ومنه سمّي المكان موضعاً . وأصل الوضع أنَّه الحطّ ضدّ الرفع ، ولمَّا كان الشيء المرفوع بعيداً عن التناول ، كان الموضوع هو قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتَّهيئة للانتفاع .

و ( النَّاس ) تقدّم في قوله تعالى : { ومن النَّاس من يقول آمنا باللَّه } في سورة [ البقرة : 8 ] .

( { وبكّة } اسم مكَّة . وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدّت من المترادف : مثل لازب في لازم ، وأربد وأرمد أي في لون الرماد ، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك : أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت ، وأنّ مكَّة بالميم اسم بقية الموضع ، فتكون باء الجرّ هنا لظرفية مكان البيت خاصّة .

لا لسائر البلد الَّذي فيه البيت ، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علماً على المكان الَّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلداً ، فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنَّهم سمّوا مدينة ( بعلبك ) أي بلد بَعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللَّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت ، فلاحظ أيضاً الاسم الأوّل ، ويؤيّد ذلك قوله : { ربّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] وقوله : { ربّ اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] . وقد قيل : إنّ بكّة مشتقّ من البَكّ وهو الازدحام ، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم .

وعدل عن تعريف البيت باسمه العلَم بالغلبة ، وهو الكعبة ، إلى تعريفه بالموصولية بأنَّه ( الَّذي ببكة ) : لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين ، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره ، بخلاف اسم الكعبة : فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الَّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية .

والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها . وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض ، فتمسّك بهذا الظَّاهر مجاهد ، وقتادة ، والسّدي ، وجماعة ، فقالوا : هي أوّل بناء ، وقالوا : إنَّها كانت مبنيّة من عهد آدم عليه السلام ثُمّ درست ، فجددها إبراهيم ، قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتُها ، وقد زعموا أنَّها كانت تسمّى الضُراح بوزن غراب ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر ، وتأوّلوا الآية . قال عليّ رضي الله عنه : « كان قبل البيت بيوت كثيرة » ولا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك ، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها ، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أوّل بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم ، لأنّ قبل إبراهيم أمماً وعصوراً كان فيها البناء ، وأشهر ذلك برج بابل ، بُنِي إثر الطوفان ، وما بناه المصريّون قبل عهد إبراهيم ، وما بناه الكلدان في بدل إبراهيم قبل رحلته إلى مصر ، ومن ذلك بيت أصنامهم ، وذلك قبل أن تصير إليه هاجَر الَّتي أهداها له ملك مصر ، وقد حكى القرآن عنهم { قالوا ابْنُوا له بنياناً فَألْقُوه في الجحيم } [ الثافات : 97 ] فتعيّن تأويل الآية بوجه ظاهر ، وقد سلك العلماء مسالك فيه : وهي راجعة إلى تأويل الأوّل ، أو تأويل البيت ، أو تأويل فعل وُضع ، أو تأويل النَّاس ، أو تأويل نظم الآية ، والَّذي أراه في التأويل أنّ القرآن كتاب دين وهُدى ، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التَّاريخ ، ولكن أوائل أسباب الهدى ، فالأوَّلية في الآية على بابها ، والبيت كذلك ، والمعنى أنَّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التَّوحيد ، بقرينة المقام ، وبقرينة قوله : { وُضع للنَّاس } المقتضى أنَّه من وضعِ واضعٍ لمصلحة النَّاس ، لأنَّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النَّاس ، وبقرينة مجيء الحالين بعدُ ؛ وهما قوله : { مباركاً وهدى للعالمين } .

وهذا تأويل في معنى بيت ، وإذا كان أوّلَ بيتِ عبادة حقَ ، كان أوّل معهد للهدى ، فكان كُلّ هدى مقتبساً منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله ، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه ، وهذا المفاد من تفريع قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ البقرة : 95 ] . وتأوّل الآية عليّ بن أبي طالب ، فروى عنه أنّ رجلاً سأله : أهو أوّل بيت ؟ قال : « لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً وهدى » فجعل مباركاً وهدى حالين من الضمير في { وُضع } لا من اسممِ الموصول ، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلاّ على معنى أنَّه أوّل بيت من بيوت الهدى كما قلنا ، وليس مراده أنّ قوله : { وضع } هو الخبَر لتعيّن أن الخبر هو قوله : { للذي ببكة } بدليل دُخول اللاّم عليه .

وعن مجاهد قالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنَّها مهاجَر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا تأويل { أول } بأنَّه الأوّل من شيئين لا من جنس البيوت كلّها .

وقيل : أراد بالأول الأشرف مجازاً .

وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد من النَّاس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنَّصارى والمسلمين ، وكلّهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام ، فأوّل معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنَّه أفضل ممَّا سواه من بيوت عبادتهم .

وإنَّما كانت الأوّلية موجِبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة ، إذ هي في ذلك سواء ، ولكنَّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها ، وبنسبتها إلى بانيها ، وبحسن المقصد في ذلك ، وقد قال تعالى في مسجد قُبَاء : { لمَسجِدٌ أسِّسَ على التَّقوَى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] .

وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون . فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمانَ بنى بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح ، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول . وأمَّا بيتُ المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره . وروى في « صحيح مسلم » ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنَّه قال : سألت رسول الله : أيّ مسجد وُضِعَ أولُ ؟ قال : المسجدُ الحرام ، قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : المسجدُ الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة . فاستشكله العلماء بأنّ بين إبراهيم وسليمان قروناً فكيف تكون أربعين سنة ، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجداً في موضع بيت المقدس ثُمّ درس فجدّده سليمان .

وأقول : لا شكّ أنّ بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود ، وأشار إليه القرآن في قوله : { يعملون له ما يشاء من محاريب } [ سبأ : 13 ] الآية ، فالظاهر أنّ إبراهيم لمَّا مرّ ببلاد الشَّام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسلهُ عيَّن الله له الوضع الَّذي سيكون به أكبر مسجدٍ تبنيه ذرّيّته ، فأقام هنالك مسجداً صغيراً شكراً لله تعالى ، وجعله على الصّخرة المجعولة مذبحاً للقربان . وهي الصّخرة الَّتي بنى سليمان عليها المسجد ، فلمَّا كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتَّى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه ، وهذا من العِلم الَّذي أهملتْه كتب اليهود ، وقد ثبت في سفر التَّكوين أنّ إبراهيم بنى مذابح في جهات مرّ عليها من أرض الكنعانيين لأنّ الله أخبره أنَّه يعطي تلك الأرض لنسله ، فالظاهر أنّه بنى أيضاً بموضع مسجد أرشليم مذبحاً .

و { مباركاً } اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير . أي جُعلت البركة فيه بجعل الله تعالى ، إذ قَدّرَ أن يكون داخلُهُ مُثاباً ومحصّلا على خيْر يبلغه على مبلغ نيته ، وقدّر لمجاوريه وسكّان بلده أن يكونوا ببركة زيادةِ الثَّوابِ ورفاهية الحال ، وأمر بجعل داخله آمناً ، وقدّر ذلك بين النَّاس فكان ذلك كلّه بركة . وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الَّذي بين يديه } في سورة [ الأنعام : 92 ] .

( ووصفه بالمصدر في قوله : وهُدى } مبالغة لأنَّه سبب هدى .

وجُعل هدى للعالمين كلِّهم : لأنّ شهرته وتسامع النَّاس به ، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه ، وأنَّه لتوحيد الله ، وتطهير النُّفوس من خبث الشرك فيهتدي بذلك المهتدي ، ويرعوي المتشكك .

ومن بركة ذاته أنّ حجارته وضعتْها عند بنائه يد إبراهيم ، ويد إسماعيل ، ثُمّ يدُ محمَّد صلى الله عليه وسلم ولا سيما الحجر الأسود . وانتصب { مباركاً وهدى } على الحال من الخبر ، وهو اسم الموصول .