تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تصيب فاعل الظلم وغيره ، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير ، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره ، وتقوى{[340]} هذه الفتنة بالنهي عن المنكر ، وقمع أهل الشر والفساد ، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن .

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن تعرض لمساخطه ، وجانب رضاه .


[340]:- هكذا في النسختين والمراد ظاهر وهو: أن اتقاء هذه الفتنة يكون بالنهي عن المنكر.00000
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

ثم يؤكد - سبحانه - بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخى في تغيير المنكر فيقول : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .

والفتنة : من الفتن . وأصله - كما يقول الراغب - : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ، واستعمل في إدخال الإِنسان النار .

كما في قوله - تعالى - { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أى : عذابكم . وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله - تعالى - : { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } وتارة في الاختيار نحو قوله - تعالى - { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } والمراد بالفتنة هنا العذاب الدنيوي ، كالأمراض ، والقحط ، واضطراب الأحوال ، وتسلط الظلمة ، وعدم الأمان . . وغير ذلك من المحن والمصائب والآلام التي تنزل بالناس بسبب غشيانهم الذنوب ، وإقرارهم للمنكرات ، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

والخطاب لجميع في كل زمان ومكان .

فالمعنى : دواموا أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط ، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند نزوله الأخيار والفجار والمحسنين والمسيئين .

وقوله : { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } المراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله - تعالى - .

أى : واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانتهك حرماته .

قال صاحب الكشاف : وقوله { لاَّ تُصِيبَنَّ } لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر ، أو نهيا بعد أمر ، أو صفة لفتنة .

فإذا كان جواباً فالمعنى : إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم . . وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله الجميع وليس من ظلم منكم خاصة .

فإن قلت : كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر ؟

قلت : لأن فيه معنى النهى - ومتى كان كذلك جاز إدخال النون المؤكدة - كما إذا قلت : انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك . ومنه قوله - تعالى - : { يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } وقوله { خَآصَّةً } منصوب على الحال من الفاعل المستكن في قوله { لاَّ تُصِيبَنَّ } .

ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف . إصابة خاصة .

هذا ، وقد دلت الآية الكريمة على وجوب الإِقلاع عن المعاصى ، ووجوب محاربة مرتكبيها ، فإن الأمة التي تشيع فيها المعاصى والمظالم والمنكرات . . ثم لا تجد من يحاربها ويعمل على إزالتها ، تستحق العقوبة جزاء سكوتها واستخذائها وجبنها .

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في حق بعض الصحابة الذين اشتركوا في وقاعة الجمل فيما بعد .

ولكن هذا القول غير صحيح ؛ لأن الآية الكريمة تخاطب المؤمنين جميعاً في كل زمان ومكان ، وأمرهم بالبعد عن المعاصى والمنكرات التي تفضى بهم إلى العذاب الدنيوى قبل الأخروى . وليست خاصة بفريق دون فريق .

لذا قال ابن كثير : والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم الصحيح ، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن .

ومن ذلك ما رواه الإِمام أحمد عن عدى بن عميرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله - تعالى - لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة " .

وروى الإِمام أحمد أيضاً عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصى وهم أعز وأكثر ممن يعملون ، ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب " .

وقال الإِمام القرطبى : قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب .

ففى صحيح مسلم " عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث " " .

وفى صحيح الترمذى : " إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه ، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " .

وفى صحيح البخارى والترمذى عن النعمان بن بشير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا - أي اقترعوا - على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " .

ففى هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة .

قال علماؤنا : فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصى ، وانتشار المنكر وعدم التغيير . وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها .

روى ابن وهب عن مالك قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها .

واحتج بصنيع أبى الدرداء في خروجه عن أرض معاويةحين أعلن بالربا ، فأجاز بيع ساية الذهب بأكثر من وزنها .

فإن قيل : فقد قال الله - تعالى - { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } وقال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد ، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب ؟

فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره ، فإذا سكت عليه فكلهم عاص ؛ هذا بفعله وهذا برضاه ، وقد جعل الله في حكمه الراضى بمنزلة العامل ؛ فانتظم في العقوبة .

وقال بعض العلماء : وذكر القسطلانى " أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصى ، فلا يتحقق كون الإِنسان كارها له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده . فكل من لم يكن بهذه الحالة ، فهو راض بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

ثم يحذرهم القعود عن الجهاد ، وعن تلبية دعوة الحياة ، والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان :

( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب ) . .

والفتنة : الابتلاء أو البلاء . . والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ؛ ولا تأخذ الطريق على المفسدين . . جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين . . فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع ؛ بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ] وهم ساكتون . ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

{ واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة } اتقوا ذنبا يعمكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم والمداهنة في الأمر بالمعروف وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا تصيبن إما جواب الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم ، وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } وأما صفة ل { لفتنة } ، ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم ، أو لنهي على إرادة القول كقوله :

حتى إذا جن الظلام واختلط *** جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط

وإما جواب قسم محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وان اختلفا في المعنى ، ويحتمل أن يكون نهيا بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم لأن وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه ، ومن في منكم على الوجوه الأول للتبعيض وعلى الأخريين للتبيين وفائدته التنبيه على أن الظلم منكم أقبح من غيركم . { واعلموا أن الله شديد العقاب } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

هذه الآية تحتمل تأويلات ، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط ، بل تصيب الكل من ظالم وبريء ، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه ، فإنه قال يوم الجمل{[5283]} وما علمت أنَّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت ، وكذلك تأول الحسن البصري ، فإنه قال : هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير ، وكذلك تأول ابن عباس ، فإنه قال : أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بياناً شافياً .

قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله { لا تصيبن } على هذا التأويل صفة ل { فتنة } ، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج : زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي ، قال ومثله قوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم }{[5284]} فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن{[5285]} ، وقال قوم : هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون{[5286]} ، وقال المهدوي : وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن ، ودخلت النون مع لا حملاً على دخولها مع اللام فقط .

قال القاضي أبو محمد : وهذا في القول تكره ، لأن جواب القسم إذا دخلته «لا » أو كان منفياً في الجملة لم تدخل النون ، وإذا كان موجباً دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد ، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله { واتقوا فتنة } خطاباً عاماً لجميع المؤمنين مستقلاً بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول .

والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك ها هنا يريدون لا تقم ها هنا فتقع مني رؤيتك ، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه ، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم ، نحا إليه ، الزجّاج ، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء ، ونهي الظلمة ها هنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط ، و { خاصة } نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة ، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في { تصيبن } وهذا الفعل هو العامل ، ويحتمل أن تكون { خاصة } حالاً من الضمير في { ظلموا } ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى ، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز «لتصيبن » باللام على جواب قسم ، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط ، قال أبو الفتح : يحتمل أن يراد بهذه القراءة «لا تصيبن » فحذف الألف من «لا » تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله{[5287]} ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة ، «لا تصيبن » فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تنطع في التحميل{[5288]} وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام ، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ «واتقوا فتنة أن تصيب » وقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاماً حسناً ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة .

وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله { لا تصيبن } هي{[5289]} على معنى الدعاء ذكره الزهراوي .


[5283]:- واقعة مشهورة شاركت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكانت سنة 36هـ.
[5284]:- من الآية (18) من سورة (النمل).
[5285]:- صاحب هذا الرأي الذي يرويه الزجاج بقوله: "وزعم بعض النحويين" هو الفراء، وهو يرى أن الجملة جواب للأمر نحو قولك: "انزل عن الدابة لا تطرحنك"، ومنه: {لا يحطمنكم سليمان}- وعقب على التمثيل أبو حيان فقال: {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} ليس نظير {واتقوا فتنة لا تصيبن} لأنه ينتظم من الأولى شرط وجزاء ولا ينتظم ذلك في الثانية، ألا ترى أنه لا يصح تقدير: "إن تتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة" لأنه يترتب على الشرط غير مقتضاه من جهة المعنى. وللزمخشري رأي في الموضوع يناقشه أبو حيان في "البحر المحيط".
[5286]:- من رأي الزمخشري أن الجملة صفة وأنها نهي، وقال: وكذلك إذا جعلتها صفة على إٍرادة القول كأنه قيل: "واتقوا فتنة مقولا فيها: لا تصيبن"، ونظيره قول الشاعر: حتى إذا جنّ الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط؟ أي بَمْذق مقول فيه هذا القول.
[5287]:- قال المهدوي موضحا ذلك: كما حذفت من (ما) وهي أخت (لا) في قولهم: "أم والله لأفعلن"- قال أبو حيان: (ما) ليس للنفي، وهذا فرق بينها وبين (لا) فالتنظير في رأيه غير دقيق.
[5288]:- من رأي أبي حيان أن الإشباع-وهو ما سمي هنا مطلا للحركة- خاص بالشعر، وقال الألوسي ما معناه: إنه لا يعول على القول بحذف الألف تخفيفا، ولا على القول بتمطيط الحركة إشباعا- وابن عطية من رأيهما، بل إنه سمّى مطل الحركة وإشباعها تنطعا في التحميل، ورحم الله علماء النحو فالقرآن في غنى عن هذه الآراء.
[5289]:- أراد بالضمير (هي) جملة (لا تصيبن).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

عُقب تحريضُ جميعهم على الاستجابة ، المستلزمُ تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين ، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لمُ يُقَوّموا عِوَج قومهم ، كَيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم ، فحذّرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره .

فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة .

وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء ، واختلال السير ، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس ، قال تعالى : { وفتنّاك فتوناً } [ طه : 40 ] وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله : { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 91 ] .

فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم ، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه ، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان ، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا ، فإن هم تركوا ذلك ، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره ، حتى يعم أو يكاد ، فيعسر اقتلاعه من النفوس ، وذلك الاختلالُ يفسد على الصالحين صلاحَهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم ، فظهر أن الفتنة إذا حلّت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح ، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل ، لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم .

وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقاباً من الله تعالى في الدنيا ، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم ، فإن من سُنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد ، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح : أن النبي قال : مثل القائِم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ مَن فوقنا فإنْ يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعاً وفي « صحيح مسلم » عن زينب بنت جحش أنها قالت : « يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث ثم يحشْرون على نياتهم » .

وحرف { لا } في قوله : { لا تصيبن } نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب ، فالجملة الطلبية : إما نعت ل { فتنة } بتقدير قول محذوف ، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج :

حتى إذا جَن الظلام واختلط *** جاءوا بِمَذْق هَلْ رأيتَ الذئب قط

أي مقول فيه . وباب حذف القول باب متسع ، وقد اقتضاه مقام المبالغة في التحذير هنا والاتقاء من الفتنة فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم ، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يُوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيهاً له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ ، والمقصودُ تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب فكأنّ المتكلم يجمع بين نهيين ، ومنه قول العرب : لا أعرِفَنّك تفعل كذا ، فإنه في الظاهر المتكلمِ نفسَه عن فعل المخاطب ، ومنه قوله تعالى : { لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] ويسمى هذا بالنهي المحول ، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية .

ويجوز أن تكون جملة : { لا تصيبن } نهياً مستأنفاً تأكيداً للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها مَن لم يكن من الظالمين .

ولا يصح جعل جملة : { لا تصيبن } جواباً للأمر في قوله : { واتقوا فتنة } لأنه يمنع منه قوله : { الذين ظلموا منكم خاصة } وإنما كان يجوز لو قال : « لا تصيبنكم » كما يظهر بالتأمل ، وقد أبطل في « مغني اللبيب » جعل ( لا ) نافية هنا ، ورَد على الزمخشري تجويزه ذلك .

و { خاصة } اسم فاعل مؤنث لجريانه على { فتنة } فهو منتصب على الحال من ضمير { تصيبن } وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير .

وافتتاح جملة : { واعلموا أن الله شديد العقاب } بفعل الأمر بالعلم للإهتمام لقصد شدة التحذير ، كما تقدم آنفاً في قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلْبه } [ الأنفال : 24 ] والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره ، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة .