{ 99 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وهذا من أعظم مننه العظيمة ، التي يضطر إليها الخلق ، من الآدميين وغيرهم ، وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه ، فأنبت الله به كل شيء ، مما يأكل الناس والأنعام ، فرتع الخلق بفضل الله ، وانبسطوا برزقه ، وفرحوا بإحسانه ، وزال عنهم الجدب واليأس والقحط ، ففرحت القلوب ، وأسفرت الوجوه ، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم ، ما به يتمتعون وبه يرتعون ، مما يوجب لهم ، أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى النعم ، وعبادته والإنابة إليه ، والمحبة له .
ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء ، من أنواع الأشجار والنبات ، ذكر الزرع والنخل ، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لأكثر الناس فقال : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ } أي : من ذلك النبات الخضر ، { حَبًّا مُتَرَاكِبًا } بعضه فوق بعض ، من بر ، وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك ، من أصناف الزروع ، وفي وصفه بأنه متراكب ، إشارة إلى أن حبوبه متعددة ، وجميعها تستمد من مادة واحدة ، وهي لا تختلط ، بل هي متفرقة الحبوب ، مجتمعة الأصول ، وإشارة أيضا إلى كثرتها ، وشمول ريعها وغلتها ، ليبقى أصل البذر ، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار .
{ وَمِنَ النَّخْلِ } أخرج الله { مِنْ طَلْعِهَا } وهو الكفرى ، والوعاء قبل ظهور القنو منه ، فيخرج من ذلك الوعاء { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } أي : قريبة سهلة التناول ، متدلية على من أرادها ، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت ، فإنه يوجد فيها كرب ومراقي ، يسهل صعودها .
{ و } أخرج تعالى بالماء { جنات مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } فهذه من الأشجار الكثيرة النفع ، العظيمة الوقع ، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار والنوابت .
وقوله { مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون ، أي : مشتبها في شجره وورقه ، غير متشابه في ثمره .
ويحتمل أن يرجع ذلك ، إلى سائر الأشجار والفواكه ، وأن بعضها مشتبه ، يشبه بعضه بعضا ، ويتقارب في بعض أوصافه ، وبعضها لا مشابهة بينه وبين غيره ، والكل ينتفع به العباد ، ويتفكهون ، ويقتاتون ، ويعتبرون ، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به ، فقال : { انْظُرُوا } نظر فكر واعتبار { إِلَى ثَمَرِهِ } أي : الأشجار كلها ، خصوصا : النخل { إذا أثمر }
{ وَيَنْعِهِ } أي : انظروا إليه ، وقت إطلاعه ، ووقت نضجه وإيناعه ، فإن في ذلك عبرا وآيات ، يستدل بها على رحمة الله ، وسعة إحسانه وجوده ، وكمال اقتداره وعنايته بعباده .
ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر ، أدرك المعنى المقصود ، ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقال : { إِنَّ فِي ذَلِكَم لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان ، على العمل بمقتضياته ولوازمه ، التي منها التفكر في آيات الله ، والاستنتاج منها ما يراد منها ، وما تدل عليه ، عقلا ، وفطرة ، وشرعا .
ثم ساق - سبحانه - حجة خامسة تدل دلالة واضحة على كمال قدرته وعلمه ورحمته وإحسانه إلى خلقه فقال - تعالى - :
{ وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } .
أى : وهو - سبحانه - الذى أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب ذلك كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة فى الكم والكيف والطعوم والألوان ، قال - تعالى -
{ وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وسمى السحاب سماء لأن العرب تسمى كل ما علا سماء ، و نزول الماء من السحاب قد جاء صريحاً فى مثل قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون } و { مِنَ } فى قوله { مِنَ السمآء } ابتدائية ، لأن ماء المطر يتكون فى طبقات الجو العليا البادرة عند تصاعد البخار الأرضى إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يتحول إلى ماء ، والباء فى { بِهِ } للسببية . حيث جعل الله - تعالى - الماء سبباً فى خروج النبات ، والفاء فى قوله { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } للتفريع و { أَخْرَجْنَا } عطف على { أَنزَلَ } والالتفات إلى التكلم إظهار لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله .
ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل ما أجمل من الإخراج فقال : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } أى : فأخرجنا من النبات الذى لا ساق له نباتا غضا أخر ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ، وخضر بمعنى أخضر اسم فاعل . يقال " خضر الزرع - من باب فرح - وأخضر ، فهو خضر وأخضر .
وقوله { نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } . أى : نخرج من هذا النبات الخضر { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } أى : متراكما بعضه فوق بعض كما فى الحنطة والشعير وسائر الحبوب ، يقال : ركبه - كسمعه - ركوباً ومراكباً . أى : علاه .
وجملة { نُّخْرِجُ مِنْهُ } صفة لقوله " خضرا " . وعبر عنها بصيغة المضارع لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة لأن إخراج الحب المتراكب من هذا الخضر الغض يدعو إلى التأمل والإعجاب بمظاهر قدرة الله .
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى فقال : { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } .
الطلع : أول ما يبدو ويخرج من تمر النخل كالكيزان . وقشره يسمى الكفرى ؛ وما فى داخله يسمى الإغريق لبياضه .
والقنوان : جمع قنو وهو العرجون بما فيه الشماريخ ، وهو ومثناه سواه لا يفرق بينهما إلا فى الإعراب . أى : ونخرج بقدرتنا من طلع النخل قنوان دانية القطوف ، سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها .
قال صاحب الكشاف : و { قِنْوَانٌ } رفع بالابتداء ، و { مِنَ النخل } خبره و { ن طَلْعِهَا } بدل منه . كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان دانية . وذكر القريبة وترك ذكر البعيدة ، لأن النعمة فيها أظهر وأدل ، واكتفى بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } وقوله : { وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ } معطوف على { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } أى : فأخرجنا بهذا الماء نبات كل شىء وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب .
وجعله : بعضهم عطفاً على { خَضِراً } . وقيل هو معطوف على { حَبّاً } .
وقوله : { والزيتون والرمان } منصوب على الاختصاص أى : وأخص من نبات كل شىء الزيتون والرمان ، وقيل معطوف على { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } .
قال الآلوسى : وقوله : { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } إما حال من الزيتون لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه وهو الرمان والتقدير : والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك ، وإما حال من الرمان لقربه ويقدر مثله فى الأول .
وأياما كان ففى الكلام مضاف مقدر وهو بعض . أى بعض ذلك مشتبهاً وبعضه غير متشابه فى الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها ، وحكمة منشئها ومبدعها كما قال - تعالى - { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } ثم أمر الله عباده أن يتأملوا فى بديع صنعه فقال : { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } أى : انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمار كل واحد مما ذكرنا حال ابتدائه حين يكون ضئيلا ضعيفاً لا يكاد ينتفع به ، وحال ينعه أى : نضجه كيف يصير كبيراً أو جامعاً لألوان من المنافع والملاذ .
يقال : أينعت الثمرة إذا نضجت .
وقوله { إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أى : إن فى ذلكم الذى ذكرناه من أنواع النبات والثمار ، وذلكم الذى أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم يصدقون بأن الذى أخرج هذا النبات وهذه الثمار لهو المستحق للعبادة دون ما سواه أو هو القادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم .
قال الشيخ القاسمى : قال بعضهم : القوم كانوا ينكرون البعث فاحتج عليهم بتعريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعاً ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها ، وإخراج أنواع النبات والثمار منها . وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلى الله - تعالى - فبين أنه - سبحانه - كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم ، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء ، ثم إنبات الأجساد كالنبات ، ثم جعلها خضرة بالحياة ثم تصوير الأعمال بصورة كثيرة ، وإفادة أمور زائدة وتفريعها ، وإعطاء أطعمة مشتبهة فى الصورة غير متشابهة فى اللذة جزاء عليها " .
هذا وقد أفاض الإمام الرازى - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية فى بيان مظاهر قدرة الله وكمال رحمته وحكمته فقال ما ملخصه :
" اعلم أنه - تعالى - ذكره هنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان . وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجرى مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب . وإنما ذكر العنب عقيب النخيل ، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال .
وأما الزيتون فهو - أيضاً - كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل - أيضاً - عنه دهن كثير عظيم النفع . وأما الرمان فحاله عجيب جداً . واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفى بشرحها مجلدات ، فلهذا السبب ذكر - سبحانه - هذه الأقسام الأربعة التى هى أشرف أنواع النبات ، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقى .
ثم قال : وقد أمر - سبحانه - بالنظر فى حال ابتداء الثمر ونضجه لأن هذا هو موضوع الاستدلال ، والحجة التى هى تمام المقصود من هذه الآية وذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد فى أول حدوثها عن صفات مخصوصة وعند تمامها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة ، وربما كانت فى أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير فى آخر أمرها حارة بحسب الطبيعة - أيضاً - فحصول هذه المتبدلات والمتغيرات لا بد له من سبب ، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك ، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة ، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسباباً لحدوث الحوادث المختلفة . ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسناده إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة ، والمصلحة الحكيمة " .
ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنيات الأرض . تراها الأعين ، وتستجليها الحواس ، وتتدبرها القلوب . وترى فيها بدائع صنع الله . . والسياق يعرضها - كما هي في صفحة الكون - ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها ، وشتى أشكالها ، وشتى أنواعها ؛ ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية ، ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة ؛ كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال :
( وهو الذي أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به نبات كل شيء . فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب والزيتون والرمان ، مشتبها وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه . إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) . .
والماء كثيرا ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات .
( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ) . .
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر ، ويعرفه الجاهل والعالم . . ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة . فقد شارك الماء ابتداء - بتقدير الله - في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات [ إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهبا ، ثم صلبا لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع ، ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة ] ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة ، وذلك بإسقاط [ النتروجين - الأزوت ] من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية ، التي تقع في الجو ، النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر ، ليعيد الخصوبة إلى الأرض . . وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه ، فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة ! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة !
( فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب . والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ) . .
وكل نبت يبدأ أخضر . واللفظ ( خضر ) أرق ضلا ، وأعمق ألفة من لفظ " أخضر " . . هذا النبت الخضر ( يخرج منه حبا متراكبًا ) . . كالسنابل وأمثالها . ( ومن النخل من طلعها قنوان دانية ) . . وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير . وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر . ولفظة ( قنوان ) ووصفها( دانية ) يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف . وظل المشهد كله ظل وديع حبيب . . ( وجنات من أعناب ) . . ( والزيتون والرمان ) . هذا النبات كله بفصائله وسلالاته – ( مشتبها وغير متشابه )- ( انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه ) . . انظروا بالحس البصير ، والقلب اليقظ . . انظروا إليه في ازدهاره ، وازدهائه ، عند كمال نضجه . انظروا إليه واستمتعوا بجماله . . لا يقول هنا ، كلوا من ثمره إذا أثمر ، ولكن يقول : ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ) لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع ، كما أنه مجال تدبر في آيات الله ، وبدائع صنعته في مجالي الحياة .
( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) . .
فالإيمان هو الذي يفتح القلب ، وينير البصيرة ، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة ، ويصل الكائن الإنساني بالوجود ، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع . . وإلا فإن هناك قلوبا مغلقة ، وبصائر مطموسة ، وفطرا منتكسة ، تمر بهذا الإبداع كله ، وبهذه الآيات كلها ، فلا تحس بها ولا تستجيب . . ( إنما يستجيب الذين يسمعون ) ، وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون !
{ وهو الذي أنزل من السماء ماء } من السحاب أو من جانب السماء . { فأخرجنا } على تلوين الخطاب . { به } بالماء . { نبات كل شيء } نبت كل صنف من النبات والمعنى : إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة المسقية بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى : { يسقى بماء واحد } ونفضل بعضها على بعض في الأكل . { فأخرجنا منه } من النبات أو الماء . { خضرا } شيئا أخضر يقال أخضر وخضر كأعور وعور ، وهو الخارج من الحبة المتشعب . { نخرج منه } من الخضر . { حبا متراكبا } وهو السنبل . { ومن النخل من طلعها قنوان } أي وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ، أو من النخل شيء من طلعها قنوان ، ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو . وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع . { دانية } قريبة من المتناول ، أو متلفة قريب بعضها من بعض ، وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها . { وجنات من أعناب } عطف على نبات كل شيء . وقرأ نافع بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات ، ولا يجوز عطفه على { قنوان } إذ العنب لا يخرج من النخل . { والزيتون والرمان } أيضا عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم . { مشتبها وغير متشابه } حال من الرمان ، أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم . { انظروا إلى ثمره } أي ثمر كل واحد من ذلك . وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء والميم ، وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب ، أو ثمار ككتاب وكتب . { إذا أثمر } إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به . { وينعه } وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة ، وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت . وقيل جمع يانع كتاجر وتجر . وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعة . { إن في ذلك لآيات قوم يؤمنون } أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده ، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ، ويرجح ما يقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده . ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال : { وجعلوا لله شركاء الجن }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده، فقال: {وهو الذي أنزل من السماء ماء}: المطر، {فأخرجنا به} "بالمطر، {نبات كل شيء}: الثمار والحبوب وألوان النبات، {فأخرجنا منه خضرا}: أول النبات، {نخرج منه حبا متراكبا}، يعني السنبل قد ركب بعضه بعضا، {و} أخرجنا بالماء {ومن النخل من طلعها}: من ثمرها، {قنوان}، يعني قصار النخل، {دانية}، يعني ملتصقة بالأرض تجنى باليد، {و} أخرجنا بالماء {وجنات}، يعني البساتين، ثم نعت البساتين، فقال: {من} نخيل و {أعناب والزيتون والرمان مشتبها}، ورقها في المنظر يشبه ورق الزيتون وورق الرمان، ثم قال: {وغير متشابه} في اللون مختلف في الطعم، {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} حين يبدو غضا أوله صيصا، {وينعه إن في ذلكم}: إن في هذا الذي ذكر من صنعه وعجائبه لعبرة، {لآيات لقوم يؤمنون}: يصدقون بالتوحيد.
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر} [الأنعام: 99]. 398- ابن العربي: قال مالك: الينع: الطيب، دون فساد ولا علاج.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شركة فيه لشيء سواه، هو الإله "الّذي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاء مَاءً فأخْرَجْنا به نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ": فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش، وأرزاق بني آدم وأقواتهم ما يتغذّون به ويأكلونه فينبتون عليه وينمون.
وإنما معنى قوله: "فَأخْرَجْنَا بِهِ نَباتَ كُلّ شَيْءٍ": فأخرجنا به ما ينبت به كلّ شيء وينمو عليه ويصلح. ولو قيل معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات فيكون كلّ شيء هو أصناف النبات، كان مذهباً وإن كان الوجه الصحيح هو القول الأوّل.
وقوله: "فأخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً "يقول: فأخرجنا منه -يعني من الماء الذي أنزلناه من السماء- خضراً: رطباً من الزرع، والخَضِرُ: هو الأخضر... والخضر: رطب البقول... ويقال: هو لك خضراً مضراً: أي هنيئاً مريئاً. قوله: "نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَاكِباً" يقول: نخرج من الخضر حبّا، يعني: ما في السنبل، سنبل الحنطة والشعير والأرز، وما أشبه ذلك من السنابل التي حبها يركب بعضه بعضاً.
"وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ": ومن النخل من طلعها قنوان دانية... والقنوان: جمع قِنْو... وهو العِذْق... ويعني بقوله: «دانية»: قريبة متهدلة...
عن ابن عباس: "قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ" يعني بالقنوان الدانية: قصار النخل لاصقة عذوقها بالأرض...
"وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه".
يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضاً جنات من أعناب، يعني: بساتين من أعناب...
وقوله: "والزّيْتُونَ والرّمّانِ" عطف بالزيتون على «الجنات» بمعنى: وأخرجنا الزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه.
وكان قتادة يقول في معنى "مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه"...: مشتبهاً ورقه، مختلفاً تمره.
وجائز أن يكون مراداً به: مشتبهاً في الخلق مختلفاً في الطعم...
"انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ".
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة: "انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ" بفتح الثاء والميم، وقرأه بعض قراء أهل مكة وعامة قرّاء الكوفيين: "إلى ثُمُرِهِ" بضم الثاء والميم. فكأنّ من فتح الثاء والميم من ذلك وجّه معنى الكلام: انظروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمر وأن الثّمَر جمع ثمرة، كما القَصَب جمع قصبة، والخشب جمع خشبة. وكأن من ضمّ الثاء والميم، وجه ذلك إلى أنه جمع ثمار، كما الحُمُر جمع حمار، والجُرُب جمع جراب... عن يحيى بن وثاب، أنه كان يقرأ: «إلى ثُمُرِهِ» يقول: هو أصناف المال...
عن مجاهد، قال الثّمُر: هو المال، والثّمَر: ثمر النخل.
وأولى القراءتين في ذلك عند بالصواب، قراءة من قرأ: انْظُرُوا إلى ثُمُرِهِ بضمّ الثاء والميم، لأن الله جلّ ثناؤه وصف أصنافاً من المال، كما قال يحيى بن وثاب. وكذلك حبّ الزرع المتراكب، وقنوان النخل الدانية، والجنات من الأعناب والزيتون والرمان، فكان ذلك أنواعاً من الثمر، فجمعت الثمرة ثَمراً ثم جمع الثمر ثماراً، ثم جمع ذلك فقيل: «انظروا إلى ثُمُره»، فكان ذلك جمع الثمار، والثمار جمع الثمرة، وإثماره: عقد الثمر.
وأما قوله:"وَيَنْعِهِ" فإنه نضجه وبلوغه حين يبلغ...
"إنّ فِي ذَلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في إنزال الله تعالى من السماء الماء الذي أخرج به نبات كلّ شيء، والخضر الذي أخرج منه الحبّ المتراكب، وسائر ما عدّد في هذه الآية من صنوف خلقه "لآيات" يقول: في ذلكم أيها الناس إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره، وعند ينعه وانتهائه، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرّفه في زيادته ونموّه، علمتم أن له مدبراً ليس كمثله شيء، ولا تصلح العبادة إلاّ له دون الآلهة والأنداد، وكان فيه حجج وبرهان وبيان "لَقوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول: لقوم يصدّقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء. وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون، لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها، دون من قد طبع على قلبه فلا يعرف حقّا من باطل ولا يتبين هدى من ضلالة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالماء {نَبَاتَ كُلّ شيء} نبت كل صنف من أصناف النامي، يعني أن السبب واحد وهو الماء، والمسببات صنوف مفتنة، كما قال: {يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} [الرعد: 4]...
{دَانِيَةٌ}: سهلة المجتنى معرضة للقاطف، كالشيء الداني القريب المتناول؛ ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول. وقال الحسن: دانية قريب بعضها من بعض. وقيل: ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة، لأنّ النعمة فيها أظهر وأدلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]...
{مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه}... والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليل على التعمد دون الإهمال {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به. وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال.
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه. واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضا نعم بالغة، وإحسانات كاملة، والكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه، وكان إنعاما وإحسانا من سائر الوجوه، كان تأثيره في القلب عظيما، وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا} هذه الآية المنزلة مرشدة إلى نوع آخر من آيات التكوين وهو إيجاد الماء، وإنزاله من السماء، وجعله سببا للنبات، وجعل النبات المسبب عنه أنواعا كثيرة، مشتبهة وغير متشابهة، وبذلك يلتقي آخر هذه السياق بأوله. أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء الواحد نبات كل شيء من أصناف هذا النامي الذي يخرج من الأرض فأخرجنا منه أي من النبات خضرا أي شيئا غضا أخضر بالخلقة لا بالصناعة وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحب كساق النجم وأغصان الشجر، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب من النبات آنا بعد آن حبا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل- فهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه، وعطف عليه حال نظيره من الشجر فقال:
{ومن النخل من طلعها قنوان دانية} النخل الشجر الذي ينتج التمر... و « من طلعها» بدل مما قبله، وطلعها أول ما يطلع أي يظهر من زهرها الذي يكون منه ثمرها وقبل أن ينشق عنه كافوره أي وعاؤه، وما ينشق عنه الكافور من الطلع يسمى الغريض والإغريض، والقنوان جمع قنو (بالكسر) وهو العذق الذي يكون فيه الثمر، ومثله في وزنه واستواء مثناه وجمعه الصنو والصنوان وهو ما يخرج من أصل الشجرة من الفروع. والقنوان من النخل كالعناقد من العنب والسنابل من القمح. والمعنى أنه يخرج من طلع النخل قنوان دانية القطوف سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها.
{وجنات من أعناب} قرأ الجمهور « جنات» بالنصب وتقدير الكلام: ونخرج منه أي من ذلك الخضر- جنات من أعناب. وقرأها أبو بكر عن عاصم بالرفع وهو المروي عن علي المرتضى وابن مسعود والأعمش وغيرهم وتقدير الكلام: ولكم جنات من أعناب- أو- وهناك جنات- أو- ومن الكرم جنات الخ وسنبين حكمة اختلاف الإعراب بعد {والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه} أي وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان حال كونه مشتبها في بعض الصفات غير متشابه في بعض آخر، قيل إن هذه الحال من الرمان وحده فإنه أنواع تشتبه في شكل الورق والثمر وتختلف في لون الثمر وطعمه، فمنه الحلو والحامض والمر. وقيل إن الحال من مجموع الزيتون والرمان أي مشتبها ما ذكر منهما في شكل ورق الشجر، وغير متشابه في الثمر- أو المعنى كل منهما مشتبه وغير متشابه وذلك ظاهر مما قبله. وصرحوا بأن المشتبه والمتشابه هنا بمعنى إذ يقال اشتبه الأمران وتشابها كما يقال استويا وتساويا. وقد قرئ في الشواذ متشابها وغير متشابه وهو ما أجمعوا عليه في آية {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} [الأنعام:141] الخ وسيأتي، والحق أن بين الصيغتين فرقا فمعنى اشتبها: التبس أحدهما بالآخر من شدة الشبه بينهما، ومعنى تشابها أشبه أحدهما الآخر ولو في بعض الوجوه والصفات فهذا أعم مما قبله. ولا شك في أن بعض ما ذكر يتشابه ولا يشتبه وبعضه حتى يشتبه حتى على البستاني الماهر، كما شاهدنا ذلك واختبرناه في بعض أنواع الرمان الحلو مع الحامض، وهذا دقة تعبير التنزيل في تحديد الحقائق.
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} أي انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا هو تلبس واتصف بالأثمار، وإلى ينعه عندما يينع، أي يبدو صلاحه وينضج، وتأملوا صفاته في كل من الحالين وما بينهما، يظهر لكم من لطف الله وتدبيره، وحكمته في تقديره، ما يدل أوضح الدلالة على وجوب توحيده {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99)} أي في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه والنظر فيه دلائل عظيمة أو كثيرة للمستعدين للاستدلال من المؤمنين بالفعل والمستعدين للإيمان، وأما غيرهم فإن نظرهم كنظر الطفل وإن كانوا من العالمين بأسرار عالم النبات، والغواصين على ما فيه من المحاسن والنظام. لا يتجاوز هذه الظواهر، ولا يعبرها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق، ومن إثبات صفاته التي تتجلى فيها، ووحدته التي ينتهي النظام إليها، وإن كانوا يعلمون أن وحدة النظام في الأشياء المختلفة، لا يمكن أن تصدر عن إرادات متعددة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا نجد من خلال هذه الجولة القرآنية مع النظام الكوني، في النبات والإنسان وفي النجوم وحركة الزمن، أن بإمكان الباحث عن الحقيقة أن يجد الله في كل شيءٍ من حوله، لأنها تمثِّل الآيات البارزة الواضحة في الدلالة على وجوده وقدرته وحكمته، وبذلك تتحرك العقيدة في وعي الإنسان، مع كل الظواهر الكونية والحياتية التي تحيط به، أو تتمثل في كيانه، بما يجعل من قضية الإلحاد والشرك، قضية جهلٍ، أو تجاهلٍ، أو هروبٍ من الجوّ الفكري المسؤول الذي يدفع إلى التفكير ويوحي بالحقّ، لأنه لا يستند إلى أساسٍ، أيّ أساسٍ كان.