وأما جزاؤهم ، فقال : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ } يدخل فيه جميع نفوس الخلق ، لكونها نكرة في سياق النفي . أي : فلا يعلم أحد { مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } من الخير الكثير ، والنعيم الغزير ، والفرح والسرور ، واللذة والحبور ، كما قال تعالى على لسان رسوله : " أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر "
فكما صلوا في الليل ، ودعوا ، وأخفوا العمل ، جازاهم من جنس عملهم ، فأخفى أجرهم ، ولهذا قال : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وقوله - سبحانه - : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ . . } بيان للعطاء الجزيل ، والثواب العظيم . أى : فلا تعلم نفس من النفوس سواء أكانت لملك مقرب ، أم لنبى مرسل ، ما أخفاه الله - تعالى - لهؤلاء المهتدين بالليل والناس نيام ، من ثواب تقر به أعينهم ، وتسعد به قلوبهم ، وتبتهج له نفوسهم . .
وهذا العطاء الجزيل إنما هو بسبب أعمالهم الصالحة فى الدنيا .
وهكذا نرى فى هذه الآيات الكريمة صورة مشرقة لعباد الله الصالحين ، وللثواب الذى لا تحيط به عبارة ، والذى أكرمهم الله - تعالى - به .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات ، عدداً من الأحاديث الواردة فى فضل قيام الليل ، منها ما رواه الإِمام أحمد " عن معاذ بن جبل - رضى الله عنه - قال : كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر ، فأصبحت يوماً قريباً منه . ونحن نسير ، فقلت : يا نبى الله ، أخبرنى بعمل يدخلنى الجنة ، ويباعدنى من النار . فقال : " لقد سألت عن عظيم ، وأنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشكر به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت . ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل فى جوف الليل شعار الصالحين ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } " " .
وعن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء مناد فنادة بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم . ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع " .
وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله - تعالى - قال : " أعددت لعبادى الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .
هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيفة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد . الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة ، والإعزاز الذاتي ، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس :
( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) . .
تعبير عجيب يشي بحفاوة الله - سبحانه - بالقوم ؛ وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون . هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه . والذي يظل عنده خاصة مستورا حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه ! عند لقياه ! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله .
يا لله ! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه ! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله ! ومن هم - كائنا ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم - حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء ، في عناية ورعاية وود واحتفال ? لولا أنه فضل الله الكريم المنان ? !
{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } لا ملك مقرب ولا نبي مرسل . { من قرة أعين } مما تقربه عيونهم . وعنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتهم عليه ، أقرؤوا فلا تعلم نفس ما أخفي لهم " . وقرأ حمزة ويعقوب { أخفي لهم } على أنه مضارع أخفيت ، وقروء نخفي وأخفي الفاعل للكل هو الله ، وقرأت { أعين } لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة و { ما } موصولة أو استفهامية معلق عنها الفعل . { جزاء بما كانوا يعملون } أي جزوا جزاء أو أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلو شأنه . وقيل هذا القوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم .
عظم الله جزاءهم إذ قال : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ، أي : لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : « أعددت لعبادي الصالحين ما لاَ عينٌ رأت ولا أذن سمعتْ ولا خَطر على قلب بشر » فدلّ على أن المراد ب { نفس } في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية .
فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة ، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات ، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركِّبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسمُوعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن ، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ ، ومثل الأشجار من زبرجد ، والأزهار من ياقوت ، وتراب من مسك وعنبر ، فكل ذلك قليل في جانب ما أعدّ لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « ولا خطر على قلب بشر » وهذا كقولهم في تعظيم شيء : هذا لا يعلمه إلا الله . قال الشاعر :
فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا *** عشية آناء الديار وشامها
وعُبر عن تلك النعم ب { مَا أُخفِيَ } لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود .
وقرة الأعين : كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى : { وقرِّي عيناً } في سورة مريم ( 26 ) .
وقرأ الجمهور { أُخفيَ } بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول . وقرأ حمزة ويعقوب { أُخْفِي } بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة ، و { جزاء } منصوب على الحال من { ما أخفي لهم } وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغرّ رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال : « قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار . قال : لقد سألتَ عن عظيم وإنه ليسير على من يَسَّره الله عليه : تَعبُدُ الله لا تشركُ به شيئاً وتقيمُ الصلاة وتؤتي الزكاة وتصومُ رمضان وتحجُّ البيت » ثم قال : « ألا أدلك على أبواب الخير : الصومُ جُنة والصدقة تطفىء الخطايا كما يُطفىء الماء النارَ وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } حتى بلغ { يعملون . . . } » الحديث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.