ثم إنهم { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد ، وأنه أراد أن يملكهم إياها . ف { قَالُوا } لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم - : { يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي : أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل ، حيث وفَّى لنا الكيل ، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن ، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق ؟
{ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي : إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا ، فمرنا{[446]} أهلنا ، وأتينا{[447]} لهم ، بما هم مضطرون إليه من القوت ، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله معنا ، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير ، { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي : سهل لا ينالك ضرر ، لأن المدة لا تطول ، والمصلحة قد تبينت .
ثم اتجه الأبناء بعد هذه المحاورة مع أبيهم إلى أمتعتهم ليفتحوها ويخرجوا ما بها من زاد حضروا به من مصر ، فكانت المفاجأة التي حكاها القرآن في قوله :
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ . . . }
أى : وحين فتحوا أوعيتهم التي بداخلها الطعام الذي اشتروه من عزيز مصر . فوجئوا بوجود أثمان هذا الطعام قد رد إليهم معه ، ولم يأخذها عزيز مصر ، بل دسها داخل أوعيتهم دون أن يشعروا ، فدهشوا وقالوا لأبيهم متعجبين :
{ ياأبانا مَا نَبْغِي هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } أى : يا أبانا ماذا نطلب من الإِحسان والكرم أكثر من هذا الذي فعله معنا عزيز مصر ؟ لقد أعطانا الطعام الذي نريده ، ثم رد إلينا ثمنه الذي دفعناه له دون أن يخبرنا بذلك .
فما في قوله { مَا نَبْغِي } استفهامية ، والاستفهام للتعجب من كرم عزيز مصر ، وهى مفعول نبغى ، ونبغى من البُغَاء - بضم الباء - وهو الطلب .
والمراد ببضاعتهم : الثمن الذي دفعوه للعزيز في مقابل ما أخذوه منه من زاد .
وجملة { هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } مستأنفة لتوضيح ما دل عليه الاستفهام من التعجب ، بسبب ما فعله معهم عزيز مصر من مروءة وسخاء .
فكأنهم قالوا لأبيهم : كيف لا نعجب وندهش ، وهذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا ندرى ومعها الأحمال التي اشتريناها من عزيز مصر لم ينقص منها شئ ؟
وقوله { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } معطوف على مقدر يفهم من الكلام ، أى : { هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } فننتفع بها في معاشنا ، ونمير أهلنا ، أى : نجلب لهم الميرة - بكسر الميم وسكون الياء - وهى الزاد الذي يؤتى به من مكان إلى آخر .
{ وَنَحْفَظُ أَخَانَا } عند سفره معنا من أى مكروه .
{ وَنَزْدَادُ } بوجوده معنا عند الدخول على عزيز مصر .
{ كَيْلَ بَعِيرٍ } أى : ويعطينا العزيز حمل بعير من الزاد ، زيادة على هذه المرة نظراً لوجود أخينا معنا .
ولعل قولهم هذا كان سببه أن يوسف - عليه السلام - كان يعطى من الطعام على عدد الرءوس ، حتى يستطيع أن يوفر القوت للجميع في تلك السنوات الشداد .
واسم الإِشارة في قوله - سبحانه - { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } يعود إلى الزاد الذي أحضروه من مصر أى : ذلك الطعام الذي أعطانا إياه عزيز مصر طعام يسير ، لا يكفينا إلا لمدة قليلة من الزمان ، ويجب أن نعود إلى مصر لنأتى بطعام آخر .
وفى هذه الجمل المتعددة التي حكاها القرآن عنهم ، تحريض واضح منهم لأبيهم على أن يسمح لهم باصطحاب " بنيامين " معهم في رحلتهم القادمة إلى مصر
ومن مظاهر هذا التحريض : مدحهم لعزيز مصر الذي رد لهم أثمان مشترياتهم ، وحاجتهم الملحة إلى استجلاب طعام جديد ، وتعهدهم بحفظ أخيهم وازدياد الأطعمة بسبب وجودهم معهم .
ولكن يعقوب - عليه السلام - مع كل هذا التحريض والإِلحاح ، لم يستجب لهم إلا على كره منه ، واشترط لهذه الاستجابة ما حكاه القرآن في قوله :
{ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ }
( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ )
وبعد الاستقرار من المشوار ، والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها ، ولم يجدوا في رحالهم غلالا !
إن يوسف لم يعطهم قمحا ، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم . فلما عادوا قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم . وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم ، وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه .
على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين :
قالوا : يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا . .
ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام :
والميرة الزاد ، ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم . .
ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم :
ويبدو من قولهم : ( ونزداد كيل بعير )أن يوسف - عليه السلام - كان يعطي كل واحد وسق بعير - وهو قدر معروف - ولم يكن يبيع كل مشتر ما يريد . وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب ، كي يظل هناك قوت للجميع :
يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم ، وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم ، وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم ، فلما وجدوها في متاعهم { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } ؟ أي : ماذا نريد ؟ { هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } كما قال قتادة . ما نبغي وراء هذا{[15226]} ؟ إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفي لنا الكيل .
{ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي : إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا ، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } وذلك أن يوسف ، عليه السلام ، كان يعطي كل رجل حمل بعير . وقال مجاهد : حمل حمار . وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا ، كذا قال .
{ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } هذا من تمام الكلام وتحسينه ، أي : إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِي هََذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم الذي حملوه من مصر من عند يوسف ، وجدوا بضاعتهم ، وذلك ثمن الطعام الذي اكتالوه منه ردّت إليهم . قالُوا يا أبانا ما نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنا رُدّتْ إلَيْنا يعني أنهم قالوا لأبيهم : ماذا نبغي ؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا تطييبا منهم لنفسه بما صنع بهم في ردّ بضاعتهم إليه . وإذا وُجّه الكلام إلى هذا المعنى كانت «ما » استفهاما في موضع نصب بقوله : نَبْغِي . وإلى هذا التأويل كان يوجهه قتادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما نَبْغِي يقول : ما نبغي وراء هذا ، إن بضاعتنا رُدّت إلينا ، وقد أوفى لنا الكيلُ .
وقوله : وَنميرُ أهْلَنا يقول : ونطلب لأهلنا طعاما فنشتريه لهم ، يقال منه : مَارَ فلان أهله يَميرهم مَيْرا ، ومنه قول الشاعر :
بَعَثْتُكَ مائِرا فَمَكَثْتَ حَوْلاً *** مَتى يَأْتي غِياثُكَ مَنْ تُغِيثُ
وَنَحْفَظُ أخانا الذي ترسله معنا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يقول : ونزداد على أحمالنا من الطعام حمل بعير يكال لنا ما حمل بعير آخر من إبلنا ، ذلكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ يقول : هذا حِمل يسير . كما :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ قال : كان لكل رجل منهم حمل بعير ، فقالوا : أرسل معنا أخانا نزداد حمل بعير . وقال ابن جريج : قال مجاهد : كَيْلَ بَعِيرٍ حمل حمار . قال : وهي لغة . قال القاسم : يعني مجاهد : أن الحمار يقال له في بعض اللغات : بعير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يقول : حمل بعير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ نَعُد به بعيرا مع إبلنا ذلكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ .
{ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدّت إليهم } وقرئ { ردت } بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في بيع وقيل . { قالوا يا أبانا ما نبغي } ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا . أو لا نطلب وراء ذلك إحسانا أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه . وقرئ " ما تبغي " على الخطاب أي : شيء تطلب وراء هذا الإحسان ، أو من الدليل على صدقنا ؟ { هذه بضاعتنا رُدّت إلينا } استئناف موضح لقوله { ما نبغي } . { ونمير أهلنا } معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك . { ونحفظ أخانا } عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا . { ونزداد كيل بعير } وسق بعير باستصحاب أخينا ، هذا إذا كانت { ما } استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن تكون الجمل معطوفة على { ما نبغي } ، أي لا نبغي فيما نقول { ونمير أهلنا ونحفظ أخانا } . { ذلك كيل يسير } أي مكيل قليل لا يكفينا ، استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك ولا يتعاظمه ، وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه ، إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد .
وقوله : { فتحوا متاعهم } سمى المشدود المربوط بحملته متاعاً ، فلذلك حسن الفتح فيه ، قرأ جمهور الناس : «رُدت » بضم الراء ، على اللغة الفاشية عن العرب ، وتليها لغة من يشم ، وتليها لغة من يكسر . وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب «رِدت » بكسر الراء على لغة من يكسر - وهي في بني ضبة - ، قال أبو الفتح : وأما المعتل - نحو قيل وبيع - فالفاشي فيه الكسر ، ثم الإشمام ، ثم الضم ، فيقولون : قول وبوع ، وأنشد ثعلب : [ الرجز ]
. . . . . . . . وقول لا أهل له ولا مال{[6745]}*** قال الزجاج : من قرأ : «رِدت » بكسر الراء - جعلها منقولة من الدال - كما فعل في قيل وبيع - لتدل على أن أصل الدال الكسرة .
وقوله { ما نبغي } يحتمل أن تكون { ما } استفهاماً ، قاله قتادة . و { نبغي } من البغية ، أي ما نطلب بعد هذه التكرمة ؟ هذا مالنا رد إلينا مع ميرتنا . قال الزجّاج : ويحتمل أن تكون { ما } نافية ، أي ما بقي لنا ما نطلب ، ويحتمل أيضاً أن تكون نافية ، و { نبغي } من البغي ، أي ما تعدينا فكذبنا على هذا الملك ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة .
وقرأ أبو حيوة «ما تبغي » - بالتاء ، على مخاطبة يعقوب ، وهي بمعنى : ما تريد وما تطلب ؟ قال المهدوي : وروتها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأت فرقة : «ونَمير » بفتح النون - من مار يمير : إذا جلب الخير ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
بعثتك مائراً فمكثت حولاً*** متى يأتي غياثك من تغيث{[6746]}
وقرأت عائشة رضي الله عنها : «ونُمير » بضم النون - وهي من قراءة أبي عبد الرحمن السلمي - وعلى هذا يقال : مار وأمار بمعنى*** . ؟
وقولهم : { ونزداد كيل بعير } يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف إنما حمل لهم عشرة أبعرة ولم يحمل الحادي عشر لغيب صاحبه : وقال مجاهد : { كيل بعير } أراد كيل حمار . قال : وبعض العرب يقول للحمار بعير .
قال القاضي أبو محمد : وهذا شاذ .
وقولهم : { ذلك كيل يسير } تقرير بغير ألف ، أي أذلك كيل يسير في مثل هذا العام فيهمل أمره ؟ وقيل : معناه : { يسير } على يوسف أن يعطيه . وقال الحسن البصري : وقد كان يوسف وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن ؛ وقال السدي : معنى { ذلك كيل يسير } أي سريع لا نحبس فيه ولا نمطل .