ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } .
والبصيرة هنا بمعنى الحجة الشاهدة عليه ، وهى خبر عن المبتدأ وهو { الإنسان } والجار والمجرور متعلق بلفظ بصيرة والهاء فيها للمبالغة ، مثل هاء علامة ونسابة .
أى : بل الإِنسان حجة بينة على نفسه ، وشاهدةبما كان منه من الأعمال السيئة ، ولو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه . لم ينفعه ذلك .
قال صاحب الكشاف : { بَصِيرَةٌ } أى : حجة بينة ، وصفت بالبصارة على المجاز ، كما وصفت الآيات بالإبصار فى قوله : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أو : عين بصيرة والمعنى أنه ينبأ بأعماله ، وإن لم ينبأ ففيه ما يجزئ عن الإِنباء ، لأنه شاهد عليها بما عملت ، لأن جوارحه تنطق بذلك ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه ، فلن يقبل منها عذر ، لأن نفسه موكولة إليه ، وهو موكل بها ، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها . فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها :
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) . .
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير : الفقر . والفواصل . والإيقاع الموسيقي . والمشاهد الخاطفة . وكذلك عملية الحساب : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )هكذا في سرعة وإجمال . . ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب !
أي : هو شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 14 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } يقول : سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه .
وقال قتادة : شاهد على نفسه . وفي رواية قال : إذا شئت - والله - رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه ، وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم ، تُبصر القَذَاة في عين أخيك ، وتترك الجِذْل{[29544]} في عينك لا تبصره .
وقوله : بَل الإنْسانُ على نَفْسِه بَصِيرَةٌ يقول تعالى ذكره : بل للإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه بعمله ، ويشهدون عليه به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ يقول : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه .
والبصيرة على هذا التأويل ما ذكره ابن عباس من جوارح ابن آدم وهي مرفوعة بقوله عَلى نَفْسِهِ ، والإنسان مرفوع بالعائد من ذكره في قوله : نفسه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بل الإنسان شاهد على نفسه وحده ومن قال هذا القول جعل البصيرة خبرا للإنسان ، ورفع الإنسان بها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ يقول : الإنسان شاهد على نفسه وحده .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال : شاهد عليها بعملها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ إذا شئت والله رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم ، غافلاً عن ذنوبه قال : وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك ، ولا تبصر الجذع المعترض في عينك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال : هو شاهد على نفسه ، وقرأ : اقْرأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا .
ومن قال هذه المقالة يقول : أدخلت الهاء في قوله بَصِيرَةٌ وهي خبر للإنسان ، كما يقال للرجل : أنت حجة على نفسك ، وهذا قول بعض نحويي البصرة . وكان بعضهم يقول : أدخلت هذه الهاء في بصيرة وهي صفة للذكر ، كما أدخلت في راوية وعلامة .
وقوله تعالى : { بل الإنسان } إضراب بمعنى الترك لا على معنى إبطال القول الأول ، و { بصيرة } يحتمل أن يكون خبراً عن الإنسان ولحقته هاء التأنيث كما لحقت علامة ونسابة ، والمعنى فيه وفي عقله وفطرته حجة وطليعة وشاهد مبصر على نفسه ، والهاء للتأنيث ، ويراد ب «البصيرة » جوارحه أو الملائكة الحفظة وهذا تأويل ابن عباس .
إضراب انتقالي ، وهو للترقي من مضمون { يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدم وأخّر } [ القيامة : 13 ] إلى الإِخبار بأن الكافر يَعلَم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال : { يا ليتني لم أوتَ كتابِيَهْ ولم أدر ما حِسَابيهْ } [ الحاقة : 25 ، 26 ] ، { ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً } [ الكهف : 49 ] . وقال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] .
ونظم قوله : { بل الإِنسان على نفسه بصيرة } صالح لإِفادة معنيين :
أولهما أن يكون { بصيرة } بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون { بصيرة } خبراً عن { الإنسان } . و { على نفسه } متعلقاً ب { بصيرة } ، أي الإِنسان بصيرٌ بنفسه . وعُدّي بحرف { على } لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } . وهاء { بصيرة } تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسَّابة ، أي الإِنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذٍ .
والمعنى الثاني : أن يكونَ { بصيرة } مبتدأ ثانياً ، والمراد به قرين الإِنسان من الحفظة وعلى نفسه خبرَ المبتدأ الثاني مقدماً عليه ، ومجموعُ الجملة خبراً عن { الإنسان } ، و { بصيرة } حينئذٍ يحتمل أن يكون بمعنى بصير ، أي مبصر والهاء للمبالغة ، كما تقدم في المعنى الأول ، وتكون تعدية { بصيرة } ب { على } لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول .
ويحتمل أن تكون { بصيرة } صفة لموصوف محذوف ، تقديرة : حجة بصيرة ، وتكون { بصيرة } مجازاً في كونها بينة كقوله تعالى : { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ ربّ السماوات والأرض بصائر } [ الإسراء : 102 ] ومنه قوله تعالى : { وآتينا ثمودَ الناقة مبصرة } [ الإسراء : 59 ] والتأنيثُ لتأنيث المَوصوف .