{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ }
أي : إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس ، أي : كإيمان الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الإيمان بالقلب واللسان ، قالوا بزعمهم الباطل : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم ، بزعمهم{[49]} أن سفههم أوجب لهم الإيمان ، وترك الأوطان ، ومعاداة الكفار ، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك ، فنسبوهم إلى السفه ، وفي ضمنه{[50]} أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى .
فرد الله ذلك عليهم ، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة ، لأن حقيقة السفه{[51]} جهل الإنسان بمصالح نفسه ، وسعيه فيما يضرها ، وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم ، كما أن العقل والحجا ، معرفة الإنسان بمصالح نفسه ، والسعي فيما ينفعه ، و[ في ] دفع ما يضره ، وهذه الصفة منطبقة على [ الصحابة و ]المؤمنين وصادقة عليهم ، فالعبرة بالأوصاف والبرهان ، لا بالدعاوى المجردة ، والأقوال الفارغة .
ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء } .
المراد من الناس : المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم الصادقون في إيمانهم .
السفهاء : جمع سفيه ، وأصل السفه : الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال : ثوب سفيه ، إذا كان رديء النسج خفيفه ، أو كان بالياً رقيقاً . وتسفهت الريح الشجر . أي : مالت به . وزمام سفيه : كثير الاضطراب ، لمنازعة الناقة إياه ، وشاع في خفة العقل وضعف الرأي .
وهو المعنى المقصود بالسفهاء في الآية . فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم . وروى أنهم كانوا يقولون : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان ، وسفيه بني فلان ؟ ! فأوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذي كانوا يقولونه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح ؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً ، ولأنهم كانوا في رياسة من قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهبب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم اه ملخصاً . وقد رد الله عليهم بما يكبتهم ويفضحهم فقال : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأنهم أعرضوا عن النظر في الدليل وباعوا آخرتهم بدنياهم ، وهذا أقصى ما يبلغه الإِنسان من سفه العقل . وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم في دعوى سفه الصادقين في إيمانهم ، فإن قوله - تعالى - { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء } يفيد أن السفه مقصور عليهم فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين ، وقد تضمنت هذه الجملة من المؤكدات ما تضمنته الجملة السابقة في قوله تعالى - { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } .
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس ، ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس :
( وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس ، قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون ) . .
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة ، وأسلموا وجوههم لله ، وفتحوا صدورهم لرسول الله [ ص ] يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين . . هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم . .
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول [ ص ] ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام ! ومن ثم قالوا قولتهم هذه : ( أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ) . . ومن ثم جاءهم الرد الحاسم ، والتقرير الجازم :
( ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون ) . .
ومتى علم السفيه أنه سفيه ؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم ؟ !
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء } .
هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل ، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضاً طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كُلَفَهُ ومتَّقياته ، وكَلَّت أذهانهم من ابتكار الحِيَل واختلاق الخطل . وحذف مفعول { آمِنوا } استغناء عنه بالتشبيه في قوله : { كما آمن الناس } أو لأنه معلوم للسامعين . وقوله : { كما آمن الناس } الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل ، واللام في ( الناس ) للجنس أو للاستغراق العرفي . والمراد بالناس من عَدَا المخاطبين ، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر ، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء ، قال عَمْرو ابن البَرَّاقَة النِّهْمِي :
وننصُرُ مولانا ونَعَلُم أَنَّه *** كما الناسِ مجرومٌ عليه وجَارم
وقوله : { أنؤمن كما آمن السفهاء } استفهام للإنكار ، قصدوا منه التبرىء من الإيمان على أبلغ وجه ، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيهاً بإيمان السفهاء تشنيعاً له وتعريضاً بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم ، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم { كما آمن الناس } أنه يعني بالناس المسلمين .
والسفهاءُ جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة ، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السموأل :
نَخاف أن تَسْفَهَ أحلامُنَا *** فَنَخْمل الدهرَ مع الخامل
والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه ، وتطلقها على سوء التدبير للمال . قال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } [ النساء : 5 ] وقال : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } [ البقرة : 282 ] الآية لأن ذلك إنما يجىء من ضعف الرأي . ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم ، وليس ذلك لتحقيرهم ، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار . وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتاناً ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب :
وإذا أتتْكَ مَذمَّتي من ناقص *** فهي الشهادةُ لي بأني كامل
وليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتاً ، ولا نفياً لأن القائلين لهم { آمنوا كما آمن الناس } هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين الذين لم يفشوا أمرهم فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد ولكنه شيء أطلع عليه نبيئه ، وكانت المصلحة في ستره ، وقد اطّلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من النبيء صلى الله عليه وسلم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي يتعلق بحكم النفاق والزندقة .
{ ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } .
أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصاراً للمؤمنين ، ولولا جفاء قولهم : { أنؤمن كما آمن السفهاء } لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين ولكنهم كانوا مضرب المثل : « قُلتَ فأَوْجَبْتَ » ، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة ، وأعلن ذلك بكلمة ألاَ المؤذنة بالتنبيه للخبر ، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 11 ] ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة . وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحِلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول .
{ إِنَّ } هنا لتوكيد الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفاً . و { أَلا } كأختها المتقدمة في : { ألا إنهم هم المفسدون } .
وقوله : { ولكن لا يعلمون } نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة { يعلمون دون يشعرون خلافاً للآيتين السابقتين لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شُعوراً ويكونَ الجهل به نفيَ شُعور ، بل هو وصف ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخَلَّتين وعدم ثباتهم على دينهم ثباتاً كاملاً ولا على الإسلام كذلك كافٍ في النداء بسفاهة أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفى ، وقد قالت العرب : السفاهة كاسمها ، قال النابغة :
نُبئْتُ زرعة والسفاهةُ كاسمها *** يُهدى إليّ غَرائبَ الأشعار
وقال جَزْءُ بن كلاب الفَقْعَسي :
تَبَغّى ابنُ كُوز والسَّفَاهَة كاسمها *** لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيا
فظنهم أن ما هم عليه من الكفر رُشد ، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سَفَه يدل على انتفاء العلم عنهم . فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة .