ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق ، فقال : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب ، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك .
{ وَالسَّلْوَى } طائر صغير يقال له السماني ، طيب اللحم ، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين ، فلم يشكروا هذه النعمة ، واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب .
{ وَمَا ظَلَمُونَا } يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين ، كما لا تنفعه طاعات الطائعين ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فيعود ضرره عليهم .
ثامناً : نعمة تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم :
ثم عطف - سبحانه - على نعمة بعثهم من بعد موتهم نعمة أخرى بل نعمتين ، وهما تظليلهم بالغمام ومنحهم المن والسلوى ، فقال تعالى :
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
الغمام : جمع غمامة ، وهي السحابة ، وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض .
والمن : اسم جنس لا واحد من لفظه ، وهو - على أرجح الأقوال - مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه حلاوته حلاوة الغسل .
والسلوى : اسم جنس جمعي ، واحدته سلواة ، وهر طائر بري لذيذ اللحم ، سهل الصيد يسمى بالسماني ، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء ، فيمسكونه قبضاً بدون تعب .
وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله - تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } قال السدي : " لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى - عليه السلام - كيف لنا بما ها هنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجرة النجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر الله - تعالى - موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل الله عليهما الغمام . قالوا : هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم توب ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى . . . }
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل من بين نعمي عليكم نعمة إظلالكم بالغمام وأنتم في التيه ليقيكم حر الشمس ، وحرارة الجو ، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهي بدون تعب منكم في تحصيله لهلكتم ، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذي رزقكم هذه النعم ، ولكنكم كفرتم بها ، فظلمتم أنفسكم دون أن ينالنا من ذلك شيء ، لأن الخلق جميعاً لن يبلغوا ضرى فيضروني ولن يبلغوا نفعي فينفعوني .
فالآية الكريمة قد أشارت إلى جحودهم النعمة بقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
وقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوف على محذوف ، أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر .
ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير ، وأن جملة { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل .
والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة { كانوا } والفعل المضارع { يَظْلِمُونَ } يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان كان يسيء إلى الناس إلا إذا كانت الإِساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى .
قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ما ملخصه : ( هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم ، وما ظلمونا فاكتفى بما ظهر عما ترك ، وقوله { وَمَا ظَلَمُونَا } أي : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها فإن الله - تعالى - لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، بل نفسَه يظلم الظالم وحظَّها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل ) .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة من أعظم النعم وهي تظليلهم بالغمام بإنزال المن والسلوى عليهم ، ولكن بني إسرائيل لم يشكروا الله على نعمه ، ولذا أرسل الله عليهم رجزاً من السماء بسبب ظلمهم وفسقهم .
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ، شرع يذكرهم - أيضا - بما أسبغ عليهم من النعم ، فقال : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } وهو جمع غمامة ، سمي بذلك لأنه يَغُمّ السماء ، أي : يواريها ويسترها . وهو السحاب الأبيض ، ظُلِّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس . كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفُتُون ، قال : ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر ، والربيع بن أنس ، وأبي مجلز ، والضحاك ، والسدي ، نحو قول ابن عباس .
وقال الحسن وقتادة : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } [ قال ]{[1771]} كان هذا في البرية{[1772]} ظلل عليهم الغمام من الشمس .
وقال ابن جرير{[1773]} قال آخرون : وهو غمام أبرد من هذا ، وأطيب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ }{[1774]} قال : ليس بالسحاب ، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن إلا لهم .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن المثنى بن إبراهيم ، عن أبي حذيفة .
وكذا رواه الثوري ، وغيره ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وكأنه يريد ، والله أعلم ، أنه ليس من زِيّ هذا السحاب ، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا ، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } قال : غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله فيه في قوله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } [ البقرة : 210 ] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر . قال ابن عباس : وكان معهم في التيه .
وقوله : { وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } اختلفت عبارات المفسرين في المن : ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار ، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا .
وقال مجاهد : المن : صمغة . وقال عكرمة : المن : شيء أنزله الله عليهم مثل الطل ، شبه الرِّبِ الغليظ .
وقال السدي : قالوا : يا موسى ، كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن ، فكان يسقط على شجر{[1775]} الزنجبيل .
وقال قتادة : كان المن ينزل عليهم في محلتهم{[1776]} سقوط الثلج ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك ؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق ، حتى إذا كان يوم سادسه ، ليوم جمعته ، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء ، وهذا كله في البرية .
وقال الربيع بن أنس : المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه .
وقال وهب بن منبه - وسئل عن المن - فقال : خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيِّ .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وهو الشعبي ، قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن .
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنه العسل .
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت ، حيث قال :
فرأى الله أنهم بمضيع *** لا بذي مزرع ولا مثمورا
فسناها عليهم غاديات *** وترى مزنهم خلايا وخورا
عسلا ناطفا وماء فراتا *** وحليبا ذا بهجة مرمورا{[1777]}
فالناطف : هو السائل ، والحليب المرمور : الصافي منه .
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن ، فمنهم من فسره بالطعام ، ومنهم من فسره بالشراب ، والظاهر ، والله أعلم ، أنه{[1778]} كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب{[1779]} ، وغير ذلك ، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد ، فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة ، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا ، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر ، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده ؛ والدليل على ذلك قول البخاري :
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك ، عن عمر بن حريث{[1780]} عن سعيد{[1781]} بن زيد ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين " .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك ، وهو ابن عمير ، به{[1782]} .
وأخرجه الجماعة في كتبهم ، إلا أبا داود ، من طرق عن عبد الملك ، وهو ابن عمير ، به{[1783]} . وقال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم ، عن الحسن العُرَني ، عن عمرو بن حريث ، به{[1784]} .
وقال الترمذي : حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلان ، قالا حدثنا سعيد بن عامر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم ، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " {[1785]} .
تفرد بإخراجه الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو ، وإلا من حديث سعيد{[1786]} بن عامر ، عنه ، وفي الباب عن سعيد بن زيد ، وأبي سعيد وجابر .
كذا قال ، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، من طريق آخر ، عن أبي هريرة ، فقال : حدثنا أحمد بن الحسن{[1787]} بن أحمد البصري ، حدثنا أسلم بن سهل ، حدثنا القاسم بن عيسى ، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن ، عن قتادة{[1788]} عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين " .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي ، يكنى بأبي محمد ، وقيل : أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي : روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها{[1789]} .
ثم قال [ الترمذي ]{[1790]} حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة : أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : الكمأة جدري الأرض ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم " .
وهذا الحديث قد رواه النسائي ، عن محمد بن بشار ، به{[1791]} . وعنه ، عن غندر ، عن شعبة ، عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، به{[1792]} . وعن محمد بن بشار ، عن عبد الأعلى ، عن خالد الحذاء ، عن شهر بن حوشب . بقصة الكمأة فقط{[1793]} .
وروى النسائي - أيضا - وابن ماجه من حديث محمد بن بشار ، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن مطر الوراق ، عن شهر : بقصة العجوة عند النسائي ، وبالقصتين عند ابن ماجه{[1794]} .
وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه{[1795]} منه ، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه ، عن علي بن الحسين الدرهمي{[1796]} عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة ، وبعضهم يقول{[1797]} جدري الأرض ، فقال : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين " {[1798]} .
وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري ، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم " {[1799]} .
قال{[1800]} النسائي في الوليمة أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب ، عن أبي سعيد وجابر ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين " {[1801]} . ثم رواه - أيضا - ، وابن ماجه من طرق ، عن الأعمش ، عن أبي بشر ، عن شهر ، عنهما ، به{[1802]} .
وقد رويا{[1803]} - أعني النسائي{[1804]} وابن ماجه - من حديث سعيد بن مسلم{[1805]} كلاهما عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، زاد النسائي : [ وحديث ]{[1806]} جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين " {[1807]} .
ورواه ابن مردويه ، عن أحمد بن عثمان ، عن عباس الدوري ، عن لاحق بن صواب{[1808]} عن عمار بن رزيق{[1809]} عن الأعمش ، كابن ماجه .
وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا أحمد بن عثمان ، حدثنا عباس الدوري ، حدثنا الحسن{[1810]} بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت ، فقال : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين " .
وأخرجه النسائي ، عن عمرو بن منصور ، عن الحسن بن الربيع{[1811]} ثم [ رواه ]{[1812]} ابن مردويه . رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام ، عن عبيد الله بن موسى ، عن شيبان{[1813]} عن الأعمش به ، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن عبيد الله بن موسى [ به ]{[1814]} {[1815]} .
وقد روى من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه :
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا حمدون بن أحمد ، حدثنا حوثرة بن أشرس ، حدثنا حماد ، عن شعيب بن الحبحاب{[1816]} عن أنس : أن أصحاب رسول الله{[1817]} صلى الله عليه وسلم تدارؤوا{[1818]} في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، فقال بعضهم : نحسبه الكمأة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم " {[1819]} .
وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة . وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا ، والله أعلم{[1820]} {[1821]} .
[ وقد ]{[1822]} روي عن شهر ، عن ابن عباس ، كما رواه النسائي - أيضًا - في الوليمة ، عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد ، عن عبد الله بن عون الخَرّاز ، عن أبي عبيدة الحداد ، عن عبد الجليل بن عطية ، عن شهر ، عن عبد الله بن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين " {[1823]} .
فقد اختلف - كما ترى فيه - على شهر بن حوشب ، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها ، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم ، فإن الأسانيد إليه جيدة ، وهو لا يتعمد الكذب ، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم من رواية سعيد بن زيد .
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السلوى طائر شبيه بالسُّمَّانى ، كانوا يأكلون منه .
وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس{[1824]} من الصحابة : السلوى : طائر يشبه السُّمَّانَى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا قرّة بن خالد ، عن جهضم ، عن ابن عباس ، قال : السلوى : هو السمَّانى .
وكذا قال مجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، والحسن ، وعكرمة ، والربيع بن أنس ، رحمهم الله .
وعن عكرمة : أما السلوى فطير{[1825]} كطير يكون بالجنة{[1826]} أكبر من العصفور ، أو نحو ذلك .
وقال قتادة : السلوى من طير إلى الحمرة ، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ . وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك ، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته{[1827]} أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه .
وقال وهب بن منبه : السلوى : طير سمين مثل الحمام ، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت . وفي رواية عن وهب ، قال : سألَتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلام ، اللحم ، فقال الله : لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض ، فأرسل عليهم ريحًا ، فأذرت عند مساكنهم السلوى ، وهو السمانى{[1828]} مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى{[1829]} السماء فخبَّؤوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز .
وقال السدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى ، عليه السلام : كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر{[1830]} الزنجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه ، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه ، فقالوا : هذا الطعام فأين الشراب ؟ فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت{[1831]} منه اثنتا عشرة عينًا ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب ، فأين الظل ؟ فَظَلَّل عليهم الغمام . فقالوا : هذا الظل ، فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم{[1832]} تطول معهم كما يطول الصبيان ، ولا يَنْخرق لهم ثوب ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } وقوله { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } [ البقرة : 60 ] .
وروي عن وهب بن منبه ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي .
وقال سُنَيْد ، عن حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قال : قال ابن عباس : خُلق لهم في التيه ثياب لا تخرق{[1833]} ولا تدرن ، قال ابن جريج : فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد ، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدًا .
[ قال ابن عطية : السلوى : طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي في قوله : إنه العسل ، وأنشد في ذلك مستشهدًا :
وقاسمها بالله جهدًا لأنتم *** ألذ من السلوى إذا ما أشورها
قال : فظن أن السلوى عسلا{[1834]} قال القرطبي : دعوى الإجماع لا تصح ؛ لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال : إنه العسل ، واستدل ببيت الهذلي هذا ، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة ؛ لأنه يسلى به ومنه عين سلوان ، وقال الجوهري : السلوى العسل ، واستشهد ببيت الهذلي - أيضا - ، والسلوانة بالضم خرزة ، كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر :
شربت على سلوانة ماء مزنة *** فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان ، وقال بعضهم : السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه( مُفَرِّح ) ، قالوا : والسلوى جمع بلفظ - الواحد - أيضًا ، كما يقال : سمانى للمفرد والجمع ودِفْلَى كذلك ، وقال الخليل واحده سلواة ، وأنشد :
وإني لتعروني لذكراك هزة *** كما انتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوي ، نقله كله القرطبي{[1835]} ]{[1836]} .
وقوله تعالى : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أمر إباحة وإرشاد وامتنان . وقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] ، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا ، كما قال : { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ سبأ : 15 ] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم ، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات ، وخوارق العادات ، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم{[1837]} ورضي عنهم ، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم ، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته ، منها عام تبوك ، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد ، لم يسألوا خرق عادة ، ولا إيجاد أمر ، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم ، فجاء قدر مَبْرك الشاة ، فدعا [ الله ]{[1838]} فيه ، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم ، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى ، فجاءت سحابة فأمطرتهم ، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم . ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر . فهذا هو الأكمل في الاتباع : المشي مع قدر الله ، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
{ وظللنا عليكم الغمام } سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه .
{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى } الترنجبين والسماني . قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى . { كلوا من طيبات ما رزقناكم } على إرادة القول .
{ وما ظلمونا } فيه اختصار ، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا . { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره .
عطف { وظللنا } على { بعثناكم } [ البقرة : 56 ] . وتعقيب ذكر الوحشة بذكر جائزة شأن الرحيم في تربية عبده ، والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيليم وسينا في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم ومما تنبته الأرض . وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سينا فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني إسرائيل بالرحيل فإذا حلت السحابة حلوا إلخ ، كذا تقول كتبهم{[127]} .
فلما سأل بنو إسرائيل الخبز واللحم كان المن ينزل عليهم في الصباح والسلوى تسقط عليهم في المساء بمقدار ما يكفي جميعهم ليومه أو ليلته إلا يوم الجمعة فينزل عليهم منهما ضعف الكمية لأن في السبت انقطاع النزول .
والمن مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول ، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل في برية سينا . وقد وصفته التوراة{[128]} بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا ، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه كطعم قطائف بزيت{[129]} وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون .
وأما السلوى فهي اسم جنس جمعي واحدته سلواة وقيل : لا واحد له وقيل : واحده وجمعه سواء ، وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضاً ويسمى هذا الطائر أيضاً السمانى بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحبارى ، وهو أيضاً اسم يقع للواحد والجمع ، وقيل : هو الجمع وأما الفرد فهو سماناة .
وقوله : كلوا من طيبات ما رزقناكم مقول قول محذوف لأن المخاطبين حين نزول القرآن لم يؤمروا بذلك فدل على أنه من بقية الخبر عن أسلافهم .
وقوله : { وما ظلمونا } قدره صاحب « الكشاف » معطوفاً على مقدر أي فظلموا وقرره شارحوه بأن ( ما ظلمونا ) نفي لظلم متعلق بمفعول معين وهو ضمير الجلالة وهذا النفي يفيد في المقام الخطابي أن هنالك ظلماً متعلقاً بغير هذا المنصوب إذ لو لم يكن الظلم واقعاً لنفى مطلقاً بأن يقال : وما ظلموا وليس المعنى عليه ، وأنه إنما قدر في « الكشاف » الفعل المحذوف مقترناً بالفاء لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب معنى السببية غالباً ، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها فشبه وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا ريثٍ وبدون مراقبة ذلك الإحسان حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة ، ورمز إلى لفظ المشبه به برديفه وهو فاء السببية وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح لأن يكون مسبباً عن الإنعام على حد قولك أحسنتُ إلى فلان فأساء إليَّ وقوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون فالفاء مجاز لغير الترتب على أسلوب قولك : أنعمَتُ عليه فكفر . ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها فإن الاطراد من علامات الحقيقة . وأما الترتب أي السببية فأمر عارض لها فهو من المجاز أو من مستتبعات التراكيب ألا ترى أنه يوجد تارة ويتخلف أخرى فإنه مفقود في عطف المفردات نحو جاء زيد فعمرو وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى : { لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } [ ق : 22 ] فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجاً إلى القرائن فإن لم تتطلب له علاقة قلت هو من مستتبعات تراكيب بقرينة المقام وإن تطلبت له علاقة وهي لا تعوزك قلت هو مجاز لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية ولو عرفا ولو ادعاء فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس .
ومما يدل على أن حقيقة الفاء العاطفة هو الترتيب والتعقيب فقط أن بعض البيانيين جعلوا قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا } [ القصص : 8 ] اللامَ فيه مستعارة لمعنى فاء التعقيب أي فكان لهم عدوًّا فجعلوا الفاء حقيقة في التعقيب ولو كانت للترتيب لساوت اللام فلم تستقم الاستعارة فيكون الوجه الحامل للزمخشري على تقدير المحذوف مقترناً بالفاء هو أنه رأى عطف الظلم على { وظللنا عليكم الغمام } وما بعده بالواو ولا يحسن لعدم الجهة الجامعة بين الامتنان والذم والمناسبةُ شرط في قبول الوصل بالواو بخلاف العطف بالفاء ، فتعين إما تقدير ظلموا مستأنفاً بدون عطف وظاهر أنه ليس هنالك معنى على الاستئناف وإما ربط ظلموا بعاطف سوى الواو وليس يصلح هنا غير الفاء لأن المعطوف حصل عقب المعطوف عليه فكان ذلك التعاقب في الخارج مغنياً عن الجهة الجامعة ولذلك كانت الفاء لا تستدعي قوة مناسبة كمناسبة الواو ولكن مناسبة في الخيال فقط وقد وجدت هنا لأن كون المعطوف حصل في الخارج عقب المعطوف عليه مما يجعله حاضراً في خيال الذي يتكلم عن المعطوف عليه ، وأما قبح نحو قولك جاء زيد فصاح الديك فلقلة جدوى هذا الخبر ألا تراه يصير حسناً لو أردت بقولك فصاح الديك معنى التوقيت بالفجر فبهذا ظهر أنه لم يكن طريق لربط الظلم المقدر بالفعلين قبله إلا الفاء .
وفي ذلك الإخبار والربط والتصدي لبيانه مع غرابة هذا التعقيب تعريض بمذمتهم إذ قابلوا الإحسان بالكفران وفيه تعريض بغباوتهم إذ صدَفوا عن الشكر كأنهم ينكون بالمنعم وهم إنما يوقعون النكاية بأنفسهم ، هذا تفصيل ما يقال على تقدير صاحب « الكشاف » .
والذي يظهر لي أن لا حاجة إلى التقدير وأن جملة { وما ظلمونا } عطف على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل ومثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلماً قد حصل منهم من قوله : { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } [ البقرة : 51 ] وقوله : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } [ البقرة : 55 ] وما تضمنه قوله : { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون } [ البقرة : 56 ] الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته الجمل السابقة نظير قوله : { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 8 ] عقب قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } [ البقرة : 8 ] ونظير قوله : { وظلموا أنفسهم } [ سبأ : 19 ] بعد الكلام السابق وهو قوله : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } [ سبأ : 18 ] الآية .
وغير الأسلوب في هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد الاتعاظ بحالهم وتعريضاً بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم . وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى : { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 62 ] الآية فكان قوله : { وما ظلمونا } تمهيداً له وتعجيلاً بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم .
وقوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولاً بمجرد الجمع بين النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكي غيره كما قيل : يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه .