ف { قَالَ } قارون -رادا لنصيحتهم ، كافرا بنعمة ربه- : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي }
أي : إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب ، وحذقي ، أو على علم من اللّه بحالي ، يعلم أني أهل لذلك ، فلم تنصحوني على ما أعطاني للّه تعالى ؟ قال تعالى مبينا أن عطاءه ، ليس دليلا على حسن حالة المعطي : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } فما المانع من إهلاك قارون ، مع مُضِيِّ عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو مثله وأعظم ، إذ فعل ما يوجب الهلاك ؟ .
{ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } بل يعاقبهم اللّه ، ويعذبهم على ما يعلمه منهم ، فهم ، وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة ، وشهدوا لها بالنجاة ، فليس قولهم مقبولا ، وليس ذلك دافعا عنهم من العذاب شيئا ، لأن ذنوبهم غير خفية ، فإنكارهم لا محل له ، فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه ، وعدم قبول نصيحة قومه ، فرحا بطرا قد أعجبته نفسه ، وغره ما أوتيه من الأموال .
ولكن قارون قابل هذه النصائح ، بالغرور وبالإصرار على الفساد والجحود فقال كما حكى القرآن عنه { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } .
أى : قال قارون فى الرد على ناصحيه : إن هذا المال الكثير الذى تحت يدى ، إنما أوتيته بسبب علمى وجدى واجتهادى . . . فكيف تطلبون منى أن أتصرف بمقتضى نصائحكم ؟ لا . لن أتبع تلك النصائح التى وجهتموها إلى ، فإن هذا المال مالى ولا شأن لكم بتصرفى فيه ، كما أنه لا شأن لكم بتصرفاتى الخاصة ، ولا بسلوكى فى حياتى التى أملكها .
وهذا القول يدل على أن قارون ، كان قد بلغ الذروة فى الغرور والطغيان وجحود النعمة .
ولذا جاءه التهديد المصحوب بالسخرية منه ومن كنوزه ، فى قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } .
والمقصود بهذا الاستفهام التعجيب من حاله ، والتأنيب له على جهله وغروره .
أى : أبلغ الغرور والجهل بقارون أنه يزعم أن هذا المال الذى بين يديه جمعه بمعرفته واجتهاده ، مع أنه يعلم - حق العلم عن طريق التوراة وغيرها ، أن الله - تعالى - قد أهلك من قبله . من أهل القرون السابقة عليه من هو أشد منه فى القوة ، وأكثر منه فى جمع المال واكتنازه .
فالمقصود بالجملة الكريمة تهديده وتوبيخه على غروره وبطره .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } جملة حالية .
أى : والحال أنه لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون سؤال استعتاب واستعلام ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شىء . وإنما يسألون - كما جاء فى قوله - تعالى - { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } - سؤال توبيخ وإفضاح .
فالمراد بالنفى فى قوله - سبحانه - { وَلاَ يُسْأَلُ . . . } سؤال الاستعلام والاستعتاب ، والمراد بالإثبات فى قوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ } أو فى قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُم } سؤال التقريع والتوبيخ .
أو نقول : إن فى يوم القيامة مواقف ، فالمجرمون قد يسألون فى موقف ، ولا يسألون فى موقف آخر ، وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التى تنفى السؤال والآيات التى تثبته .
كذلك قال له قومه : فكان رده جملة واحدة ، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد :
( قال : إنما أوتيته على علم عندي ) !
إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله . فما لكم تملون علي طريقة خاصة في التصرف فيه ، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة ، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص ، واستحققته بعلمي الخاص ?
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، ويفتنه المال ويعميه الثراء .
وهو نموذج مكرر في البشرية . فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح ، غير حاسب لله حسابا ، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
والإسلام يعترف بالملكية الفردية ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه . ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق تحصيله ، وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه ، ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لمنهجه القويم . وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم .
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، ردا على قولته الفاجرة المغرورة :
( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ? ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) .
فإن كان ذا قوة وذا مال ، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا . وكان عليه أن يعلم هذا . فهذا هو العلم المنجي . فليعلم . وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم . فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد !
يقول تعالى مخبرًا عن جواب قارون لقومه ، حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي : أنا لا أفتقر إلى ما تقولون ، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ، ولمحبته لي فتقديره : إنما أعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له ، وهذا كقوله تعالى : { فَإِذَا{[22408]} مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } [ الزمر : 49 ] أي : على علم من الله بي ، وكقوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [ فصلت : 50 ] أي : هذا أستحقه .
وقد رُوي عن بعضهم أنه أراد : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي : إنه كان يعاني علم الكيمياء : وهذا القول ضعيف ؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل ؛ لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عز وجل ، قال الله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } [ الحج : 73 ] ، وفي الصحيح عن النبي{[22409]} صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : ومَنْ أظلم مِمَّنْ ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة " {[22410]} . وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله في مجرد الصورة الظاهرة أو الشكل ، فكيف بِمَنْ يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى ، هذا زور ومحال ، وجهل وضلال . وإنما يقدرون على الصبغ في الصورة الظاهرة ، وهو كذب وزغل وتمويه ، وترويج أنه صحيح في نفس الأمر ، وليس كذلك قطعًا لا محالة ، ولم يثبت بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاناها هؤلاء الجهلة الفسقة الأفاكون فأما ما يجريه الله تعالى{[22411]} من خَرْق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهبًا أو فضة أو نحو ذلك ، فهذا أمر لا ينكره مسلم ، ولا يرده مؤمن ، ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض والسموات ، واختياره وفعله ، كما روي عن حَيْوة بن شُرَيح المصري ، رحمه الله ، أنه سأله سائل ، فلم يكن عنده ما يعطيه ، ورأى ضرورته ، فأخذ حصاة من الأرض فأجالها في كفه ، ثم ألقاها إلى ذلك السائل فإذا هي ذهب أحمر . والأحاديث والآثار [ في هذا ]{[22412]} كثيرة جدًّا يطول ذكرها .
وقال بعضهم : إن قارون كان يعلم الاسم الأعظم ، فدعا الله به ، فتموّل بسببه . والصحيح المعنى الأول ؛ ولهذا قال الله تعالى - رادًّا عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } أي : قد كان من هو أكثر منه مالا وما كان ذلك عن محبة منا له ، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم ؛ ولهذا قال : { وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } أي : لكثرة ذنوبهم .
قال قتادة : { عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } : على خير عندي .
وقال السدي : على علم أني أهل لذلك .
وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فإنه قال في قوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } قال : لولا رضا الله عني ، ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال ، وقرأ { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [ وهكذا يقول مَنْ قل علمه إذا رأى مَنْ وسع الله عليه يقول : لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي ]{[22413]} .