{ 26 } { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
وهم : أي المشركون بالله ، المكذبون لرسوله ، يجمعون بين الضلال والإضلال ، ينهون الناس عن اتباع الحق ، ويحذرونهم منه ، ويبعدون بأنفسهم عنه ، ولن يضروا الله ولا عباده المؤمنين ، بفعلهم هذا ، شيئا . { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك .
ثم بين - سبحانه - أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية ، بل هم لفجورهم - يحرضون غيرهم على محاربتها معهم فقال - تعالى - :
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
النهى : الزجر ، والنأى : البعد ، والضمير " هم " يعود على المشركين .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق ، بل يزجرون الناس عن اتباعه ، ويبعدونهم عن الاستماع إليه . فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين : محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم على محاربته والبعد عنه .
وهم بهذا العمل الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم ، وقسوة قلوبهم .
وعملهم هذا يدل على أنهم كانوا معترفين فى قرارة أنفسهم بأن القرآن حق ، لأنهم لو كانوا يعتقدون أنه أساطير الأولين - كما زعموا - لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات وأوهام ، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه ، فإنهم نهوا غيرهم عن سماعه حتى لا يؤمن به وابتعدوا هم عنه حتى لا يتأثروا به فيدخلوا فى دين الإسلام ، ولقد حكى الله عنهم هذا المعنى فى قوله - تعالى -
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } والضمير فى قوله - تعالى - { عَنْهُ } يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات .
ويرى بعض المفسرين أن الضمير " هم " يرجع إلى عشيرة النبى صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى : وهم - أى أعمام النبى صلى الله عليه وسلم وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء ، ولكنهم فى الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها ، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب ، فقد كان يدافع عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يدخل فى الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق .
ومما روى عنه فى هذا المعنى قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم . . . حتى أوسد فى التراب دفيناً
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضه . . . وابشر بذاك وقر منك عيوناً
ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى . . . فلقد صدقت وكنت قبل أميناً
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه . . . من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة . . . لوجدتنى سمحاً بذاك يقيناً
والذى تطمئن إليه النفس أن الرأى الأول هو الأرجح . لأن الكلام مسوق فى بيان موقف المشركين من النبى صلى الله عليه وسلم ، وأنهم قد بلغ بهم السفه والعناد أنهم لا يكتفون بالإعراض عن الحق الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بل تعدى شرهم إلى غيرهم ، وأنهم كانوا يحرضون الناس على إيذائه وعلى الابتعاد عنه .
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة :
( وهم ينهون عنه ، وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) . .
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون ! وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي ، والباطل الواهن المتداعي ، أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين ! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن ؛ كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفا عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شدا إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة .
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن ؛ ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله - سبحانه - : ( وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون )
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة ، في الدنيا والآخرة ؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله ! مساكين ! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت ! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حينا من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون .
الضمير في قوله : { وهم } عائد على المذكورين قبل ، والضمير في { عنه } قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك : هو عائد على محمد عليه السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم و «النأي » البعد{[4876]} ، { وإن يهلكون } معناه ما يهلكون إلا أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم ، وقال ابن عباس أيضاً والقاسم وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله { وهم ينهون عنه } أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدوام في الكفر{[4877]} ، والمعنى وهم ينهون عنه من يريد إذايته { وينأون عنه } بإيمانهم واتباعهم فهم يفعلون الشيء وخلافه ، ويقلق على هذا القول رد قوله { وهم } على جماعة الكفار المتقدم ذكرها ، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على الكفر ، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة ، لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم ، كما تقول إذا شنعت على جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا ، فكأنه قال : من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون به ، أي : منهم من يفعل ذلك { وما يشعرون } معناه : ما يعلمون علم حسّ ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان ، والشعار مأخوذ من الشعر ، ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس ، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات .
قال القاضي أبو محمد : وقرأ الحسن «وينون عنه » ألقيت حركة الهمزة على النون على التسهيل القياسي .
عطف على جملة { ومنهم من يستمع إليك } ، والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم : { إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه . فهو من تعليق الحكم بالذات . والمراد حالة من أحوالها يعيّنها المقام . وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه ، أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه . قال النابغة :
لقد نَهَيتُ بني ذبيانَ عن أُقُر *** وعن تربّعهم في كلّ أصفار
يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر ، وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغسّاني .
وبين قوله : { ينهون وينأون } الجناس القريب من التمام .
والقصر في قوله : { وإنْ يهْلِكُون إلاّ أنْفسهم } قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنّهم يظنّون بالنهي والنأي عن القرآن أنّهم يضرّون النبي صلى الله عليه وسلم لئلاّ يتّبعوه ولا يتّبعه الناس ، وهم إنّما يُهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس ، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس ، وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأنّ ما أرادوا به نكايته إنّما يضرّون به أنفسهم .
وأصل الهلاك الموت . ويطلق على المضرّة الشديدة لأنّ الشائع بين الناس أنّ الموت أشدّ الضرّ . فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلّة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب .
والنأي : البعد . وهو قاصر لا يتعدّى إلى مفعول إلاّ بحرف جرّ ، وما ورد متعدّياً بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة .
وعقّب قوله : { وإن يهلكون إلاّ أنفسهم } بقوله : { وما يشعرون } زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم ، وإظهاراً لضعف عقولهم مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم قادة للناس ، ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله : { وما يشعرون } للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصوداً به الإخبار المستقلّ لأنّ الناس يعُدّونهم أعظم عقلائهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنأوْنَ عَنْهُ"؛ فقال بعضهم: معناه: هؤلاء المشركون المكذّبون بآيات الله، ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقبول منه، "وينأون عنه": يتباعدون عنه. عن ابن الحنفية: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ "قال: يتخلفون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه، وينهون الناس عنه.
وقال بعضهم: بل معناه: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ": عن القرآن أن يُسمع له ويعمل بما فيه، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم. "ويَنْأَوْنَ عَنْهُ": ويتباعدون عنه.
عن قتادة: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ" قال: ينهون عن القرآن وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون عنه.
وقال آخرون: معنى ذلك: وهم ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه: يتباعدون عن دينه واتباعه. [عن] ابن عباس يقول: نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن محمد أن يُؤْذَي وينأى عما جاء به أن يؤمن به.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: تأويله: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ": عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم من سواهم من الناس، "وينأوْنَ" عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشركين العادلين به، والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ" خبرا عنهم، إذ لم يأتنا ما يدلّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها يدلّ على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون خبرا عن خاصّ منهم.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد كلّ آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك، يقولون: إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأوّلين وأخبارهم، وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك، فيبعدون منك ومن اتباعك.
"وإنْ يُهْلِكُونَ إلاّ أَنْفُسَهُمْ": وما يهلكون بصدّهم عن سبيل الله وإعراضهم عن تنزيله وكفرهم بربهم إلا أنفسهم لا غيرها، وذلك أنهم يكسبونها بفعلهم ذلك سخط الله وأليم عقابه وما لا قبل لها به. "وَما يَشْعُرُونَ": وما يدرون ما هم مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم. والعرب تقول لكلّ من بعد عن شيء: قد نأى عنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ} الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به {عَنْهُ وينأون} بأنفسهم فيضلون ويضلون {وَإِن يُهْلِكُونَ} بذلك {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم...
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين أنهم طعنوا في كون القرآن معجزا بأن قالوا: إنه من جنس أساطير الأولين وأقاصيص الأقدمين؛ بين في هذه الآية أنهم ينهون عنه وينأون عنه، وقد سبق ذكر القرآن وذكر محمد عليه السلام، فالضمير في قوله {عنه} محتمل أن يكون عائدا إلى القرآن وأن يكون عائدا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا السبب اختلف المفسرون فقال بعضهم: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} أي عن القرآن وتدبره والاستماع له. وقال آخرون: بل المراد ينهون عن الرسول. واعلم أن النهي عن الرسول عليه السلام محال، بل لابد وأن يكون المراد النهي عن فعل يتعلق به عليه الصلاة والسلام، وهو غير مذكور فلا جرم حصل فيه قولان: منهم من قال المراد أنهم ينهون عن التصديق بنبوته والإقرار برسالته. وقال عطاء ومقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشا عن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يتباعد عنه ولا يتبعه على دينه. والقول الأول: أشبه لوجهين:
الأول: أن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم، فكذلك قوله {وهم ينهون عنه} ينبغي أن يكون محمولا على أمر مذموم، فلو حملناه على أن أبا طالب كان ينهى عن إيذائه، لما حصل هذا النظم.
والثاني: أنه تعالى قال بعد ذلك {وإن يهلكون إلا أنفسهم} يعني به ما تقدم ذكره. ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله {وهم ينهون عنه} النهي عن أذيته، لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك. فإن قيل: إن قوله {وإن يهلكون إلا أنفسهم} يرجع إلى قوله {وينأون عنه} لا إلى قوله {ينهون عنه} لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمفارقة دينه، وترك الموافقة له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا القول. قلنا: إن ظاهر قوله {وإن يهلكون إلا أنفسهم} يرجع إلى كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال: إن فلانا يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه، فلا يكون هذا الضرر متعلقا بأحد الأمرين دون الآخر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه -وهم كبراؤهم- وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة:
(وهم ينهون عنه، وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون)..
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين. وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون! وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم. فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي، والباطل الواهن المتداعي، أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن؛ كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم -خوفا عليها أن تتأثر وتستجيب- وحكاية الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شدا إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة.
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن؛ ومن التأثر به والاستجابة له.. هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم -كما يقرر الله- سبحانه -: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون)
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة، في الدنيا والآخرة؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله! مساكين! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة. وإن بدا لهم حينا من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه. فهو من تعليق الحكم بالذات. والمراد حالة من أحوالها يعيّنها المقام. وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه، أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه.
.. وبين قوله: {ينهون وينأون} الجناس القريب من التمام.
والقصر في قوله: {وإنْ يهْلِكُون إلاّ أنْفسهم} قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنّهم يظنّون بالنهي والنأي عن القرآن أنّهم يضرّون النبي صلى الله عليه وسلم لئلاّ يتّبعوه ولا يتّبعه الناس، وهم إنّما يُهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس، وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأنّ ما أرادوا به نكايته إنّما يضرّون به أنفسهم.
وأصل الهلاك الموت. ويطلق على المضرّة الشديدة لأنّ الشائع بين الناس أنّ الموت أشدّ الضرّ. فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلّة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب.
والنأي: البعد. وهو قاصر لا يتعدّى إلى مفعول إلاّ بحرف جرّ، وما ورد متعدّياً بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة.
وعقّب قوله: {وإن يهلكون إلاّ أنفسهم} بقوله: {وما يشعرون} زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم، وإظهاراً لضعف عقولهم مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم قادة للناس، ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله: {وما يشعرون} للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصوداً به الإخبار المستقلّ لأنّ الناس يعُدّونهم أعظم عقلائهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فهم ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم هو آيات بينات، فهم لا يهتدون ويمنعون الهداية عن غيرهم ينهونهم، ويثيرون السخرية عليهم إن اتبعوا الهدى واستقاموا على الطريق المثلى، وينأون عن النبي أي يبتعدون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتجافون مجلسه، فهم يقومون بأعمال ثلاثة كلها انحراف عن الصراط المستقيم واتباع للغواية: أولها: الإعراض عن آيات الله تعالى وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وثانيها: أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق، فهم ضالون مضلون والثالث: أنهم لكي يباعدون بينهم وبين الحق، ولا يجعلون سبيلا لقلوبهم يجتهدون في ألا يلتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فيتجافوا عن مجالسه لكيلا يكون منه منفذ للحق إلى قلوبهم ففيهم غواية ولجاجة. وفي هذا التفسير الضمير في (عنه) وفي الحالين يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
والكافر من هؤلاء إنما ينأى عن مطلوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يريد أن يهتدي، ويمعن في طغيانه فينهى غيره عن الإيمان، فكأنه ارتكب جريمتين: جريمة كفره، وجريمة نهي غيره عن الإيمان. ولقد كانت قريش على ثقة من أن الذي يسمع القرآن يهتدي به، لذلك أوصى بعضهم بعضا ألا يسمعوا القرآن، وإن سمعوه فعليهم أن يحرفوا فيه أو أن يصنعوا ضجيجا يحول بين السامع للقرآن وتدبره...وجاء الأداء القرآني معبرا عن أدق تفاصيل هذه الحالة فقال: {هم ينهون وينأون عنه} فالبداية كانت نهي الآخرين عن الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك ابتعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصار حظهم أن يظلوا على كفرهم فكان الخسران من نصيبهم، بينما آمن غيرهم من الناس... فهم بذلك ارتكبوا ذنبين: الأول: إضلال الغير، والثاني: ضلال نفوسهم.