{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ } على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام . { فِيهَا هُدًى } يهدي إلى الإيمان والحق ، ويعصم من الضلالة { وَنُورٌ } يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك ، والشبهات والشهوات ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } { يَحْكُمُ بِهَا } بين الذين هادوا ، أي : اليهود في القضايا والفتاوى { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } لله وانقادوا لأوامره ، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم ، وهم صفوة الله من العباد . فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها ، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها ؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن ، إلا بتلك العقيدة ؟ هل لهم إمام في ذلك ؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف ، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس ، والتأكل بكتمان الحق ، وإظهار الباطل ، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار .
وقوله : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } أي : وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادواأئمة الدين من الربانيين ، أي : العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية ، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين .
والأحبار أي : العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم ، وترمق آثارهم ، ولهم لسان الصدق بين أممهم .
وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي : بسبب أن الله استحفظهم على كتابه ، وجعلهم أمناء عليه ، وهو أمانة عندهم ، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان ، وتعليمه لمن لا يعلمه .
وهم شهداء عليه ، بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه ، وفيما اشتبه على الناس منه ، فالله تعالى قد حمل أهل العلم ، ما لم يحمله الجهال ، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا .
وأن لا يقتدوا بالجهال ، بالإخلاد إلى البطالة والكسل ، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة ، من أنواع الذكر ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، ونحو ذلك من الأمور ، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا .
وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم ، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم ، ولهذا قال : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } فتكتمون الحق ، وتظهرون الباطل ، لأجل متاع الدنيا القليل ، وهذه الآفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته ، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم والتعليم ، ويعلم أن الله قد استحفظه ما{[266]} أودعه من العلم واستشهده عليه ، وأن يكون خائفا من ربه ، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له ، وأن لا يؤثر الدنيا على الدين .
كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة ، غير قائم بما أمر به ، ولا مبال بما استحفظ عليه ، قد أهمله وأضاعه ، قد باع الدين بالدنيا ، قد ارتشى في أحكامه ، وأخذ المال على فتاويه ، ولم يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة .
فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة ، كفرها ودفع حظا جسيما ، محروما منه غيره ، فنسألك اللهم علما نافعا ، وعملا متقبلا ، وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلاء يا كريم .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الحق المبين ، وحكم بالباطل الذي يعلمه ، لغرض من أغراضه الفاسدة { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه . وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد .
وبعد أن وصف الله - تعالى - اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة ، كمسارعتهم في الكفر . وكثرة سماعهم للكذب ، وتحريفهم للكلم عن مواضعه ، وتهافتهم على أكل السحت . وبعد أن خير رسوله صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم إذا ما تحاكموا إليه ، وبعد أن عجب كل عاقل من أحوالهم . بعد كل ذلك شرع - سبحانه - في بيان منزلة التوراة وفي بيان بعض ما اشتملت عليه من أحكام فقال - تعالى - :
{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا . . . }
قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } بيان لشرف التوراة قبل أن تمتد إليها الأيدي الأثيمة بالتحريف والتبديل . ويدل على شرفها وعلو مقامها أن الله - تعالى - هو الذي أنزلها لا غيره ، وأنه - سبحانه - جعلها مشتملة على الهدى والنور . والمراد بالهدى ، ما اشتملت عليه من بيان للأحكام والتكاليف والشرائع التي تهدي الناس إلى طريق السعادة .
والمراد بالنور : ما اشتملت عليه من بيان للعقائد السليمة ، والمواعظ الحكيمة ، والأخلاق القويمة .
والمعنى إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى - عليه السلام - مشتملة على ما يهدي الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضئ لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة .
ثم بين - سبحانه - بعض الوظائف التي جعلها للتوراة فقال : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } .
والمراد بقوله : { النبيون } من بعثهم الله في بني إسرائيل من بعد موسى لإِقامة التوراة .
وقوله : الذين أسلموا صفة للنبيين . أي : أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة والطاعة .
وعن الحسن والزهري وقتادة : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه حكم على اليهوديين الذين زنيا بالرجم ، وكان هذا حكم التوراة . وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .
وقال ابن الأنباري : هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم يهود أو نصارى - فقال - تعالى - { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } يعني أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية أو النصرانية ، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه .
وقوله : { لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي : رجعوا عن الكفر . والمراد بهم اليهود . واللام للتعليل .
وقوله : { والربانيون } معطوف على ( النبيون ) وهو جمع رباني . وهم - كما يقول ابن جرير - العلماء والحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم ، والقيام بمصالحهم .
وقوله : ( الأحبار ) معطوف أيضاً على ( النبيون ) .
قال القرطبي ما ملخصه : والأحبار : قال ابن عباس : هم الفقهاء . والحبر بالفتح والكسر - الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، قفهم يحبرون العلم .
أي : يبينونه ، وهو محبر في صدورهم .
والباء في قوله : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } متعلقة بقوله { يَحْكُم } .
وقوله { استحفظوا } من الاستحفاظ بمعنى طلب الحفظ بعناية وفهم ، إذ أن السين والتاء للطلب ، والضمير في { استحفظوا } يعود على النبيين والربانيين والأحبار .
والمعنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق ، وضاء لهم من ظلمات الباطل ، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياءهم الذين أسلموا وجوههم لله ، وأخلصوا له العبادة والطاعة ، ويحكم أيضاً بينهم الربانيون والأحبار الذين هم خلفاء الأنبياء . وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود ، بسبب أنه - تعالى - حملهم أمانة حفظ كتابه ، وتنفيذ احكامه وشرائعه وتعاليمه .
ويصح أن يكون قوله { بِمَا استحفظوا } متعلقا بالربانيين والأحبار ، وأن يكون الضمير عائدا عليهم وحدهم . أي : على الربانيين والأحبار ويكون الاستحفاظ بمعنى أن الأنبياء قد طلبوا منهم حفظه وتطبيق أحكامه .
والمعنى : كذلك الربانيون والأحبار كانوا يحكمون بالتوراة بين اليهود . بسبب أمر أنبيائهم إياهم بأن يحفظوا كتاب الله من التغيير والتبديل .
وقوله : { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } معطوف على { استحفظوا } .
أي : وكان الأنبياء والربانيون والأحبار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله - وهو التوراة - بأنه حق ، وكانوا رقباء على تنفيذ حدوده ، وتطبيق أحكامه حتى لا يهمل شيء منها .
قال الفخر الرازي قوله : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } : حفظ كتاب الله على وجهين :
وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من وجهين .
أحدهما : أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم .
والثاني : ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه .
وقوله : { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها من التحريف والتغيير .
ثم أمر الله - تعالى - اليهود - ولا سيما علماءهم وفقهاءهم - أن يجعلوا خشيتهم منه وحده .
وألا يبيعوا دينهم بدنياهم فقال - تعالى - : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
والخشية - كما يقول الراغب - خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه ، ولذلك خص العلماء بها في قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } وكأن الراغب - رحمه الله - يريد أن يفرق بين الخوف والخشية فهو يرى أن الخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشى بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم .
والفاء في قوله { فَلاَ تَخْشَوُاْ } للإِفصاح عن كلام مقدر .
والمعنى : إذا كان الأمر كما ذكر من أن الله - تعالى - قد أنزل التوراة لتنفيذ أحكامها ، وتطبيق تعاليمها . . فمن الواجب عليكم يا معشر اليهود أن تقتدوا بأنبيائكم وصلحائكم في ذلك ، وأن تستجيبوا للحث الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجعلوا خشيتكم منى وحدي لا من أحد من الناس ، فأنا الذي بيدي نفع العباد وضرهم .
وقوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } معطوف على قوله { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } والاشتراء هنا المراد به الاستبدال .
والمراد بالآيات : ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا .
أي : ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة احكاماً أخرى وتغريرها وتخالفها ، لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا وشهواتها كالمال والجاه وما يشبه ذلك .
وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل استبدال الآيات ؛ لأنه لا يكون إلا قليلا - وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا - بالنسبة لطاعة الله ، والرجاء في رحمته ورضاه .
وهذا النهي الذي اشتملت عليه هاتان الجملتان الكريمتان : { فَلاَ تَخْشَوُاْ } { وَلاَ تَشْتَرُواْ } وإن كان موجها في الأصل إلى رؤساء اليهود وأحبارهم . إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ومكان ، لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب .
وإلى هذا المعنى أشار الآلوسي بقوله : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس } خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات - إذ انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصين للنبي صلى الله عليه وسلم ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة .
ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان سوء عاقبة من يفعل فعل اليهود ، فيحكم بغير شريعة الله فقال - تعالى - { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } .
أي : كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله : وقضى بغيره من الأحكام ، فأولئك هم الكافرون بما أنزله - سبحانه - لأنهم كتموا الحق الذي كان من الواجب عليهم إظهاره والعمل به . والجملة الكريمة - كما يقول الآلوسي - تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير من الإِخلال به أشد تحذير .
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - سمو منزلة التوراة التي أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام ، فقد أضاف - سبحانه - إنزالها إليه ، فكان لهذه الإِضافة مالها من الدلالة على علو مقامها ، كما بين - سبحانه - شرفها الذاتي بذكر ما اشتملت عليه من هداية إلى الحق ، ومن نور يكشف للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم ودنياهم .
وهذا السمو إنما هو للتوراة التي لم تمتد إليها أيدي اليهود بالتحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان . أما تلك التوراة التي بين أيديهم الآن ، والتي دخلها من التحريف ما دخلها فهي عارية عن الثقة في كثير مما اشتملت عليه من قصص وأحكام .
2 - قال الفخر الرازي : " دلت الآية على أنه يحكم بالتوارة النبيون والربانيون والأحبار ، وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار ، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين . والأحبار كآحاد العلماء .
ثم قال : وقد احتج جماعة بأن شرع من قبلنا لازم علينا - إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا - بهذه الآية ، وتقريره أنه - تعالى - قال في التوراة هدى ونوراً ، والمراد كونها هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه ، ولو كان ما فيها منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور ، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط ، لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معا ما يتعلق بأصول الدين للزم التكرار ، وأيضاً فإن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها لأنا - وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا - لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها .
3 - استدل العلماء بهذه الآية على أن الحاكم من الواجب عليه أن ينفذ أحكام الله دون أن يخشى أحدا سواه ، وأن عليه كذلك أن يبتعد عن أكل المحرم بكل صورة وأشكاله ، وألا يغير حكم الله في نظير أي عرض من أعراض الدنيا ، لأن الله - تعالى - يقوله : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : قوله : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكومتهم ، وادهانهم فيها - أي ومصانعتهم فيها - وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء وقوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا .
4 - قال بعض العلماء : في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه ، حيث علق عليه الكفر هنا والظلم والفسق بعد . وكفر الحاكم لحكمه بغير ما أنزل الله مقيد بقيد الاستهانة به . والجحود له ، وهذا ما سار عليه كثير من العلماء وأثروه عن عكرمة وابن عباس .
وعن عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . أي : أن كفر المسلم وظلمه وفسقه ليس مثل كفر الكافر وظلمه وفسقه . فإن كفر المسلم قد يحمل على جحود النعمة .
وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف : قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } : اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية والآيتان بعدها . فقيل في اليهود خاصة وقيل : في الكفار عامة . وقيل : الأولى في هذه الأمة والثانية في اليهود . والثالثة في النصارى والكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ، لا على الكفر الذي ينقل عن الملة . والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أريد منهما العتو التمرد في الكفر . وعن ابن عباس : من لم يحكم بما أنزل الله جاهدا به فهو كافر .
ومن أقربه ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .
وقال الآلوسي ما ملخصه : واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن .
ووجه استدلالهم بها أن كلمة ( من ) في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله فيدخل الفاسق المصدق أيضاً لأنه غير حاكم وغير عامل بما أنزل الله .
وأجيب عن شبهتهم بأن الآية متروكة الظاهر فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله - تعالى .
والذي يبدو لنا أن هذه الجملة الكريمة عامة في اليهود وفي غيرهم فكل من حكم بغير ما أنزل الله ، مستهيناً بحكمه - تعالى - أو منكراً له ، يعد كافراً لأن فعله هذا جحود وإنكار واستهزاء بحكم الله ومن فعل ذلك كان كافراً .
أما الذي يحكم بغير حكم الله مع إقراره بحكم الله واعترافه به ، فإنه لا يصل في عصيانه وفسقه إلى درجة الكفر .
ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران ، فقال : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } أي : لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } أي : وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء{[9865]} { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } أي : بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } أي : لا تخافوا منهم وخافوني{[9866]} { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما . سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة . {[9867]}
وكذا رواه هُشَيْم والثوري ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس{[9868]} عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ [ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ] }{[9869]} قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وقال الثوري ، عن ابن جُرَيْج{[9870]} عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
وقال وَكِيع عن سفيان ، عن سعيد المكي ، عن طاوس : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة . {[9871]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حُجَير ، عن طاوس ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . {[9872]}
وقوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة } الآية ، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية ، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان{[4555]} . و «الهدى » : الإرشاد في المعتقد والشرائع ، و «النور » : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها ، و { النبيون الذين أسلموا } هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية و { أسلموا } معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى . وقوله تعالى : { للذين هادوا } متعلق ب { يحكم } أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم . وقوله تعالى : { الربانيون } عطف على «النبيين » أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء ، وفي البخاري قال «الرباني » الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقيل «الرباني » منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه ، وزيدت النون في «رباني » مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني ، والأحبار أيضاً العلماء واحدهم حِبر بكسر الحاء ، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به . وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار » الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانياً والآخر حبراً .
وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما .
قال القاضي ابو محمد : وفي هذا نظر ، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا{[4556]} وغيرهم جحدوا أمر الرجم وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبراً ولا ربانياً . وقوله تعالى : { بما استحفظوا } أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه ، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة ، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى : { وإنا له لحافظون }{[4557]} والحمد لله . وقوله تعالى : { فلا تخشوا الناسَ واخشون } حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل . وقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطاباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فقالت جماعة : المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين ، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب{[4558]} .
وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم : الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله . ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان{[4559]} .
وقيل لحذيفة بن اليمان :أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، ان كان لكم كل حلوة ، ولهم كل ُمَّرة ، لتسلكن طريقهم قدر الشراك{[4560]} .
وقال الشعبي : نزلت { الكافرون } في المسلمين و { الظالمون } في اليهود و { الفاسقون } في النصارى{[4561]} .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم بهذا التخصيص وجهاً إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة ، فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله : { فلا تخشوا الناس } وقال إبراهيم النخعي : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها{[4562]} .
لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها . ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله ، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم ، والعظيم يتخيّل عَالياً ، كما تقدّم غير مرّة .
والنّور استعارة للبيان والحقّ ، ولذلك عطف على الهُدى ، فأحكامها هادية وواضحة ، والظرفية . حقيقية ، والهدى والنّور دلائلهما . ولك أن تجعل النّور هنا مستعاراً للإيمان والحكمة ، كقوله : { يخرجهم من الظلمات إلى النّور } [ البقرة : 132 ] ، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق ، فالنّور أعمّ ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم .
والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل ، موسى والأنبياءُ الّذين جاءوا من بعده . فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء ، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام ، وهي الحنيفية الحقّ ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة ، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط ، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء . ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله : { فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] كما تقدّم هنالك . وقد قال يوسف عليه السّلام في دعائه : { توفَّنِي مُسلماً وألْحقني بالصّالحين } [ يوسف : 101 ] . والمقصود من الوصف بقوله : { الّذين أسلموا } على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء . ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً له .
واللام في قوله : { للّذين هادوا } للأجل وليست لتعدية فعل { يحكم } إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم . والّذين هادوا هم اليهود ، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين ، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم ، فغلب عليهم من بعد ، كما قدّمناه عند قوله تعالى : { إنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين } الآية في سورة البقرة ( 62 ) .
والرّبّانيون جمع ربّاني ، وهو العالم المنسوب إلى الربّ ، أي إلى الله تعالى . فعلى هذا يكون الربّاني نَسباً للربّ على غير قياس ، كما قالوا : شعراني لكثير الشعَر ، ولحياني لعظيم اللّحية . وقيل : الربّاني العالم المُربي ، وهوَ الّذي يبتدىء النّاس بصغار العلم قبل كباره . ووقع هذا التّفسير في صحيح البخاري . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن كونوا رَبَّانيّين } في سورة آل عمران ( 79 ) .
والأحبار جمع حَبْر ، وهو العالم في الملّة الإسرائليّة ، وهو بفتح الحاء وكسرها ، لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المِداد الّذي يكتب به . وعطف { الربّانيّون والأحبار } على { النّبيئون } لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين .
والاستحفاظ : الاستئمان ، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته .
استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه .
فالباء في قوله { بما استحفظوا } للملابسة ، أي حكماً ملابساً للحقّ متّصلاً به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلاً لأجل الهوى . ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان . ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد ما حكاه عياض في « المدارك » ، عن أبي الحسن بن المنتاب ، قال : كنت عند إسماعيل يوماً فسئل : لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن ، فقال : لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة { بما استحفظوا من كتاب الله } فوكل الحفظ إليهم . وقال في القرآن : { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] . فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن . قال : فذكرت ذلك للمُحاملي ، فقال : لا أحْسَنَ من هذا الكلام .
و { من } مبيّنة لإبهام ( ما ) في قوله : { بما استحفظوا } . و { كتاب الله } هو التّوراة ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى .
وضميرُ { وكانوا } للنبيئين والربانيّين والأحبار ، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله ، أي شهداء على حفظه من التّبديل ، فحرف ( على ) هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو ( على ) الّذي يتعدّى به فعل شَهِد ، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له ، أي المحِقّ ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل ( حفظ ورقب ) ونحوهما ، أي وكانوا حفَظَة على كتاب الله وحُرّاساً له من سوء الفهو وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حَقّ فهمِه وحقّ العمل به .
ولذلك عقّبه بجملة { فلا تخشوا النّاس واخْشَوْن } المتفرّعة بالفاء على قوله : { وكانوا عليه شهداء } ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحداً في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه . فيجوز أن يكون الخطاب بقوله : { فلا تخشوا النّاس } ليهود زمان نزول الآية ، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين ، والجملة على هذا الوجه معترضة ؛ ويجوز أن يكون الخطاب للنّبيئين والربّانيّين والأحبار فهيَ على تقدير القَول ، أي قلنا لهم : فلا تخشوا النّاس . والتّفريع ناشىء عن مضمون قوله : { بما استحفظوا من كتاب الله } ، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضُوا أم سخطوا ، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى .
وتقدّم الكلام في معنى { ولا تَشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } في سورة البقرة ( 41 ) .
وقولُه { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله : { فلا تخشوا النّاس واخشون } ، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تُخالَف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس ، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً عقّبت به تلك العظات الجليلة .
وعلى الوجهين فالمقصود اليهودُ وتحذير المسلمين من مثل صنعهم .
و ( مَن ) الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } ، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم ؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومَة عندهم . والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق . ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر . وقد اقتضى هذا قضيتين :
إحداهما : كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافراً ، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافراً ؛ والثّانية : قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله .
فأمَّا القضيةُ الأولى : فالّذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا . لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم . وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر ، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة . وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مُجملة ، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها . ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوصَ اليهود ، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجَه مسلم في « صحيحه » . فعلى هذا تكون ( مَنْ ) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد . والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك ، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته . وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى ؛ فيكون القَصر إدّعائياً وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلاً لها ؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلاً للخبر . وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له ، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إنْ سألتَ عن الكافرين فهم هُم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع .
وقال جماعة : المراد من لم يحكم بما أنزل الله مَن ترك الحكم به جحداً له ، أو استخفافاً به ، أو طعناً في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله ، سمِعه المكلّف بنفسه . وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، ف { من } شرطية وتركُ الحكم مُجمَل بيانُه في أدلّة أخر . وتحت هذا حالة أخرى ، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تُقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخلُ تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات ، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية .
وأعظمُ منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمورِ ، وهو مراتب متفاوتة ، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله . ٍ
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكُفر فقيل عُبّر بالكفر عن المعصيّة ، كما قالت زوجة ثابت بن قيس « أكره الكُفر في الإسلام » أي الزّنى ، أي قد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين ، وروى هذا عن ابن عبّاس . وقال طاووس « هو كفر دونَ كفر وليس كفراً ينقل عن الإيمان » . وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى ، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصيّة ، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعاً في دلالته على الحكم ، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير .
وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين . وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى : { فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّمون فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] الآية وبيّنّا وجوهه ، وسيأتي في قوله تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله { بل أولئك هم الظّالمون } في سورة النّور ( 48 50 ) .
وأمّا القضيّة الثّانية : فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم المعبّر عنه مجازاً بالكفر ، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر ، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام .
واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما ، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله . وهذا تأويل ثالث في الآية ، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره ، بأنّ ترك الحكم بين النّاس ، أو دَعا إلى الصلح ، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم ، وإلاّ للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم ، وكفرُ كلّ من ليس بحاكم . فالمعنى : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله .