وهذا من شدة كفرهم ، فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استهزأوا به وقالوا : { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ } أي : هذا المحتقر بزعمهم ، الذي يسب آلهتكم ويذمها ، ويقع فيها ، أي : فلا تبالوا به ، ولا تحتفلوا به .
هذا استهزاؤهم واحتقارهم له ، بما هو من كماله ، فإنه الأكمل الأفضل الذي من فضائله ومكارمه ، إخلاص العبادة لله ، وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه ، وذكر محله ومكانته ، ولكن محل الازدراء والاستهزاء ، هؤلاء الكفار ، الذين جمعوا كل خلق ذميم ، ولو لم يكن إلا كفرهم بالرب وجحدهم لرسله فصاروا بذلك ، من أخس الخلق وأرذلهم ، ومع هذا ، فذكرهم للرحمن ، الذي هو أعلى حالاتهم ، كافرون بها ، لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك ، فكيف بأحوالهم بعد ذلك ؟ ولهذا قال : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ْ } وفي ذكر اسمه { الرَّحْمَنِ ْ } هنا ، بيان لقباحة حالهم ، وأنهم كيف قابلوا الرحمن - مسدي النعم كلها ، ودافع النقم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه ، ولا يدفع السوء إلا إياه - بالكفر والشرك .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من السفاهات التى كان المشركون يقابلون بها النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } .
أى : وإذا أبصرك المشركون - أيها الرسول الكريم - سخروا منك ، واستخفوا بك وقالوا على سبيل التهوين من شأنك : { أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } أى : أهذا هو مدعى النبوة الذى يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها ، وينفى شفاعتها لنا ، وأنها تقربنا إلى الله زلفى .
وقوله - سبحانه - : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ } فى محل نصب حال من ضمير القول المقدر .
أى : أنهم يقولون فيما بينهم أهذا هو الرسول الذى يذكر آلهتكم بسوء ، والحال أن هؤلاء المشركين الجاهلين ، كافرون بالقرآن الذى أنزله الله - تعالى - عليك - أيها الرسول الكريم - لتخرج الناس به من الظلمات إلى النور .
فالآية الكريمة تنعى على هؤلاء المشركين جهالاتهم وسفاهاتهم ، حيث استكثروا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يذم آلهتهم التى لا تنفع ولا تضر ولم يستكثروا على أنفسهم ، أن يكفروا بخالقهم وبذكره الذى أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون رحمة لهم .
قال صاحب الكشاف : الذكر يكون بخير وبخلافه . فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد . كقولك للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوا فهو ذم ، ومنه قوله : { أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } .
والمعنى : أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم ، وربما يجب أن لا تذكر به من كونهم شفعاء وشهداء .
ويسوءهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك . وأما ذكر الله - تعالى - وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، فهم به كافرون لا يصدقون به أصلا ، فهم أحق بأن يُتَّخَذُوا هزوا منك ، فإنك محق وهم مبطلون . . . فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان ، وأساءوا الأدب مع الرحمن " .
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني : كفار قريش كأبي جهل وأشباهه { إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا } أي : يستهزئون بك وينتقصونك ، يقولون : { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } يعنون : أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم ، قال تعالى : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } أي : وهم كافرون بالله ، ومع هذا يستهزئون برسول الله ، كما قال في الآية الأخرى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا . إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [ الفرقان : 41 ، 42 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهََذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمََنِ هُمْ كَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَإذَا رآكَ يا محمد الّذِينَ كَفَرُوا بالله ، إنْ يَتّخِذُونَكَ إلاّ هُزُوا يقول : ما يتخذونك إلا سخرّيا يقول بعضهم لبعض : أهَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يعني بقوله : يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها ، تعجبا منهم من ذلك . يقول الله تعالى ذكره : فيعجبون من ذكرك يا محمد آلهتهم التي لا تضرّ ولا تنفع بسوء . وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ الذي خلقهم وأنعم عليهم ، ومنه نَفْعُهم ، وبيده ضرّهم ، وإليه مرجعهم بما هو أهله منهم أن يذكروه به كَافِرُونَ والعرب تضع الذكر موضع المدح والذمّ ، فيقولون : سمعنا فلانا يذكر فلانا ، وهم يريدون سمعناه يذكره بقبيح ويعيبه ومن ذلك قول عنترة :
لا تَذْكُرِي مُهْرِي وَما أطْعَمْتُهُ *** فيَكُونَ جِلْدُكِ مثِلَ جِلْدِ الأجْرَبِ
{ وإذ رآك الذين كفروا إن يتخذونك } ما يتخذونك . { إلا هزوا } إلا مهزوءا به ويقولون : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } أي بسوء ، وإنما أطلقه لدلالة الحال فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء . { وهم بذكر الرحمن } بالتوحيد أو بإرشاد الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم أو بالقرآن . { هم كافرون } منكرون فهم أحق أن يهزأ بهم ، وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص ولحيلولة الصلة بينه وبين الخبر .
روي أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المسجد فاستهزآ به فنزلت الآية{[8222]} بسببهما ، وظاهر الآية أن كفار قريش وعظماءهم يعمهم هذا المعنى من أنهم ينكرون أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أمر آلهتهم وذكره لهم بفساد ، و { إن } بمعنى ما وفي الكلام حذف تقديره يقولون { أهذا الذي } وقوله { يذكر } لفظة تعم المدح والذم لكن قرينة المقال أبداً تدل على المراد من الذكر وتم ما حكي عنهم في قوله تعالى : { آلهتكم } ، ثم رد عليهم بأن قرن بإنكارهم ذكر الأصنام كفرهم بذكر الله أي فهم أحق وهم المخطئون . وقوله تعالى : { بذكر } أي بما يجب ان يذكر به ولا إله إلا الله منه .
وقوله { بذكر الرحمن } روي أن الآية نزلت حين أنكروا هذه اللفظة وقالوا ما نعرف الرحمن إلا في اليمامة ، وظاهر الكلام أن الرحمن قصد به العبارة عن الله تعالى كما لو قال { وهم بذكر } الله وهذا التأويل أغرق في ضلالهم وخطاهم .