{ 93 - 94 } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }
يقول تعالى : لا أحد أعظم ظلما ، ولا أكبر جرما ، ممن كذب [ على ] الله . بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه ، وإنما كان هذا أظلم الخلق ، لأن فيه من الكذب ، وتغيير الأديان أصولها ، وفروعها ، ونسبة ذلك إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد .
ويدخل في ذلك ، ادعاء النبوة ، وأن الله يوحي إليه ، وهو كاذب في ذلك ، فإنه - مع كذبه على الله ، وجرأته على عظمته وسلطانه- يوجب على الخلق أن يتبعوه ، ويجاهدهم على ذلك ، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم .
ويدخل في هذه الآية ، كل من ادعى النبوة ، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار ، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف .
{ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ } أي : ومن أظلم ممن زعم . أنه يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه ، ويشرع من الشرائع ، كما شرعه الله . ويدخل في هذا ، كل من يزعم أنه يقدر على معارضة القرآن ، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله . وأي : ظلم أعظم من دعوى الفقير العاجز بالذات ، الناقص من كل وجه ، مشاركةَ القوي الغني ، الذي له الكمال المطلق ، من جميع الوجوه ، في ذاته وأسمائه وصفاته ؟ "
ولما ذم الظالمين ، ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار ، ويوم القيامة فقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ْ } أي : شدائده وأهواله الفظيعة ، وكُرَبه الشنيعة –لرأيت أمرا هائلا ، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها .
{ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ْ } إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب ، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها ، وتعصيها للخروج من الأبدان : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ْ } أي : العذاب الشديد ، الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل ، فإن هذا العذاب { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ْ } من كذبكم عليه ، وردكم للحق ، الذي جاءت به الرسل . { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ْ } أي : تَرَفَّعون عن الانقياد لها ، والاستسلام لأحكامها . وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه ، فإن هذا الخطاب ، والعذاب الموجه إليهم ، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده .
وفيه دليل ، على أن الروح جسم ، يدخل ويخرج ، ويخاطب ، ويساكن الجسد ، ويفارقه ، فهذه حالهم في البرزخ .
وأما يوم القيامة ، فإنهم إذا وردوها ، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال ، ولا أولاد ولا جنود ، ولا أنصار ، كما خلقهم الله أول مرة ، عارين من كل شيء .
فإن الأشياء ، إنما تتمول وتحصل بعد ذلك ، بأسبابها ، التي هي أسبابها ، وفي ذلك اليوم تنقطع جميع الأمور ، التي كانت مع العبد في الدنيا ، سوى العمل الصالح والعمل السيء ، الذي هو مادة الدار الآخرة ، الذي تنشأ عنه ، ويكون حسنها وقبحها ، وسرورها وغمومها ، وعذابها ونعيمها ، بحسب الأعمال . فهي التي تنفع أو تضر ، وتسوء أو تسر ، وما سواها من الأهل والولد ، والمال والأنصار ، فعواري خارجية ، وأوصاف زائلة ، وأحوال حائلة ، ولهذا قال تعالى :
وبعد أن بين - سبحانه - مزايا هذا القرآن أتبع ذلك ببيان عاقبة الذين يفترون الكذب على الله - تعالى - ، وصور أحوالهم عند النزع الأخير وعندما يقفون أمام ربهم للحساب بصورة ترتجف لها الأفئدة فقال - تعالى - :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } .
والمعنى لا أحد أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله فجعل له شركاء من خلقه ، وأنكر ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من هدايات ، وحلل وحرم بهواه ما لم يأذن به الله .
والاستفهام إنكارى فهو فى معنى النفى . و { مَنْ } اسم موصول والمراد به الجنس . أى : كل من افترى على الله كذبا ، وليس المراد فردا معينا .
{ أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } أى : قال بأن الله أوحى إلى بالرسالة أو النبوة مع أنه كاذب فى دعواه ، فإن الله ما أوحى إليه شيئا ، وهذا يصدق على ما ادعاه مسيلمة الكذاب والأسود العنسى من أنهما نبيان يوحى إليهما .
ويصدق - أيضاً - على كل مدع للوحى والنبوة فى كل زمان ومكان .
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على صلة { مَنْ } من عطف الخاص على العام ، لأن هذا القول هو نوع من أنواع افتراء الكذب .
{ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله } أى : ولا أحد أظلم - أيضاً - ممن قال بأنى قادر على أن أنزل قرآنا مثل الذى أنزله الله كالذين حكى القرآن عنهم قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد توعدت بأشد ألوان الوعيد كل مفتر على الله الكذب ، وكل مدع أنه يوحى إليه شىء وكل من زعم أنه فى قدرته أن يأتى بقرآن مثل هذا القرآن كما حدث من النضر بن الحارث وعبد الله بن سعد بن أبى سرح .
ثم بين - سبحانه - مصير كل ظالم أثيم فقال : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت } أى : ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة أولئك الظالمين وهم فى غمران الموت أى : فى شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان ، فجواب الشرط محذوف .
والغمرات : جمع غمرة وهى الشدة . وأصلها الشىء الذى يغمر الأشياء فيغطيها ، يقال غمره الماء إذا علاه وستره ثم استعمل فى الشدائد والمكاره .
وتفييد الرؤية بهذا الوقت لإفادة أنه ليس المراد مجرد الرؤية ، بل المراد رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر .
وقوله { والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ } أى والملائكة الموكلون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم بالإماتة والعذاب قائلين لهم على سبيل التوبيخ والزجر : أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم .
والأمر هنا للتعجيز أى : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم إلى ذلك سبيلا .
قال الآلوسى : وذهب بعضهم إلى أن هذا تمثيل لفعل الملائكة فى قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه فى المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج مالى عليك الساعة ولا أبرح مكانى حتى انتزعه منك . وفى الكشاف : أنه كناية عن العنف فى السياق والإلحاح والتشديد فى الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها " .
ولعل مما يؤيد قول ابن المنير فى تعليقه على ما قال صاحب الكشاف ما جاء فى آية أخرى وهى قوله - تعالى - { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وقوله : { اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } هذا القول من تتمة ما تقوله الملائكة لأولئك الظالمين .
أى : تقول لهم أخرجوا أنفسكم ، اليوم تلقون عذاب الذل والهوان لا بظلم من الرحمن ، وإنما بسبب أنكم كنتم فى ديناكم تفترون على الله الكذب ، وبسبب أنكم كنتم معرضين عن آياته ، مستكبرين عنها ولا تتأملون فيها ، ولا تعتبرون بها .
والمراد باليوم مطلق الزمن لا اليوم المتعرف عليه ، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده .
والهون معناه : الهوان والذل ، وفسره صاحب الكشاف ، بالهوان الشديد وقال : " وإضافة العذاب إليه كقولك ، رجل سوء يريد العراقة فى الهوان والتمكن فيه " .
ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب . . مشهد الظالمين . . [ رأي المشركين ] الذين يفترون على الله الكذب ، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له . أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن . . مشهد هؤلاء الظالمين - الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم - وهم في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب ، ويطلبون أرواحهم . والتأنيب يجبه وجوههم ، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم .
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ، أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ؟ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسكم . اليوم تجزون عذاب الهون ، بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ! لقد تقطع بينكم ، وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) . .
وقد ورد عن قتادة وابن عباس - رضي الله عنهم - أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي ؛ وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول [ ص ] وادعوا أن الله أوحى إليهم . أما الذين قال سأنزل مثلما أنزل الله - أو قال أوحي إلي كذلك - ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح ، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله [ ص ] وأنه لما نزلت الآية التي في " المؤمنون " : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) دعاه النبي [ ص ] فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال : ( تبارك الله أحسن الخالقين ) . فقال : رسول الله [ ص ] : " هكذا أنزلت علي " . . فشك عبدالله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ! فارتد عن الإسلام ، ولحق بالمشركين . فذلك قوله : ( ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ) [ رواه الكلبي عن ابن عباس ] . .
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين [ أي المشركين ] مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب . الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب ، وهم يطلبون أرواحهم للخروج ! وهم يتابعونهم بالتأنيب :
( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم : أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون . . )
وجزاء الاستكبار العذاب المهين ، وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح . . وكله مما يضفي على المشهد ظلالا مكروبة ، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق !
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شي ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }
لمّا تقضّى إبطال ما زعموه من نفي الإرسال والإنزال والوحي ، النّاشيءُ عن مقالهم الباطل ، إذ قالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] ، وعقّب ذلك بإثبات ما لأجله جحدوا إرسال الرّسل وإنزال الوحي على بشر ، وهو إثبات أنّ هذا الكتاب منزّل من الله ، عُقّب بعد ذلك بإبطال ما اختلقه المشركون من الشّرائع الضّالة في أحوالهم الّتي شرعها لهم عَمْرو بن لُحَيّ من عبادة الأصنام ، وزعمهم أنّهم شفعاءُ لهم عند الله ، وما يستتبع ذلك من البحيرة ، والسّائبة ، وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح ، وغير ذلك . فهم ينفون الرّسالة تارة في حين أنّهم يزعمون أنّ الله أمرهم بأشياء فكيف بلَغهم ما أمرهم الله به في زعمهم ، وهم قد قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] . فلزمهم أنّهم قد كذَبوا على الله فيما زعموا أنّ الله أمرهم به لأنّهم عطّلوا طريق وصول مراد الله إلى خلقه وهو طريق الرّسالة فجاءوا بأعجب مقالة .
وذكر من استخفّوا بالقرآن فقال بعضهم : أنا أوحيَ إليّ ، وقال بعضهم : أنا أقول مثلَ قول القرآن ، فيكون المراد بقوله : { ومن أظلم ممَّن افترى على الله كذباً } تسفيه عقائد أهل الشّرك والضّلالة منهم على اختلافها واضطرابها . ويجوز أن يكون المراد مع ذلك تنزيه النّبيء صلى الله عليه وسلم عمّا رموه به من الكذب على الله حين قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] لأنّ الّذي يعلم أنّه لا ظلم أعظم من الافتراء على الله وادّعاءِ الوحي باطلاً لا يُقدم على ذلك ، فيكون من ناحية قول هرقل لأبي سفيان « وسألتُك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكَرْتَ أنّ لا ، فقد أعرِفُ أنّه لم يكن ليَذَر الكذب على النّاس ويكذب على الله » .
والاستفهام إنكاري فهو في معنى النّفي ، أي لا أحد أظلم من هؤلاء أصحاب هذه الصّلات . ومساقه هنا مساق التّعريض بأنّهم الكاذبون إبطالاً لتكذيبهم إنزال الكتاب ، وهو تكذيب دلّ عليه مفهوم قوله : { والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } [ الأنعام : 92 ] لاقتضائه أنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون يكذّبون به ؛ ومنهم الذّي قال : أوحي إليّ ؛ ومنهم الّذي قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ؛ ومنهم من افترى على الله كذباً فيما زعموا أنّ الله أمرهم بخصال جاهليتهم . ومثل هذا التّعريض قوله تعالى في سورة [ العقود : 60 ] { قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه } الآية عقب قوله : { يأيّها الّذين آمنُوا لاَ تَتَّخذُوا الَّذين اتَّخذوا دِينكم هُزؤاً ولعباً من الَّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء } [ المائدة : 57 ] الآية .
وتقدّم القول في { ومَنْ أظلم } عند قوله تعالى : { ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } في سورة البقرة : 114 ] .
وافتراء : الاختلاق ، وتقدّم في قوله تعالى : { ولكن الّذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة [ العقود : 103 ] .
و{ مَن } موصولة مراد به الجنس ، أي كلّ من افترى أو قال ، وليس المراد فرداً معيّناً ، فالّذين افتروا على الله كذباً هم المشركون لأنهم حلّلوا وحرّموا بهواهم وزعموا أنّ الله أمرهم بذلك ، وأثبتوا لله شفعاء عنده كذباً .
و{ أوْ قال أوحي إليّ } عطف على صلة { مَن } ، أي كلّ من ادّعى النّبوءة كذباً ، ولم يزل الرّسل يحذّرون النّاس من الّذين يدّعون النّبوءة كذباً كما قدّمته . روي أنّ المقصود بهذا مسيلمة متنبّىء أهل اليمامة ، قاله ابن عبّاس وقتادة وعكرمة . وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادّعى النّبوءة قبل هجرة النّبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأنّ السّورة مكّية . والصّواب أنّ مسيلمة لم يدع النّبوءة إلاّ بعد أن وفد على النّبيء صلى الله عليه وسلم في قومه بني حنيفة بالمدينة سنة تسع طامعاً في أن يجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ بعده فلمّا رجع خائباً ادّعى النّبوءة في قومه .
وفي « تفسير » ابن عطيّة أنّ المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسودُ العَنْسِي المتنبّىء بصنعاء . وهذا لم يقله غير ابن عطيّة . وإنّما ذكرَ الطّبري الأسود تنظيراً مع مسيلمة فإنّ الأسود العنْسي ما ادّعى النّبوءة إلاّ في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوجه أنّ المقصود العموم ولا يضرّه انحصار ذلك في فرد أو فردين في وقت مَّا وانطباق الآية عليه .
وأمّا { من قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ، فقال الواحدي في « أسباب النّزول » ، عن ابن عبّاس وعكرمة : أنّها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان قد أسلم بمكّة ، وكان يكتب الوحي للنّبيء صلى الله عليه وسلم ثمّ ارتدّ وقال : أنا أقول مثل ما أنزل الله ، استهزاء ، وهذا أيضاً لا ينثلج له الصّدر لأنّ عبد الله بن أبي سرح ارتدّ بعد الهجرة ولحق بمكّة وهذه السّورة مكّية . وذكر القرطبي عن عكرمة ، وابنُ عطيّة عن الزّهراوي والمهدوي أنّها : نزلت في النضر بن الحارث كان يقول : أنا أعارض القرآن . وحفظوا له أقوالاً ، وذلك على سبيل الاستهزاء . وقد رووا أنّ أحداً من المشركين قال : إنّما هو قول شاعر وإنّي سأنزل مثله ؛ وكان هذا قد تكرّر من المشركين كما أشار إليه القرآن ، فالوجه أنّ المراد بالموصول العموم ليشمل كلّ من صدر منه هذا القول ومن يتابعهم عليه في المستقبل .
وقولهم : { مثلَ ما أنزل الله } إمّا أن يكونوا قالوا هذه العبارة سخرية كما قالوا : { يأيّها الّذي نُزّلَ عليه الذّكْر إنّك لمجنون } [ الحجر : 6 ] ، وإمّا أن يكون حكاية من الله تعالى بالمعنى ، أي قال سأنزل مثل هذا الكلام ، فعبَّر الله عنه بقوله : { ما أنزل الله } كقوله : { وقولِهم إنَّا قتلْنا المسيحَ عيسى ابن مريم رسولَ الله } [ النساء : 157 ] .
{ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِى غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } .
عُطِفت جملة : { ولو ترى إذ الظّالمون في غمرات الموت } على جملة : { ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً } لأنّ هذه وعيد بعقاب لأولئك الظّالمين المفترين على الله والقائلين « أوحي إلينا » والقائلين { سأنزل مثل ما أنزل الله } .
ف { الظّالمون } في قوله : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } يشمل أولئك ويشمل جميع الظّالمين المشركين ، ولذلك فالتّعريف في { الظّالمون } تعريفُ الجنس المفيد للاستغراق . والخطاب في { تَرى } للرّسول صلى الله عليه وسلم أو كلّ من تتأتَّى منه الرّؤية فلا يختصّ به مخاطب . ثمّ الرّؤية المفروضة يجوز أن يُراد بها رؤية البصر إذا كان الحال المحكي من أحوال يوم القيامة ، وأن تكون عِلميّة إذا كانت الحالة المحكيّة من أحوال النّزع وقبض أرواحهم عند الموت .
ومفعول { ترى } محذوف دلّ عليه الظّرف المضاف . والتّقدير : ولو ترى الظّالمين إذ هم في غمرات الموت ، أي وقْتهم في غمرات الموت ، ويجوز جعل ( إذْ ) اسماً مجرّداً عن الظرفيّة فيكون هو المفعول كما في قوله تعالى : { واذكروا إذْ كنتم قليلاً } [ الأعراف : 86 ] فيكون التّقدير ، ولو ترى زمَنَ الظّالمون في غمرات الموت . ويتعيّن على هذا الاعتبار جعل الرّؤية عِلميّة لأنّ الزّمن لا يُرى .
والمقصود من هذا الشّرط تهويل هذا الحال ، ولذلك حذف جواب ( لو ) كما هو الشّأن في مقام التّهويل . ونظائرُه كثيرة في القرآن . والتّقدير : لرأيت أمراً عظيماً .
والغمرة بفتح الغين ما يغمُر ، أي يَغُمّ من الماء فلا يترك للمغمور مخلصاً . وشاعت استعارتها للشدّة تشبيهاً بالشدّة الحاصلة للغريق حين يغمره الوادي أو السّيل حتّى صارت الغمرة حقيقة عرفيّة في الشدّة الشّديدة .
وجَمْع الغمرات يجوز أن يكون لتعدّد الغمرات بعدد الظّالمين فتكون صيغة الجمع مستعملة في حقيقتها . ويجوز أن يكون لقصد المبالغة في تهويل ما يصيبهم بأنّه أصناف من الشّدائد هي لتعدّد أشكالها وأحوالها لا يعبّر عنها باسم مفرد . فيجوز أن يكون هذا وعيداً بعذاب يلقونه في الدّنيا في وقت النّزع . ولمّا كان للموت سكرات جعلت غمرةُ الموت غمَرات .
و ( في ) للظرفيّة المجازيّة للدّلالة على شدّة ملابسة الغمرات لهم حتّى كأنّها ظرف يحويهم ويحيط بهم . فالموت على هذا الوجه مستعمل في معناه الحقيقي وغمراتُه هي آلام النّزع .
وتكون جملة : { أخرجوا أنفسكم } حكاية قول الملائكة لهم عند قبض أرواحهم . فيكون إطلاقُ الغمرات مجازاً مفرداً ويكون الموت حقيقة . ومعنى بسط اليد تمثيلاً للشدّة في انتزاع أرواحهم ولا بسط ولا أيديَ . والأنفس بمعنى الأرْواح ، أي أخرجوا أرْواحكم من أجسادكم ، أي هاتوا أرواحكم ، والأمر للإهانة والإرْهاق إغلاظاً في قبض أرواحهم ولا يتركون لهم راحة ولا يعاملونهم بلين ، وفيه إشارة إلى أنّهم يجْزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه وعيد بالآلام عند النّزع جزاءاً في الدّنيا على شركهم ، وقد كان المشركون في شكّ من البعث فتُوعِّدُوا بما لا شكّ فيه ، وهو حال قبض الأرواح بأنّ الله يسلّط عليهم ملائكة تقبض أرواحهم بشدّة وعنف وتذيقهم عذاباً في ذلك .
وذلك الوعيد يقع في نفوسهم موقعاً عظيماً لأنّهم كانوا يخافون شدائد النّزع وهو كقوله تعالى : { ولو ترى إذ يتوفّى الَّذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [ الأنفال : 50 ] الآية ، وقول { أخرجوا أنفسكم } على هذا صادر من الملائكة .
ويجوز أن يكون هذا وعيداً بما يلاقيه المشركون من شدائد العذاب يوم القيامة لمناسبة قوله بعد { ولقد جئتمونا فُرادى } [ الأنعام : 94 ] ؛ فغمرات الموت تمثيل لحالهم يوم الحشر في منازعة الشّدائد وأهوال القيامة بحال منهم في غمرات الموت وشدائد النّزع فالموت تمثيل وليس بحقيقة . والمقصود من التّمثيل تقريب الحالة وإلاّ فإنّ أهوالهم يومئذٍ أشدّ من غمرات الموت ولكن لا يوجد في المتعارف ما هو أقصى من هذا التّمثيل دلالة على هول الألم . وهذا كما يقال : وجدت ألَم الموت ، وقول أبي قتادة في وقعة حُنَين : « فَضمَّنِي ضَمَّة وَجَدْتُ منها ريحَ الموت » ، وقول الحارث بن هشام المخزومي :
وشَمِمْتُ ريحَ المَوْت من تِلْقائِهم *** في مَأزِقٍ والخيلُ لَمْ تَتَبَدّدِ
وجملة : { والملائكةُ باسطوا أيديهم } حال ، أي والملائكة مَادّونَ أيديهم إلى المشركين ليقبضوا عليهم ويدفعوهم إلى الحساب على الوجه الثّاني ، أو ليقبضوا أرواحهم على الوجه الأوّل ، فيكون بسط الأيدي حقيقة بأن تتشكّل الملائكة لهم في أشكال في صورة الآدميين . ويجوز أن يكون بسط الأيدي كناية عن المَسّ والإيلام ، كقوله : { لئن بسطتَ إليّ يدَك لتقتلني } [ المائدة : 28 ] .
وجملة : { أخرجوا أنفسكم } مقول لقوللٍ محذوف . وحذف القول في مثله شائع ، والقول على هذا من جانب الله تعالى . والتّقدير : نقول لهم : أخرجوا أنفسكم والأنفس بمعنى الذوات . والأمر للتعجيز ، أي أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم ، والإخراج مجاز في الإنقاذ والإنجاء لأنّ هذا الحال قبلَ دخولهم النّار . ويجوز إبْقاء الإخراج على حقيقته إن كان هذا الحال واقعاً في حين دخولهم النّار .
والتّعريف في { اليوم } للعهد وهو يوم القيامة الّذي فيه هذا القول ، وإطلاق اليوم عليه مشهور ، فإنْ حُمل الغمرات على النّزع عند الموت فاليوم مستعمل في الوقت ، أي وقت قبض أرواحهم .
وجملة : { اليوم تجزون } إلخ استئنافُ وعيد ، فُصلت للاستقلال والاهتمام ، وهي من قول الملائكة . و { تُجْزَوْن } تعْطَوْن جزاء ، والجزاء هو عِوض العمل وما يقابَل به من أجر أو عقوبة . قال تعالى : { جَزاء وفاقاً } [ النبأ : 26 ] ، وفي المثل : المرء مَجْزِيّ بما صَنَع إنْ خيراً فخير وإنْ شرّاً فشرّ . يقال : جزَاه يجزيه فهو جاز . وهو يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المعطَى جزاء ، ويتعدّى بالباء إلى الشّيء المكافَأ عنه ، كما في هذه الآية .
ولذلك كانت الباء في قوله تعالى في سورة [ يونس : 27 ] { والَّذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة بمثلها } مُتؤوّلاً على معنى الإضافة البيانيّة . أي جزاء هو سيّئة ، وأنّ مجرور الباء هو السيّئة المجزى عنها ، كما اختاره ابن جني . وقال الأخفش : الباء فيه زائدة لقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيّئة مثلها } [ الشورى : 40 ] . ويقال : جازى بصيغة المفاعلة . قال الرّاغب : ولم يجيء في القرآن : جَازى .
والهُون : الهَوَان ، وهو الذّلّ . وفسّره الزّجاج بالهوان الشّديد ، وتبعه صاحب « الكشاف » ، ولم يقله غيرهما من علماء اللّغة . وكلام أهل اللّغة يقتضي أنّ الهُون مرادف الهوان ، وقد قرأ ابن مسعود { اليوم تجزون عذاب الهَوَان } . وإضافة العذاب إلى الهون لإفادة ما تقتضيه الإضافة من معنى الاختصاص والمِلك ، أي العذاب المتمكّن في الهُون المُلازم له .
والباء في قوله : { بما كنتم تقولون } باء العوض لتعديّة فعل { تُجزون } إلى المجزي عنه . ويجوز جَعل الباء للسببيّة ، أي تجزون عذاب الهون بسبب قولكم ، ويعلم أنّ الجزاء على ذلك ، و ( ما ) مصدريّة . ثمّ إن كان هذا القول صادراً من جانب الله تعالى فذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار لقصد التّهويل . والأصل بما كنتم تقولون عليّ .
وضُمّن { تقولون } معنى تَكْذِبون ، فعُلّق به قوله : { على الله } ، فعلم أنّ هذا القول كذب على الله كقوله تعالى : { ولو تَقوّل علينا بعض الأقاويل } [ الحاقة : 44 ] الآية ، وبذلك يصحّ تنزيل فعل { تقولون } منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول لأنّ المراد به أنّهم يكذبون ، ويصحّ جعل غير الحقّ مفعولاً ل { تقولون } ، وغير الحقّ هو الباطل ، ولا تكون نسبته إلى الله إلاّ كذباً .
وشمل { ما كنتم تقولون } الأقوالَ الثّلاثة المتقدّمة في قوله { ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً إلى قوله مثلَ ما أنزل الله } وغيرَها .
و { غير الحقّ } حال من ( ما ) الموصولة أو صفة لمفعول مطلق أو هو المفعول به ل { تقولون } .
وقوله : { وكنتم عن آياته } عطف على { كنتم تقولون } ، أي وباستكباركم عن آياته . والاستكبار : الإعراض في قلّة اكتراث ، فبهذا المعنى يتعدّى إلى الآيات ، أو أريد من الآيات التأمّل فيها فيكون الاستكبار على حقيقته ، أي تستكبرون عن التدبّر في الآيات وترون أنفسكم أعظم من صاحب تلك الآيات .
وجواب ( لو ) محذوف لقصد التّهويل . والمعنى : لرأيتَ أمراً مُفْظعاً . وحَذْفُ جواب ( لو ) في مثل هذا المقام شائع في القرآن . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولو ترى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب } في سورة [ البقرة : 165 ] .