{ ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي : أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } خص الله عيسى عليه السلام ؛ لأن السياق مع النصارى ، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام ، { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ } الذي هو من كتب الله الفاضلة ، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } الآيات .
ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا ، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام .
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } والرهبانية : العبادة ، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة ، ووظفوها على أنفسهم ، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها ، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم ، قصدهم بذلك رضا الله تعالى ، ومع ذلك { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : ما قاموا بها ولا أدوا حقوقها ، فقصروا من وجهين : من جهة ابتداعهم ، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم . فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم .
ومنهم من هو مستقيم على أمر الله ، ولهذا قال : { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي : الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع إيمانهم بعيسى ، كل أعطاه الله على حسب إيمانه { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ } والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال : قفا فلان آثر فلان . . . إذا اتبعه ، وقفى على أثره بفلان ، إذا اتبعه إباه . . . وأصله من القفا وهو مؤخر العنق . . . فكأن الذى يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه .
وضمير الجمع فى قوله { على آثَارِهِم } يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب .
أى : ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول . حتى انتهينا إلى عيسى - عليه السلام - { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } أى : أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه .
قالوا : والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل ، يقال : رحم الله ناجليه ، أى : والديه ، وقيل : الإنجيل مأخوذ من نجلت الشىء إذا استخرجته وأظهرته . ويقال للماء الذى يخرج من البئر : نجل . وقيل هو من النجل الذى هو سعة العين ، ومنه قولهم : طعنة نجلاء ، أى : واسعة .
وسمى الإنجيل بهذا الاسم ، لأنه سعة ونور وضياء ، أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى ، ليكون بشارة وهداية لقومه .
وأعاد - سبحانه - مع عيسى - عليه السلام - كلمة { قَفَّيْنَا } للإشعار بأن المسافة التى كانت بين عيسى - عليه السلام - وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة .
ثم بين - سبحانه - بعض السمات التى كانت واضحة فى أتباع عيسى فقال : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } .
والرأفة : اللين وخفض الجناح ، والرحمة . العطف والشفقة .
قالوا : وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص ، لأن الرأفة ، رحمة خاصة ، تتعلق بدفع الأذى والضر . أما الرحمة فهى أشمل وأعم ، لأنها عطف وشفقة على كل من كان فى حاجة إليه .
و " الرهبانية " معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان . وهم النصارى المبالغون فى الرهبة والخوف من الله - تعالى - والزهد فى متاع الحياة الدنيا .
قال بعض العلماء : والرهبانية : اسم للحالة التى يكون عليها الراهب متصفا بها فى غالب شئون دينه ، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس ، لأن قياس النسب إلى الراهب : الراهبية ، والنون فيها مزيدة للمبالغة فى النسبة ، كما زيدت فى قولهم : شعرانى ، لكثير الشعر ، ولحيانى لعظيم اللحية .
وقوله - تعالى - : { ورهبانية ابتدعوها . . . منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر .
أى : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها ، فهو من باب الاشتغال .
ويصح أن يكون معطوفا على قوله : { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } وقوله : { ابتدعوها } فى موضع الصفة ، والكلام على حذف مضاف ، أى : وجعلنا فى قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم .
وجملة : ما كتبناها عليهم ، مستأنفة مبينة لجملة { ابتدعوها } .
والاستثناء فى قوله : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } منقطع .
والضمير فى قوله : { فَمَا رَعَوْهَا } يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية .
والمعنى : ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر ، حتى انتهينا إلى عيسى - عليه السلام - فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به { رَأْفَةً } أى لينا وخفض جناح { وَرَحْمَةً } أى : شفقة وعطفا ، وحب رهبانية مبتدعة منهم ، أى : هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم ، زهداً فى متاع الحياة الدنيا .
ونحن ما كتبنا هذه الرهبانية ، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أى : ولكنهم بمرور الأيام ، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف . . . بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة ، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم .
ولذا ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
أى : أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى - عليه السلام - وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده . . . فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة .
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى - عليه السلام - حيث كفروا به وقالوا : الله ثالث ثلاثة ، أو قالوا : المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب .
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذى جاء به عيسى - عليه السلام - وفسقوا عن أمر ربهم . . . أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا .
قال الإمام ابن جرير : واختلف أهل التأويل فى الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها . فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها ، ولم يقوموا بها ، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذى بعث به عيسى ، فتنصروا وتهودوا .
وقال آخرون : بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حق رعايتها ، لأنهم كانوا كفارا . . . فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها .
وأولى الأقوال فى ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها ، بعض الطوائف التى ابتدعتها ، وذلك لأن الله - تعالى - قد أخبر أنه أتى الذين آمنوا منهم أجرهم ، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها .
وكثير منهم - أى : من الذين ابتدعوا الرهبانية - أهل معاص ، وخروج عن طاعة الله - تعالى - وعن الإيمان به .
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } جملة مستأنفة .
وقوله - سبحانه - : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } استثناء منقطع ، أى : ما فرضناها نحن عليهم رأسا ، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله .
وقوله - تعالى - : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أى : ما حافظوا عليها حق المحافظة ، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر ، وهو عهد مع الله - تعالى - يجب رعايته ، لا سيما إذا قصد به رضاه - عز وجل .
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل . أى : ما قضيناها عليهم لشىء من الأشياء ، إلا ليبتغوا بها رضوان الله ، ويستحقوا بها الثواب ، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها . . . إلا أنهم لم يحافظوا عليها ، ولم يرعوها حق رعايتها .
والفرق بين الوجهين : أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا ، وأن الثانى يقتضى أنهم أمروا بها ، لابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها .
والظاهر أن الضمير فى قوله { فَمَا رَعَوْهَا } يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم ، أى : فما رعاها كلهم بل بعضهم .
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى - عليه السلام - فطهروا أرواحهم من كل دنس ، وزهدوا فى متع الحياة الدنيا . . . وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى - عليه السلام - وقالوا الأقوال الباطلة فى شأنه ، وفعلوا الأفعال القبيحة التى تغضب الله - تعالى - :
وقرب نهاية الخط يجيء عيسى بن مريم :
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم . .
أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم . فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم .
ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ) . . وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي ، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام ، ممن أحسنوا اتباعه . وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم ، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام ، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق ، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .
كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم : ( ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله ) . .
والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام ، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وابتعادا عن أوضار الحياة ، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء . ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها ، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع ، وقناعة وعفة ، وذكر وعبادة . . مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله ، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها .
ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة . فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل :
( فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال ، ولا بالطقوس والمسوح . إنما يأخذهم بالعمل والنية ، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك . وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور .
{ قفينا } معناه : جئنا بهم بعد الأولين ، وهو مأخوذ من القفا ، أي جاء بالثاني في قفا الأول ، فيجيء الأول بين يدي الثاني ، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر ، ثم ذكر «عيسى » عليه السلام تشريفاً وتخصيصاً .
وقرأ الحسين : «الأنجيل » بفتح الهمزة ، قال أبو الفتح : هذا مما لا نظير له . و : { رأفة ورحمة ورهبانية } مفعولات { جعلنا } . والجعل في هذه الآية بمعنى : الخلق .
وقوله : { ابتدعوها } صفة ل { رهبانية } وخصها بأنها ابتدعت ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، وأما الرهبانية هم ابتدعوها ، والمراد بالرأفة والرحمة : حب بعضهم في بعض وتوادهم ، والمراد بالرهبانية : رفض النساء ، واتخاذ الصوامع ، والمعتزلة تعرب { رهبانية } أنها نصب بإضمار فعل يفسره { ابتدعوها } وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم ، وكذلك أعربها أبو علي .
وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق ، ففرقة قاتلت الملوك على الدين ، فقتلت وغلبت . وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ، فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان{[10989]} ، واسمهم مأخوذ من الرهب ، وهو الخوف ، فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم ، لكنهم فعلوا ذلك { ابتغاء رضوان الله } ، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة ، وقال مجاهد : المعنى { كتبناها عليهم } { ابتغاء رضوان الله } . ف «كتب » على هذا بمعنى : قضى ، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى : ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات ، لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل .
واختلف الناس في الضمير الذي في قوله : { فما رعوها } من المراد به ؟ فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، قاله ابن زيد وغيره ، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى : أي لم يرعوها بأجمعهم ، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل أنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه . قال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها ، وباقي الآية بين . وقرأ ابن مسعود : «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم" وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ "يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته "رأَفَةً" وهو أشدّ الرحمة "وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها" يقول: أحدثوها "ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ" يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم "إلاّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ" يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله "فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها".
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها؛ فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى: فتنصّروا وتهوّدوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنهم كانوا كفارا ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليا، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها...
عن قتادة "وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً" فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع...
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا داود بن المحبر، قال: حدثنا الصعق بن حزن، قال: حدثنا عقيل الجعديّ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ، وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ، فَتَرَهّبُوا فِيها» فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: «ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله» فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها قال: «ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها» فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال: «وهم الذين آمنوا بي، وصدّقوني». قال وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: «فهم الذين جحدوني وكذّبوني»...
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم. والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وقوله: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الاَخرة، وكثير منهم أهل معاص، وخروج عن طاعته والإيمان به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {فما رعوها حق رعايتها} أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته؛ ذمهم لتركهم الرعاية لما ابتدعوه؛ ففيه دلالة أن من افتتح قربة، لم تفرض عليه من صلة أو صوم أو نحو ذلك ثم لم يقم بوفائها وإتمامها لحقه ذم كما لحق هؤلاء.
{أجرهم وكثير منهم فاسقون} أي كافرون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة...
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.. والرأفة في المشهور: الرحمة، لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم.. أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم. فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم. ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة).. وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح -عليه السلام- وروحها السمحة وتطهرها الروحي، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام، ممن أحسنوا اتباعه. وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق. كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم: (ورهبانية ابتدعوها -ما كتبناها عليهم- إلا ابتغاء رضوان الله).. والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وابتعادا عن أوضار الحياة، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء. ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع، وقناعة وعفة، وذكر وعبادة.. مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها. ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة. فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل: (فما رعوها حق رعايتها. فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم} للتراخي الرتبي لأن بعثه رسل الله الذين جاءوا بعد نوح وإبراهيم ومن سَبق من ذريتهما أعظمُ مما كان لدى ذرية إبراهيم قبل إرسال الرسل الذين قفّى الله بهم...
والآثار: جمع الأثر، وهو ما يتركه السائر من مواقع رجليه في الأرض... {على آثارهم} عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوءة والكتاب، فأما الذين كانت فيهم النبوءة فكثيرون، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل.و (على) للاستعلاء. وأصل (قفى على أثره)...بمعنى بعده بقليل أو متصلاً شأنه بشأن سابقه...
.ومعنى جَعْل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتّبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها، أو إن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخَ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسّره عليهم،ذلك أن عيسى بُعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة...
{كتبناها} فالمعنى: لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، أي أن يبتغوا رضوان الله بكل عمل لا خصوص الرهبانية التي ابتدعوها، أي أن الله لم يكلفهم بها بعينها.
{إلا ابتغاء رضوان الله} يجوز أن يكون نفياً لتكليف الله بها ولو في عموم ما يشملها، أي ليست مما يشمله الأمر برضوان الله تعالى وهم ظنوا أنهم يرضون الله بها. ويجوز أن يكون نفياً لبعض أحوال كتابة التكاليف عليهم وهي كتابة الأمر بها بعينها فتكون الرهبانية مما يبتغَى به رضوان الله، أي كتبوها على أنفسهم تحقيقاً لما فيه رضوان الله...
{فما رعوها حق رعايتها} وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به. والرعي: الحفظ، أي ما حفظوها حق حفظها... فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها. و {حق رعايتها} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي رعايتها الحق. وحق الشيء: هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه، وهو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع.والمعنى: ما حفظوا شؤون الرهبانية حفظاً كاملاً فمصبّ النفي هو القيد بوصف {حق رعايتها}. وهذا الانتفاء له مراتب كثيرة، والكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه، وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزداداً من الكمال...
{وكثير منهم فاسقون}، أي وكثير من الذين التزموا دينه خارجون عن الإِيمان، فالمراد بالفسق ما يشمل الكفر وما دونه مثل الذين بدلوا الكتاب واستخفوا بشرائعه...
... ثم يصف أتباعه {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً..} الرأفة هي التي تزيل الآلام والشقاء {وَرَحْمَة..} والرحمة أنْ تعطي بالزيادة والإحسان.
{وَرَهْبَانيَّة ابْتَدَعُوها..} الرهبانية هي المبالغة في التعبد، وقد بالغ أتباع عيسى في التعبد، فانقطعوا في الصوامع وحرموا أنفسهم من النساء، وقد وردت الرهبانية في كتاب ألّفوه سنة 1935، هذا الكتاب تكلم عن وادي النطرون وعنوان الكتاب: وادي النطرون ورهبانه، وقالوا: إن الرهبانية وُجدت من بعد عيسى بمائة وخمسين سنة...