ثم حكى - سبحانه - ما قاله سليمان - عليه السلام - خلال استعراضه للخيول الصافنات الجياد على سبيل الشكر لربه ، فقال - تعالى - : { فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حتى تَوَارَتْ بالحجاب } .
والخير : يطلق كثيرا على المال الوفير ، كما فى قوله - تعالى - : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } والمراد به هنا : الخيل الصافنة الجيدة ، والعرب تسمى الخيل خيرا ، لتعلق الخير بها ، روى البخارى عن أنس - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " .
و { عن } هنا تعليلية . والمراد ب { ذِكْرِ رَبِّي } طاعته وعبادته والضمير فى قوله { حتى تَوَارَتْ } يعود إلى الخيل الصافنات الجياد ، والمراد بالحجاب : ظلام الليل الذى يحجب الرؤية .
والمعنى : فقال سليمان وهو يستعرض الخيل أو بعد استعراضه لها : إنى أحببت استعراض الصافنات الجياد ، وأحببت تدريبها وإعدادها للجهاد ، من أجل ذكر ربى وطاعته وإعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، وقد بقيت حريصا على استعراضها وإعدادها للقتال فى سبيل الله ، حتى توارت واختفت عن نظرى بسبب حلول الظلام الذى يحجب الرؤية
والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة . وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان . . كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما . فهي إما إسرائيليات منكرة ، وإما تأويلات لا سند لها . ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي ، فأصوره هنا وأحكيه . ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح . صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة . هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً . ونصه : قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون . . وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق . ولكن هذا مجرد احتمال . . أما قصة الخيل فقيل : إن سليمان - عليه السلام - استعرض خيلاً له بالعشي . ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب . فقال ردوها عليّ . فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه . ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله . . وكلتا الروايتين لا دليل عليها . ويصعب الجزم بشيء عنها .
ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن .
وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان - عليه السلام - في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل . وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع ، وطلب المغفرة ؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء :
{ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } أصل { أحببت } أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت مناب عدي تعديته ، وقيل هو بمعنى تقاعدت من قوله :
مثل بعير السوء إذا أحبا *** . . .
أي برك ، و { حب الخير } مفعول له والخير المال الكثير ، والمراد به الخيل التي شغلته ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها . قال صلى الله عليه وسلم " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " . وقرأ ابن كثير ونافع أبو عمرو بفتح الياء . { حتى توارث بالحجاب } أي غربت الشمس ، شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها .
وقال بعض الناس : { الخير } هنا أراد به الخيل . والعرب تسمي الخيل الخير ، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد الخيل : أنت زيد الخير . و { حبَّ } منصوب على المفعول به عند فرقة ، كأن { أحببت } بمعنى آثرت . وقالت فرقة : المفعول ب { أحببت } محذوف ، و { حبَّ } نصب على المصدر ، أي أحببت هذه الخيل حب الخير ، وتكون { الخير } على هذا التأويل غير الخيل ، وفي مصحف ابن مسعود : » حب الحيل « ، باللام . وقالت فرقة : { أحببت } معناه : سقطت إلى الأرض لذنبي ، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيا وسقط هزالاً . و { حب } على هذا مفعول من أجله . والضمير في { توارت } للشمس ، وإن كان لم يجر لها ذكر صريح ، لأن المعنى يقتضيها ، وأيضاً فذكر العشي يقتضي لها ذكراً ويتضمنها ، لأن العشي إنما هو مقدر متوهم بها . وقال بعض المفسرين في هذه الآية : { حتى توارت بالحجاب } يريد الخيل ، أي دخلت اصطبلاتها . وقال ابن عيسى والزهري : إن مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف ، بل بيده تكريماً لها ومحبة ، ورجحه الطبري . وقال بعضهم : بل غسلاً بالماء ، وقد يقال للغسل مسح ، لأن الغسل بالأيدي يقترن به ، وهذه الأقوال عندي إنما تترتب على نحو من التفسير في هذه الآية .
وروي عن بعض الناس ، وذلك أنه رأى أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة ولا تضمن أمر الخيل أوبة ولا رجوعاً ، فالعامل في : { إذ عرض } فعل مضمر تقديره : اذكر إذ عرض ، وقالوا عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة ، فأشار إليهم ، أي في الصلاة ، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات ، فقال هو لما فرغ من صلاته : { أني أحببت حب الخير } أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، كأنه يقول : فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.