{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده ، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات ، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما ، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى ، وتلك الجنة فيها{[149]} الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة ، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته ، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه ، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له ، بل هم كل عليه ، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو ، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة ، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن ، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن ، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار ، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء ، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار ، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل ، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما ، فلهذا أمر تعالى بالتفكر وحثَّ عليه ، فقال : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }
ثم ساق القرآن آية كريمة حذر فيها الناس من ارتكاب ما نهى الله عنه وبين فيها كيف أن المن والأذى والرياء وما يشبه ذلك من رذائل يؤدي إلى ذهاب الشيء النافع من بين يدي صاحبه وهو أحوج ما يكون إليه . استمع إلى القرآن وهو يصور نهاية هذا الإِنسان البائس .
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ . . . }
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 )
قوله : { أَيَوَدُّ } هو من الود بمعنى المحبة الكاملة للشيء وتمنى حصوله ، والاستفهام فيه للإِنكار و ( الإِعصار ) ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كالعمود ، وهي التي يسميها بعض الناس زوبعة . وسميت إعصاراً لأنها تعصر ما تمر به من الأجسام ، أو تلتف كما يلتف الثوب المعصور . والريح مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإِعصار فإنه مذكر ولذا قيل { فِيهِ نَارٌ } أي سموم وصواعق .
والمعنى : أيحب أحدكم - أيها المنانون المراءون - أن تكون له جنة معظم شجرها { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } تجري من تحت أشجارها { الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } النافعة ، والحال أنه قد أصابه الكبر الذي أقعده عن الكسب من غير تلك الحديقة اليانعة ، وله فضلا عن شيخوخته وعجزه ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل ، وبينما هو على هذه الحالة إذا بالجنة ينزل عليها إعصار فيه نار فيحرقها ويدمرها ففقدها صاحبها وهو أحوج ما يكون إليها وبقى هو وأولاده في حالة شديدة من البؤس والحيرة والغم والحسرة لحرمانه من تلك الحديقة التي كانت محط آماله .
فالآية الكريمة قد اشتملت على مثل آخر لحالة الذين يبطلون أعمالهم وصدقاتهم بالمن والأذى والرياء ، وغير ذلك من الأفعال القبيحة والصفات السيئة فقد شبه - سبحانه - حال من يعمل الأعمال الحسنة ثم يضم إليها ما يفسدها فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة ذاهبة ، شبه هذ الإِنسان في حسرته وألمه وحزنه بحال ذلك الشيخ الكبير العاجز الذي له ذرية ضعفاء لا يملك سوى حديقة يانعة يعتمد عليها في معاشه هو وأولاده فنزل عليها إعصار فيه نار فأحرقها ودمرها تدميراً .
وحذف - سبحانه - حالة المشبه وهو الذي يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء وما يشبه ذلك ، لظهورها من المقام .
وقد وصف - سبحانه - تلك الجنة بثلاث صفات :
وصفها أولا : بأنها من نخيل وأعناب أي معظمها من هذين الجنسين النفيسين اللذين هما أنفع الفواكه وأجملها منظراً .
ووصفها ثانياً : بأنها تجري من تحتها الأنهار ، أي تجري من تحت أشجارها الأنهار التي تسر النفس . وتبهج القلب ، وتزيد في حسن الجنة وبهائها .
أما صاحبها فقد وصفه - سبحانه - بأنه قد أصابه الكبر وله ذريه ضعفاء أي أنه في منتهى الاحتياج إليها لكبر سنه وعجزه عن الاكتساب من غيرها ولمسئوليته عن الإنفاق على أولاد صغار لا يعولهم أحد سواه .
تلك هي حالة الجنة وحالة صاحبها في احتياجه إليها ، فمادذا حدث بعد ذلك ؟ لقد أصابها { إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت } فماذا يكون حال هذا الإِنسان الذي أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء وهو يرى جنته ومحط أمله قد احترقت وهو في أشد الحاجة إلى ظلها وثمارها ومنافعها ؟
إن الكلمات لتعجز عن تصوير ما يصيب هذا البائس من غم وهم وحزن وحسرة ، وهو يرى جنته قد احترقت وهو في أشد أوقاته حاجة إلى ظلها وثمارها ومنافعها ! ؟
ولكأن الله - تعالى - يقول للناس بعد هذا التصوير البديع المؤثر : احذروا أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بإرتكابكم لما نهى الله عنه ، فلا تجدون لها نفعاً يوم القيامة وأنتم في أشد الحاجة إليها في هذا اليوم العصيب ، لأنكم إذا فعلتم ذلك كان مثلكم في التحسر والحزن كمثل هذا الشيخ الكبير الذي احترقت جنته وهو في أشد الحاجة إليها .
وإنه لتصوير قرآني في أسمى درجات البلاغة والتأثير ، وفي أعلى ألوان التأديب والتهذيب .
قال القرطبي : روى البخاري عن عبيد بن عمير قال : " قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت وهي قوله - تعالى - : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } الآية . قالوا الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا نعمل أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلا لرجل غني عمل بطاعة الله . ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق عمله . وروى ابن أبي مليكه أن عمر تلا هذه الآية وقال : هذا مثل ضربه الله للإِنسان يعمل عملا صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل العمل السيء " .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
أي : كما يبين الله في هذه الآية ما يهديكم وينفعكم يبين لكم آياته وهداياته في سائر أمور دينكم لكي تتفكروا فيما يصلحكم ، وتعملوا ما يرضى خالقكم .
فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى ، كيف يمحق آثار الصدقة محقا في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا ، ولا يستطيع لذلك المحق ردا . تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء . كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء :
( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ، وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ؟ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) . .
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات . .
( جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ) . .
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة . . وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها . . كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية . كذلك هي ذات روح وظل ، وذات خير وبركة ، وذات غذاء وري ، وذات زكاة ونماء !
فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة - أو هذه الحسنة - ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا ، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار
ومتى ؟ في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها ، وحاجة إلى ظلها ونعمائها !
( وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء . فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ) . .
من ذا الذي يود هذا ؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) . .
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص ، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة ؛ وما فيه من نضارة وروح وجمال . ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه نار . . يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار ، قبل أن تذهب فرصة الاختيار ، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار !
وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة ، وفي طريقة عرضه وتنسيقه . . . هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى . بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها . . إنها جميعا تعرض في محيط متجانس . محيط زراعي ! حبة أنبتت سبع سنابل . صفوان عليه تراب فأصابه وابل . جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين . جنة من نخيل وأعناب . . حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير .
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير . . حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية . حقيقة الأصل الواحد ، وحقيقة الطبيعة الواحدة ، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء . وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء .
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام - هو ابن يوسف - عن ابن جريج : سمعت عبد الله{[4441]} بن أبي مُلَيكة ، يحدث عن ابن عباس ، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال : قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا : الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم{[4442]} . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . فقال عمر : يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك . فقال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . قال عمر : أيُّ عملٍ ؟ قال ابن عباس : لعمل . قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله . ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي
حتى أغرق{[4443]} أعماله{[4444]} .
ثم رواه البخاري ، عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، فذكره{[4445]} . وهو من أفراد البخاري ، رحمه الله .
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره ، فبدل الحسنات بالسيئات ، عياذًا بالله من ذلك ، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح{[4446]} واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال ، فلم يحصل له منه شيء ، وخانه أحوجَ ما كان إليه ، ولهذا قال تعالى : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } وهو الريح الشديد{[4447]} { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } أي : أحرق{[4448]} ثمارَها وأباد أشجارها ، فأيّ حال يكون حاله .
وقد روى ابن أبي حاتم ، من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس قال : ضرب الله له مثلا حسنًا ، وكل أمثاله حسن ، قال : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } يقول : ضيّعَه في شيبته { وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق {[4449]} بستانه ، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، وكذلك الكافر يوم القيامة ، إذ ردّ إلى الله عز وجل ، ليس له خير فيُسْتَعْتَب ، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه ، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه ، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته .
وهكذا{[4450]} ، روى الحاكم في مستدركه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : " اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري " {[4451]} ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي : تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني ، وتنزلونها على المراد منها ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 )
حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء ، ورجح هو هذا القول ، وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] ، ثم قال ضرب في ذلك مثلاً فقال : { أيود أحدكم } الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أبين من الذي رجح الطبري( {[2611]} ) ، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء ، هذا هو مقتضى سياق الكلام ، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئاً( {[2612]} ) ، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا الله ورسوله أعلم ، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم ، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير ، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء ، فرضي ذلك عمر( {[2613]} ) ، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية : { أيود أحدكم } ، وقال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه ، عمل عمل السوء( {[2614]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها ، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم( {[2615]} ) ، وخص النخيل والأعناب بالذكر( {[2616]} ) لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر . وقرأ الحسن «جنات » بالجمع ، وقوله { من تحتها } هو تحت بالنسبة إلى الشجر( {[2617]} ) ، والواو في قوله { وأصابه } واو الحال( {[2618]} ) ، وكذلك في قوله : { وله } و { ضعفاء } جمع ضعيف وكذلك ضعاف ، وال { إعصار } الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه ، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ، وإن النار اشتكت إلى ربها »( {[2619]} ) ، الحديث بكماله ، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها ، قال السدي : الإعصار الريح ، والنار السموم( {[2620]} ) ، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة ، وقال ابن مسعود إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءاً من النار .
قال القاضي أبو محمد : يريد من نار الآخرة ، وقال الحسن بن أبي الحسن { إعصار فيه نار } ريح فيها صر ، برد ، وقاله الضحاك ، وفي المثل : إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً( {[2621]} ) ، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب ، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل( {[2622]} ) وإما لأنها تنعصر بالرياح ، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي ، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب ، وقال الزجاج : الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة ، قال المهدوي : قيل لها { إعصار } لأنها تلتف كالثوب إذا عصر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[2623]} ) ، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة ، { ولعلكم } ترجّ في حق البشر ، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلاً له . وقال ابن عباس { تتفكرون } في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها .
استئناف بياني أثارُه ضرب المثل العجيب للمنفق في سبيل الله بمثَل حبَّة أنبتت سبع سنابل ، ومثَل جنة برُبوة إلى آخر ما وصف من المَثَلين . ولمَّا أتبع بما يفيد أنّ ذلك إنّما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذًى ، ثم أتبع بالنهي عن أن يُتبعوا صدقاتهم بالمنّ والأذى ، اسْتشرفت نفس السامع لتلقي مَثَل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضُرب المثل لمن كانوا بضدّ حالهم في حالة محمودة .
ضرب الله هذا مثلاً لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرئاء ، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج ، فهذا مقابل قوله : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله } [ البقرة : 265 ] الآية . وقد وصف الجنّة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنّات وما يُرجى منه توفر رَيعها ، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنّته ، بأنّه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء أي صغار إذ الضعيف في « لسان العرب » هو القاصر ، ويطلق الضعيف على الفقير أيضاً ، قال تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } [ البقرة : 282 ] ، وقال أبو خالد العتَّابي :
لقد زادَ الحياةَ إليّ حُبا *** بَناتي إنَّهُنّ من الضِّعاف
وقد أصابه الكِبَر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة ، فهذه أشدّ الأحوال الحرص كقول الأعْشى :
* كجَابيِة الشَّيخِ العِراقي تَفْهَقُ *
فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقتُه في ترقّب لثوابها .
فأصابها إعصار ، أي ريح شديدة تَقلع الشجر والنباتَ ، فيها نار أي شدة حرارة وهي المسمّاة بريح السموم ، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ ، فأحرَقت الجنةّ أي أشجارها أي صارت أعوادها يابسة ، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة .
والاستفهام في قوله : { أيَوَدُّ } استفهام إنكار وتحذير كما في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } [ الحجرات : 12 ] . والهيأة المشبّهة محذوفة وهي هيأة المنفق نفقة متبعة بالمنّ والأذى .
روى البخاري أنّ عمر بن الخطاب سأل يوماً أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمَ ترون هذه الآية نَزلت : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } الآية ، فقال بعضهم : « الله أعلم » ، فغضب عمر وقال : « قولوا نَعْلَم أو لا نعلم » ، فقال ابن عباس : « في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين » ، فقال عمر : يا ابن أخي قُل ولا تحقِرْ نفسك » ، قال ابن عباس : « ضُربت مثلاً لعَملٍ » ، قال عمر : « أيُّ عمل » ، قال ابن عباس : « لعملٍ » ، قال : صدقتَ ، لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله عز وجل إليه الشيطان لما فَني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله .
وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } تذييل ، أي كَهذا البيان الذي فيه تقريب المعْقول بالمحسوس بين الله نصحاً لكم ، رجاء تفكّركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة . والتشبيه في قوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } نحو ما في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
مثل الكافر كمثل شيخ كبير له بستان فيه من كل الثمرات، وله ذرية أولاد صغار، يعني عجزة لا حيلة لهم، فمعيشته ومعيشة ذريته من بستانه، فأرسل الله عز وجل على بستانه السَّمومَ الحارةَ، فأحرقت بستانه، فلم يكن له قوة من كبره أن يدفع عن جنته، ولم تستطع ذريته الصغار أن يدفعوا عن جنتهم التي كانت معيشتهم منها حين احترقت، ولم يكن للشيخ قوة أن يغرس مثل جنته، ولم يكن عند ذريته خير، فيعودون به على أبيهم عندما كان أحوج إلى خير يصيبه، ولا يجد خيرا، ولا يدفع عن نفسه عذابا، كما لم يدفع الشيخ الكبير، ولا ذريته عن جنتهم شيئا حين احترقت، ولا يردُّ الكافر إلى الدنيا فيُعْتَبَ، كما لا يرجع الشيخ الكبير شابا، فيغرس جنة مثل جنته، ولم يقدم لنفسه خيرا، فيعود عليه في الآخرة، وهو أحوج ما يكون إليه كما لم يكن عند والده شيئا فيعودون به على أبيهم، ويُحْرَم الخَيْرَ في الآخرة عند شدة حاجته إليه، كما حُرِمَ جنتَه عندما كان أحوجَ ما يكون إليها عند كبر سنه وضعف ذريته، {كذلك}: هكذا {يبين الله لكم الآيات}: يبين الله أمره، {لعلكم}: لكي {تتفكرون}: في أمثال الله عز وجل فتعتبروا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أيَوَدّ أحَدُكُمْ}: أيحبّ أحدكم "أن تكون له جنة": بستانا من نخيل وأعناب "تجري من تحتها الأنهار": من تحت الجنة "وله فيها من كل الثمرات"؛ والهاء في قوله: {لَهُ} عائدة على أحد، والهاء والألف في: {فِيها} على الجنة. {وَأَصَابَهُ}: وأصاب أحدكم الكبر. {وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ}: وإنما جعل جل ثناؤه البستان من النخيل والأعناب، الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: "أيودّ أحدكم أن تكون له" مثلاً لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر، يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عزّ وجلّ لعمله مثلاً من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذرّيته، ويكتسب به المحمدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلاً بعمله، بأن فيها من كل الثمرات، ثم قال جل ثناؤه: {وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ}: أن صاحب الجنة أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء صغار أطفال {فأصَابَها}: فأصاب الجنة إعصار فيه نار، {فَاحْتَرَقَتْ}: بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها، فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار. يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مستَعْتَب له ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحلّ عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذرّيته أحوج ما كان إليها فبطلت منافعها عنه.
وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية نظير المثل الاَخر الذي ضربه لهم بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا}.
وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدة إلى المعنى الذي قلنا في ذلك. وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم. ثم ضرب مثلاً لمن منّ وآذى من تصدّق عليه بصدقة، فمثله بالمرائي من المنافقين، المنفقين أموالهم رياء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل نظيرة ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثل ما لم يجر له ذكر قبلها ولا معها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدة. وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد. {كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}: كما بين لكم ربكم تبارك وتعالى أمر النفقة في سبيله، وكيف وجهها، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها، كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرفكم أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حججها، إنعاما منه بذلك عليكم. {لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}: لتتفكروا بعقولكم، فتتدبروا وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به.
عن ابن عباس: {كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الاَخرة وبقائها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الخطاب من الله تعالى يخرج على وجوه ثلاثة:
خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع، وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكير والتدبر، وهو كقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} الآية [النساء: 82]، وكقوله جل وعلا: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21] و {يعقلون} [البقرة: 164 و...]
وخطاب لا يفهم إلا بالسؤال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من له علم في ذلك كقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]. فإذا كان ما ذكرنا فيتحمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث عنه والتفحص...
ثم الأمثال التي ضربت بها المؤمنون لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيه، لم ينظروا أعينها، وأما الكفار فإنما ينظرون إلى أعين الأمثال لا إلي ما فيها، فاستحقروها، واستعبدت عقولهم ذلك. لذلك قال الله جل وعلا {لآيات لقوم يتفكرون} [الرعد: 3] و {يعقلون} [البقرة: 164 و...] ووجه ضرب هذا المثل، وهو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه، حين كبرت سنه، وضعفت قوته، ولا حيلة له يومئذ...
ويحتمل أن يكون المعنى من ذلك: أي لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا وبما تنالون من المنافع بالذي أظهرهم من موافقة المؤمنين كاغترار من ذكرت بجنته في خاص ما عليه حاله إلى آن: إلى ما أراه الله من عاقبته أنه يرد عنه نهاية ذلك إن لم يكن منه الاغترار في ذلك، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه لتلك الحال، فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق...
ويحتمل أن يكون ذلك مثلا لمن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن لم يؤمن بالبعث؛ إن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة، فكذا ما ينبغي لهم، إذ بين لهم عواقب الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يؤتوا الذي نالوا بعد علمهم بشدة تلك العاقبة، والله أعلم...
والمثل خرج على غير ذكر الجواب فيه لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث نبيا، أو بما في الحال التي كان نزول الآية دليل التعريف، أو بما أراد الله امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي فضل فضله، وليكرم به أهل التدبر في آياته في صرف وجوه من دونهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم، والله أعلم.
وجملة ذلك أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب وما إليه مرجع الفاعل مقصودا في الابتداء، فبين لمن أغفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته مما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم تكن له تلك، ليكون سروره بما يحمد عاقبته. فعلى هذا الأمر الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار صاحبها، والله الموفق...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في الإعصار قولان:... والثاني: الإعصار: ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود تسميها العامة الزوبعة...
واختلفوا في هذا المثل الذي ضربه الله في الحسرة لسلب النعمة، من المقصود به؟ على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه مثل للمرائي في النفقة ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها، قاله السدي.
والثاني: هو مثل للمفرِّط في طاعة الله لملاذّ الدنيا يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى، قاله مجاهد.
والثالث: هو مثل للذي يختم عمله بفساد، وهو قول ابن عباس...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قال {جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ثم قال: {لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} قلت: النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع، خصهما بالذكر، وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها كقوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] بعد قوله: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف: 32]
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَصَابَهُ الكبر}؟ قلت: الواو للحال لا للعطف. ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر. وقيل: يقال: وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيودّ أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الريح إعصار لأنها تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب، وقال الزجاج: الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة...
{ولعلكم} ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلاً له. وقال ابن عباس {تتفكرون} في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
والمقصود من هذا المثل: بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله، بل يقرن بها أمورا تخرجها عن كونها موجبة للثواب، فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] وقوله {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [الفرقان: 23].
ثم قال: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي كما بين الله لكم آياته ودلائله في هذا الباب ترغيبا وترهيبا، كذلك يبين الله لكم آياته ودلائله في سائر أمور الدين
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
{وأصابه الكبر}: هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه:
أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها.
الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه.
الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته.
الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كل عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم.
الخامس: أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم. وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة، لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته إليها.
فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار، وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار، مرت بتلك الجنة فأحرقتها، وصيرتها رمادا، فصدق والله الحسن في قوله: «هذا مثل قل من يعقله من الناس». ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه. فقال تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}.
فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه، فكذلك العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويحرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح... فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية، ولهذا استحق اسم الجهل. فكل من عصى الله فو جاهل... وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان: بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئا أصلا، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه، ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله، ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها، ثم سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها. فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله، ثم أحرقه، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق. فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وأقول: إن المثل ينطبق أيضا على من أبطل صدقته بالمن والأذى وأنه ليس خاصا بالآخرة فإن باذل المال للفقراء وفي المصالح العامة يكون له من الجاه والمكانة عند الناس ما يشبه تلك الجنة التي وصفها المثل في رونقها ومنافعها، ويوشك أن يذهب مال هذا المنفق وتشتد حاجته وتقصر يده حتى لا يكون له مرتزق إلا ما غرسته يده من جنته تلك، فيحاول أن يجني منها فيحول دون ذلك إعصار من المن والأذى أو من ظهور الرياء فيحرقها حتى تكون كالصريم لا تؤتي ثمرها، ولا تسر رؤيتها، كذلك تكون عاقبة أهل الرياء وذوي المن والإيذاء ينبذهم الناس، عند شد حاجتهم إلى الناس، ولذلك أرشدنا تعالى بعد المثل، إلى التفكير في عاقبة هذا العمل، فقال: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي إنه تعالى يبين لكم الآيات الدالة على حقائق الأمور وغاياتها وفوائدها وغوائلها مثل هذا البيان في أبهى معارض التمثيل {لعلكم تتفكرون} في العواقب فتضعون نفقاتكم في المواضع التي يرضاها مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس حتى لا يستخفها الطيش والإعجاب، فيدفعها إلى المن والأذى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار! وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه... هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى. بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها.. إنها جميعا تعرض في محيط متجانس. محيط زراعي! حبة أنبتت سبع سنابل. صفوان عليه تراب فأصابه وابل. جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين. جنة من نخيل وأعناب.. حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير. وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير.. حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد، وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء. وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء. إنه القرآن.. كلمة الحق الجميلة.. من لدن حكيم خبير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضرب الله هذا مثلاً لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرئاء، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج، فهذا مقابل قوله: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله} [البقرة: 265] الآية. وقد وصف الجنّة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنّات وما يُرجى منه توفر رَيعها، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنّته، بأنّه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء أي صغار إذ الضعيف في « لسان العرب» هو القاصر، ويطلق الضعيف على الفقير أيضاً، قال تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً} [البقرة: 282]
..فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقتُه في ترقّب لثوابها. فأصابها إعصار، أي ريح شديدة تَقلع الشجر والنباتَ، فيها نار أي شدة حرارة وهي المسمّاة بريح السموم، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ، فأحرَقت الجنةّ أي أشجارها أي صارت أعوادها يابسة، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة. وقد أصابه الكِبَر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لمّا كان منشأ كلّ تعاسة وشقاء وعلى الأخصّ كلّ عمل أحمق كالمنّ على الناس هو عدم إعمال العقل والتفكير في الأمور، فإنّ الله في ختام الآية يحثّ الناس على التعمّق في التفكير في آياته {كذلك يبيّن اللهُ لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون}
هذه الأمثلة بالتوالي كلّ واحدة منها تدلّ على الأمور الزراعية اللطيفة، لأن هذه الآيات لم تنزل على أهل المدينة الذين كانوا زرّاعاً فحسب، بل أنها نزلت على جميع الناس، على أية حال كانت الزراعة تشكل جانباً من حياتهم.
يستفاد من {وأصابه الكِبرَ وله ذريّة ضعفاء} إنّ الإنفاق في سبيل الله ومدّ يد العون للمحتاجين أشبه بالبستان اليانع الذي ينتفع بثمره صاحبه وأبناؤه أيضاً. ولكن الرياء والمنّ والأذى لا تحرم صاحبه وحده من ثمرات عمله، بل أنّ ذلك يحرم حتّى أبناءه والأجيال التالية من بركات تلك الأعمال الصالحات. وهذا دليل على أنّ الأجيال القادمة تشارك الأجيال السابقة في الانتفاع بثمرات العمل الطيّب. وهو كذلك أيضاً على الصعيد الاجتماعي، إذ أنّ المحبوبية والثقة التي ينالها الآباء نتيجةً لأعمالهم الصالحة بين الناس، وتكون خير رأسمال لأبنائهم من بعدهم.
عبارة {إعصار فيه نار} قد تكون إشارة إلى رياح السموم التي تحرق الزرع وتجفّف المياه، أو الرياح التي تكتسب الحراة من المرور على الحرائق فتكتسح معها النيران المحرقة وتحملها إلى مناطق أخرى، أو قد تكون إشارة إلى العواصف التي تصاحبها الصواعق فتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد، إنّها على كلّ حال إشارة إلى إبادة سريعة.