{ 22 - 23 } { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ }
أي : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ } الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم ، مخاطبا لأهل النار ومتبرئا منهم { لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ } ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } على ألسنة رسله فلم تطيعوه ، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم ، { وَوَعَدْتُكُمْ } الخير { فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي : لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الأماني الباطلة .
{ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي : من حجة على تأييد قولي ، { إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } أي : هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم ، فاستجبتم لي اتباعا لأهوائكم وشهواتكم ، فإذا كانت الحال بهذه الصورة { فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب ، { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها { وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } كل له قسط من العذاب .
{ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ } أي : تبرأت من جعلكم لي شريكا مع الله فلست شريكا لله ولا تجب طاعتي ، { إِنَّ الظَّالِمِينَ } لأنفسهم بطاعة الشيطان { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } خالدين فيه أبدا .
وهذا من لطف الله بعباده ، أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله التي يدخل منها على الإنسان ومقاصده فيه ، وأنه يقصد أن يدخله النيران ، وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار وحزبه{[454]} أنه يتبرأ منهم هذه البراءة ، ويكفر بشركهم { ولا ينبئك مثل خبير }
واعلم أن الله ذكر في هذه الآية أنه ليس له سلطان ، وقال في آية أخرى { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل ، فليس له حجة أصلا على ما يدعو إليه ، وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون على المعاصي .
وأما السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يُؤزّهم إلى المعاصي أزّا ، وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالاته والالتحاق بحزبه ، ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ . . } والمراد بالشيطان هنا : إبليس - لعنه الله - .
قال الفخر الرازى : " وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان مفرد فيتناول الواحد ، وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم ، فحمل اللفظ عليه أولى . ولا سيما وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم ، يقول الكافر : قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ، ما هو إلا إبليس ، فهو الذى أضلنا ، فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول . . . " .
والمراد بقوله - سبحانه - { قُضِيَ الأمر } أى : حين تم الحساب ، وعرف أهل الجنة ثوابهم ، وعرف أهل النار مصيرهم ، كل فريق فى المكان الذى أعده الله تعالى له .
والمقصود من حكاية ما يقوله الشيطان للكافرين فى هذا اليوم . تحذير المؤمنين من وسوسته وإغوائه ، حتى ينجوا من العذاب الذى سيحل بأتباعه يوم القيامة .
والمراد بالحق فى قوله { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } : الصدق والوفاء بما وعدكم به على ألسنه رسله .
والمراد بالإخلاف فى قوله { وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } الكذب والغدر وعدم الوفاء بما مناهم به ، من أمانى باطلة .
قال - تعالى - : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } وإضافة الوعد إلى الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أى إن الله - تعالى - وعدكم الوعد الحق الذى لا نقض له ، وهو أن الجزاء حق ، والبعث حق ، والنار حق ، ووعدتكم وعدا باطلا بأنه لا بعث ولا حساب . . فأخلفتكم ما وعدتكم به ، وظهر كذبى فيما قلته لكم . ثم أضاف إلى ذلك قوله - كما حكى القرآن عنه - : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } . . .
والسلطان : اسم مصدر بمعنى التسلط والقهر والغلبة .
أى : وما كان لى فيما وعدتكم به من تسلط عليكم ، أو إجبار لكم ، لكنى دعوتكم إلى ما دعوتكم إليه من باطل وغواية ، فانقدتم لدعوتى واستجبتم لوسوستى عن طواعية واختيار .
فالاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } استثناء منقطع ، لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله ، وبعضهم يرى أن الاستثناء متصل .
قال الجمل : " وفى هذا الاستثناء وجهان : أظهرهما : أنه استثناء منقطع ، لأن دعاءه ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة ، والثانى : أنه متصل لأن القدرة على حمل الإِنسان على الشئ تارة تكون بالقهر ، وتارة تكون بتقوية الداعية فى قلبه بإلقاء الوساوس إليه . فهو نوع من التسليط "
وقوله { فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ } زيادة فى تأننيبهم وفى حسراتهم على انقيادهم له .
أى : فلا تلومونى بسبب وعودى إياكم . ولوموا أنفسكم ، لأنكم تقبلتم هذه الوعود الكاذبة بدون تفكر أو تأمل ، وأعرضتم عن الحق الواضح الذى جاءكم من عند ربكم ، ومالك أمركم .
ثم ينفض يده منهم ، ويخلى بينهم وبين مصيرهم السئ فيقول : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أى : ما أنا بمغيثكم ومنقذكم مما أنتم فيه من عذاب ، وما أنتم بمغيثى مما أنا فيه من عذاب - أيضا - فقد انقطعت بيننا الأواصر والصلات . . .
قال القرطى ما ملخصه : " والصارخ والمستصرخ هو الذى يطلب النصرة والمعاونة ، والمصرخ هو المغيث لغيره . . قال أمية بن أبى الصلت :
ولا تجزعا إنى لكم غير مصرخ . . . وليس لكم عندى غناء ولا نصر
ويقال : صرخ فلان أى استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة . .
ومنه : استصرخنى فلان فأصرخته ، أى استغاث بى فأغثته . .
وجملة { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ . . } مستأنفة ، لإِظهار المزيد من التنصل والتبرى من كل علاقة بينه وبينهم .
و " ما " فى قوله { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } الظاهر أنها مصدرية . .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وأراد بقوله { إِنِّي كَفَرْتُ } أى : ِإنى كفرت اليوم { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } .
أى : من قبل هذا اليوم ، يعنى فى الدنيا و " ما " مصدرية و " من قبل " متعلق بأشركتمون .
والمعنى : إنى كفرت بإشراككم إياى الله - تعالى - فى الطاعة ، لأنهم كانوا يطيعون الشيطان فيما يزينه لهم من عبادة غير الله - تعالى - ، ومن أفعال الشر . .
ومراد اللعين : أنه إن كان إشراككم لى فى الله - تعالى - ، هو الذى أطعمكم فى نصرتى لكم . . فإنى متبرئ من هذا الشرك ، لم يبق بينى وبينكم علاقة . . فالكلام محمول على إنشاء التبرى منهم يوم القيامة .
ثم قال : وجوز غير واحد أن تكون " ما " موصولة بمعنى من ، والعائد محذوف ، و " من قبل " متعلق بكفرت . أى : إنى كفرت من قبل - حين أبيت السجود لآدم - بالذى أشركتمونيه . أى : جعلتمونى شريكا له فى الطاعة وهو الله - عز وجل - .
والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره ، وبسبق خطيئته فلا يمكنه لهم عونا أو نصرا . . .
وجملة { إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فى موقع التعليل لما تقدم ، والظاهر أنها ابتداء كلام من جهته - تعالى - : لبيان سوء عاقبة الظالمين .
ويجوز أن تكون من تتمة كلام إبليس - الذى حكاه القرآن عنه - ، ويكون الغرض منها قطع أطماعهم فى الإِغاثة أو النصر ، وتنبيه المؤمنين فى كل زمان ومكان إلى عداوة الشيطان لهم وتحذيرهم من اتباع خطواته .
قال الشيخ الشوكانى - رحمه الله - ما ملخصه : " لقد قام الشيطان للكافرين فى هذا اليوم مقاما يقصهم ظهورهم ، ويقطع قلوبهم ، فأوضح لهم أولا : أن مواعيده التى كان يعدهم بها فى الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله - تعالى - وأنه أخلفهم ما وعدهم به .
ثم أوضح لهم ثانيا : بأنهم قبلوا قوله بما لا يتفق مع العقل ، لعدم الحجة الى لا بد للعاقل منها فى قبول قول غيره .
ثم أوضح لهم ثانيا : بأنهم قبلوا قوله بما لا يتفق مع العقل ، لعدم الحاجة التى لا بد للعاقل منها فى قبول قول غيره .
ثم أوضح لهم ثالثا : بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان ، الخالية عن أيسر شئ مما يتمسك به العقلاء .
ثم نعى عليهم رابعا : ما وقعوا فيه ، ودفع لومهم له ، وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم ، لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذى لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل .
ثم أوضح لهم خامسا : بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة . . بل هو مثلهم فى الوقوع فى البلية . .
ثم صرح لهم سادسا : بأنه قد كفر بما عتقدوه فيه وأثبتوه له ، وهو إشراكه مع الله - تعالى - تضاعفت عليهم الحسرات ، وتوالت عليهم المصائب .
وإذا كانت جملة { إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } من تتمة كلامه - كما ذهب إليه البعض - فهو نوع سابع من كلامه الذى خاطبهم به ، فيكون قد أثبت لهم الظلم ، وذكر لهم جزاءه .
لقد قضي الأمر ، وانتهى الجدل ، وسكت الحوار . . وهنا نرى على المسرح عجبا ونرى الشيطان . . هاتف الغواية ، وحادي الغواة . . نراه الساعة يلبس مسوح الكهان ، أو مسوح الشيطان ! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء ، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب :
( وقال الشيطان - لما قضي الأمر - إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم فأخلفتكم . وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم . ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم . )
الله ! الله ! أما إن الشيطان حقا لشيطان ! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار . .
إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور ، وأغرى بالعصيان ، وزين الكفر ، وصدهم عن استماع الدعوة . . هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة ، حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن ، وبعد فوات الأوان :
( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) !
ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له ، وليس له عليهم من سلطان ، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم ، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم ، فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله :
( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) !
ثم يؤنبهم ، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم . يؤنبهم على أن أطاعوه ! :
( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) !
ثم يخلي بهم ، وينفض يده منهم ، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم ، ووسوس لهم أن لا غالب لهم ؛ فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا ، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ :
( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) . .
ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك :
( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) !
ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه :
( إن الظالمين لهم عذاب أليم ) !
فيا للشيطان ! ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه ، ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه !
يخبر تعالى عما خطب به إبليس [ لعنه الله ]{[15804]} أتباعه ، بعدما قضى الله بين عباده ، فأدخل المؤمنين الجنات ، وأسكن الكافرين الدركات ، فقام فيهم إبليس - لعنه الله - حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم{[15805]} وغَبنا إلى غبْنهم ، وحسرة إلى حسرتهم ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } أي : على ألسنة رسله ، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة ، وكان وعدًا حقا ، وخبرا صدقا ، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم ، كما قال الله تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 120 ] .
ثم قال : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي : ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به ، { إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } بمجرد ذلك ، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه ، { فَلا تَلُومُونِي } اليوم ، { وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } فإن الذنب لكم ، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل ، { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه ، { وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي : بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال ، { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ }
قال قتادة : أي بسبب ما أشركتمون من قبل .
وقال ابن جرير : يقول : إني جحدت أن أكون شريكا لله ، عز وجل .
وهذا الذي قال هو الراجح{[15806]} كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] ، وقال : { كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 82 ] .
وقوله : { إِنَّ الظَّالِمِينَ } أي : في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
والظاهر من سياق الآية : أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار ، كما قدمنا . ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم - وهذا لفظه - وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد : حدثني دخين{[15807]} الحَجْري ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا جمع الله الأولين والآخرين ، فقضى بينهم ، ففرغ من القضاء ، قال المؤمنون : قد قضى بيننا ربنا ، فمن يشفع لنا ؟ فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم - وذكر نوحا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى - فيقول عيسى : أدلكم على النبي الأمي . فيأتوني ، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور{[15808]} [ من ]{[15809]} مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط ، حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكافرون هذا : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فمن يشفع لنا ؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا ، فيأتون إبليس فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنك أنت أضللتنا . فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ، ثم يعظم نحيبهم{[15810]} { وَقَالَ{[15811]} الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } {[15812]} .
وهذا سياق ابن أبي حاتم ، ورواه ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن دُخَيْن{[15813]} عن عُقْبَة ، به مرفوعا{[15814]} .
وقال محمد بن كعب القُرظي ، رحمه الله : لما قال أهل النار : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } قال لهم إبليس : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } الآية ، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ، فنودوا : { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } [ غافر : 10 ] .
وقال عامر الشعبي : يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس ، يقول الله لعيسى ابن مريم : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } إلى قوله : { قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 116 ، 119 ] ، قال : ويقوم إبليس - لعنه الله - فيقول : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } الآية .
المراد هنا ب { الشيطان } إبليس الأفذم نفسه ، وروي في حديث عن النبي عليه السلام - من طريق عقبة بن عامر - أنه قال : «يقوم يوم القيامة خطيبان : أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ ، والآخر عيسى ابن مريم يقوم بقوله : { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به }{[7048]} [ المائدة : 117 [ ، وقال بعض العلماء : يقوم إِبليس خطيب السوء ، الصادق بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله : { قضي الأمر } أي حصل أهل النار في النار ، وأهل الجنة في الجنة ، وهو تأويل الطبري .
قال القاضي أبو محمد : و { قضي } قد يعبر عنها في الأمور عن فعل كقوله تعالى : { وقضي الأمر واستوت على الجودي }{[7049]} [ هود : 44 ] وقد يعبر بها عن عزم على أن يفعل ، كقوله : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان }{[7050]} [ يوسف : 41 ] .
و { الوعد } في هذه الآية على بابه في الخير ، أي إن الله وعدهم النعيم إن آمنوا ، ووعدهم إبليس الظفر والأمر إن كذبوا ، ومعلوم اقتران وعد الله بوعيده ، واتفق أن لم يتبعوا طلب وعد الله فوقعوا في وعيده ، وجاء من ذلك كأن إبليس أخلفهم . وال { سلطان } الحجة البينة ، وقوله : { إلا أن دعوتكم } استثناء منقطع{[7051]} ، و { أن } في موضع نصب ، ويصح أن تكون في موضع رفع على معنى : إلا أن النائب عن السلطان ، إن دعوتكم فيكون هذا في المعنى كقول الشاعر : [ الوافر ]
تحية بينهم ضرب وجيع{[7052]} . . . ومعنى قوله : { فاستجبتم لي } أي رأيتم ما دعوتكم إليه ببصيرتكم واعتقدتموه الرأي وأتى نظركم عليه .
قال القاضي أبو محمد : وذكر بعض الناس أن هذا المكان يبطل منه التقليد ، وفي هذه المقالة ضعف على احتمالها ، والتقليد وإن كان باطلاً ففساده من غير هذا الموضع .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد ب » السلطان «في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك ، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني ، بل عرضت عليكم شيئاً ، فأتى رأيكم عليه .
وقوله : { فلا تلوموني } يريد بزعمه إذ لا ذنب لي { ولوموا أنفسكم } في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب . و » المصرخ «المغيث ، والصارخ : المستغيث . ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع . . . كان الصراخ له قطع الظنابيب{[7053]}
فيقال : صرخ الرجل ، وأصرخ غيره ، وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح{[7054]} ، ويوصف به ، كما يقال : رجل عدل ونحوه .
وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب » بمصرخي «بكسر الياء تشبيهاً لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله : مصرخيه ، ورد الزجاج هذه القراءة ، وقال ردية مرذولة{[7055]} ، وقال فيها القاسم بن معن : إنها صواب ، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم : أن أبا عمرو حسنها ، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو{[7056]} .
وقوله : { بما أشركتمون } أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها ، ف «ما » مصدرية ، وكأنه يقول : إني الآن كافر بإشراككم أيأي مع الله قبل هذا الوقت .
قال القاضي أبو محمد : فهذا تبر منه ، وقد قال الله تعالى : { ويوم القيامة يكفرون بشرككم }{[7057]} [ فاطر : 14 ] ويحتمل أن يكون اللفظ إقراراً على نفسه بكفره الأقدم ، فتكون «ما » بمعنى الذي ، يريد الله تعالى ، أي خطيئتي قبل خطيئتكم ، فلا إصراخ عندي{[7058]} ، وباقي الآية بين .