{ 61 ْ } { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ }
يخبر تعالى عن منته على عباده ، وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ْ } أي : ليس على هؤلاء جناح ، في ترك الأمور الواجبة ، التي تتوقف على واحد منها ، وذلك كالجهاد ونحوه ، مما يتوقف على بصر الأعمى ، أو سلامة الأعرج ، أو صحة للمريض ، ولهذا المعنى العام الذي ذكرناه ، أطلق الكلام في ذلك ، ولم يقيد ، كما قيد قوله : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : حرج { أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } أي : بيوت أولادكم ، وهذا موافق للحديث الثابت : " أنت ومالك لأبيك " والحديث الآخر : " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم " وليس المراد من قوله : { مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } بيت الإنسان نفسه ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، الذي ينزه عنه كلام الله ، ولأنه نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم من هؤلاء المذكورين ، وأما بيت الإنسان نفسه فليس فيه أدنى توهم .
{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ْ } وهؤلاء معروفون ، { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ْ } أي : البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة ، أو ولاية ونحو ذلك ، وأما تفسيرها بالمملوك ، فليس بوجيه ، لوجهين : أحدهما : أن المملوك لا يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال : " ما ملكتموه " أو " ما ملكت أيمانكم " لأنهم مالكون له جملة ، لا لمفاتحه فقط .
والثاني : أن بيوت المماليك ، غير خارجة عن بيت الإنسان نفسه ، لأن المملوك وما ملكه لسيده ، فلا وجه لنفي الحرج عنه .
{ أَوْ صَدِيقِكُمْ ْ } وهذا الحرج المنفي عن الأكل{[572]} من هذه البيوت كل ذلك ، إذا كان بدون إذن ، والحكمة فيه معلومة من السياق ، فإن هؤلاء المسمين{[573]} قد جرت العادة والعرف ، بالمسامحة في الأكل منها ، لأجل القرابة القريبة ، أو التصرف التام ، أو الصداقة ، فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة والشح في الأكل المذكور ، لم يجز الأكل ، ولم يرتفع الحرج ، نظرا للحكمة والمعنى .
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ْ } فكل ذلك جائز ، أكل أهل البيت الواحد جميعا ، أو أكل كل واحد منهم وحده ، وهذا نفي للحرج ، لا نفي للفضيلة وإلا فالأفضل الاجتماع على الطعام .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا ْ } نكرة في سياق الشرط ، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره ، سواء كان في البيت ساكن أم لا ، فإذا دخلها الإنسان { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : فليسلم بعضكم على بعض ، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد ، من تواددهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت ، من غير فرق بين بيت وبيت ، والاستئذان تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه ، ثم مدح هذا السلام فقال : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ْ } أي : سلامكم بقولكم : " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " أو " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " إذ تدخلون البيوت ، { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ْ } أي : قد شرعها لكم ، وجعلها تحيتكم ، { مُبَارَكَةً ْ } لاشتمالها على السلامة من النقص ، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة ، { طَيِّبَةً ْ } لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله ، الذي فيه طيبة نفس للمحيا ، ومحبة وجلب مودة .
لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة قال :
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ ْ } الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ } عنه فتفهمونها ، وتعقلونها بقلوبكم ، ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة ، فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها ، يزيد في العقل ، وينمو به اللب ، لكون معانيها أجل المعاني ، وآدابها أجل الآداب ، ولأن الجزاء من جنس العمل ، فكما استعمل عقله للعقل عن ربه ، وللتفكر في آياته التي دعاه إليها ، زاده من ذلك .
وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي : أن " العرف والعادة مخصص للألفاظ ، كتخصيص اللفظ للفظ " فإن الأصل ، أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره ، مع أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء ، للعرف والعادة ، فكل مسألة تتوقف على الإذن من مالك الشيء ، إذا علم إذنه بالقول أو العرف ، جاز الإقدام عليه .
وفيها دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ، لأن الله سمى بيته بيتا للإنسان .
وفيها دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان ، كزوجته ، وأخته ونحوهما ، يجوز لهما الأكل عادة ، وإطعام السائل المعتاد .
وفيها دليل ، على جواز المشاركة في الطعام ، سواء أكلوا مجتمعين ، أو متفرقين ، ولو أفضى ذلك إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن أحكام أخرى فيها ما فيها من حسن للتنظيم فى العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ، وفيها ما فيها من اليسر والسماحة ، فقال - تعالى - : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن ابن عباس أنه قال : لما أنزل الله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل . . } تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والعمى والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال والباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة ، والمريض يضعف عن التناول ولا يستوفى من الطعام حقه ، فأنزل الله هذه الآية .
وقيل نزلت ترخيصا لهؤلاء فى الأكل من بيوت من سمى الله فى هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام ، فإذا لم يكن عنده شىء ذهب بهم إلى بيت أبيه ، أو بيت أمه ، أو بعض من سمى الله فى هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك ، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته ، فأنزل الله هذه الآية .
وقيل نزلت رخصة للأعمى والأعرج والمريض عن التخلف عن الجهاد . . .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة نزلت لتعليم المؤمنين ألوانا متعددة من الآداب التى شرعها الله - تعالى - لهم ، ويسرها لهم بفضله وإحسانه ، حتى يعلموا أن شريعته - سبحانه - مبنية على اليسر لا على العسر ، وعلى التخفيف ورفع الحرج ، لا على التشديد والتضييق .
والحرج : الضيق ومنه الحرجة للشجر الملتف المتكاثف بعضه ببعض ، حتى ليصعب على الشخص أن يمشى فيه . والمراد به هنا : الإثم .
والمعنى : ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج أو إثم فى الأكل من بيوت هؤلاء الذين سماهم الله - تعالى - .
كذلك ليس عليكم حرج أو إثم - أيها المؤمنون - فى أن تأكلوا أنتم ومن معكم { مِن بُيُوتِكُمْ } التى هى ملك لكم .
وذكر - سبحانه - بيوتهم هنا مع أنه من المعروف أنه لا حرج فى أن يأكل الإنسان من بيته ، للإشعار بأن أكلهم من بيوت الذين سيذكرهم - سبحانه - بعد ذلك من الآباء والأمهات والأقارب ، يتساوى فى نفى الحرج مع أكلهم من بيوتهم أى أن أكل الناس من بيوتهم لم يذكر هنا لنفى حرج كان متوهما ، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وأصدقائهم ، وبين أكلهم من بيوتهم .
وبعضهم يرى أن المراد بقوله { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أى : من بيوت زوجاتهم وأولادهم .
ثم ذكر - سبحانه - بيوتا أخرى لا حرج عليهم فى الأكل منها فقال : { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } أى : أو البيوت التى تملكون التصرف فيها بإذن أصحابها ، كأن تكونوا وكلاء عنهم فى التصرف فى أموالهم .
ومفاتح : جمع مفتح - بكسر الميم - وهو آلة الفتح وملك هذه المفاتح : كناية عن كون الشىء تحت يد الشخص وتصرفه .
وقوله { أَوْ صَدِيقِكُمْ } معطوف على ما قبله والصديق هو من يصدق فى مودتك ، وتصدق أنت فى مودته ، وهو اسم جنس يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا : الجمع . أى : ولا حرج عليكم - أيضا - فى الأكل من بيوت اصدقائكم .
فالآية الكريمة قد أجازت الأكل من هذه البيوت المذكورة ، وهى أحد عشر بيتا - وإن لم يكن فيها أصحابها ، ما دام الآكل قد علم رضا صاحب البيت بذلك ، وأن صاحب البيت ، لا يكره هذا ولا يتضرر منه ، استناداً إلى القواعد العامة فى الشريعة ، والتى منها : " لا ضرر ولا ضرار " وأنه " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه " .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما معنى { أَوْ صَدِيقِكُمْ } قلت : معناه : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحدا وجمعا ، وكذلك الخليط والقطين والعدو .
ويحكى عن الحسن أنه دخل داره ، وإذا جماعة من أصدقائه قد استلوا سلالا من تحت سريره فيها أطايب الأطعمة . وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم . يريد أكابر الصحابة ومن لقيهم من البدريين .
وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه . فيأخذ منه ما شاء ، فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك .
وقوله - سبحانه - : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } بيان لنوع آخر من أنواع السماحة فى شريعة الإسلام .
والأشتات : جمع شَتّ - بفتح الشين - يقال : شت الأمر يشت شتا وشتاتا ، إذا تفرق . ويقال : هذا أمر شت ، أى : متفرق .
أى : ليس عليكم - أيها المؤمنون - حرج أو إثم فى أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين ، وقد كان بعضهم من عاداته أن لا يأكل منفردا ، فإن لم يجد من يأكل معه عاف الطعام ، فرفع الله - تعالى - هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى ما تقتضيه شريعة الإسلام من بساطة ويسر وعدم تكلف ، فأباح لهم أن يأكلوا فرادى ومجتمعين .
فالجملة الكريمة بيان للحالة التى يجوز عليها الأكل ، بعد بيان البيوت التى يجوز الأكل منها والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على أحكم الأداء للترتيب اللفظى والموضوعى ، فقد بدأت ببيت الإنسان نفسه ، ثم بيوت الآباء ، فالأمهات ، فالإخوة ، فالأخوات ، فالأقارب ، فالبيوت التى يملكون التصرف فيها ؛ فبيوت الأصدقاء . . .
ثم لم يكتف بذلك ، وإنما بينت الحالة التى يباح الأكل منها . . .
ثم بعد ذلك علمتنا آداب دخول البيوت التى ندخلها للأكل أو لغيره ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } .
والمراد بأنفسكم هنا : أهل تلك البيوت التى يدخلونها ، لأنهم بمنزلة أنفسهم فى شدة المودة والمحبة والألفة ، و " تحية " منصوب بفعل مقدر أى : فحيوا تحية .
أى : فإذا دخلتم أيها المؤمنون والمؤمنات بيوتا فسلموا على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم ، وحيوهم تحية ثابتة من عند الله ، مباركة طيبة ، أى مستتبعة لزيادة البركات والخيرات ولزيادة المحبة والمودة .
ووصف - سبحانه - هذه التحية بالبركة والطيب ، لأنها دعوة مؤمن لمؤمن وكلاهما يرجو بها من الله - تعالى - زيادة الخير وطيب الرزق .
وتحية الإسلام أن يقول المسلم لأخيه المسلم : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى : مثل هذا البيان القويم ، يبين الله - تعالى - لكم الآيات المحكمة ، والإرشادات النافعة ، لكى تعقلوا ما اشتملت عليه من هدايات ، توصلكم متى انتفعتم بها إلى السعادة والفلاح .
ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء :
ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ، أو بيوت آبائكم ، أو بيوت أمهاتكم ، أو بيوت أخوانكم ، أو بيوت أخواتكم ، أو بيوت أعمامكم ، أو بيوت عماتكم ، أو بيوت أخوالكم ، أو بيوت خالاتكم ؛ أو ما ملكتم مفاتحه ، أو صديقكم . ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا . فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، تحية من عند الله مباركة طيبة . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون . .
روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة - دون استئذان - ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم . . الفقراء منهم . . فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن . ذلك حين نزلت : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )فقد كانت حساسيتهم مرهفة . فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه ، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد . فأنزل الله هذه الآية ، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج ، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيب نفس " .
ولآن الآية آية تشريع ، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي ، والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول ( من بيوتكم )فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج ، فبيت الابن بيت لأبيه ، وبيت الزوج بيت لزوجته ، وتليها بيوت الآباء ، فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة ، فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام ، فبيوت العمات ، فبيوت الأخوال ، فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها ، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا )فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد ، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ) . . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح ، وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . .
وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة :
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ) . . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير . .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ تَحِيّةً مّنْ عِندِ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيّبَةً كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هذه الآية في المعنى الذي أنزلت فيه ، فقال بعضهم : أنزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العُمْيان والعُرْجان والمرضى وأهل الزّمانة من طعامهم ، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم ، خشية أن يكونوا قد أتَوْا بأكلهم معهم من طعامهم شيئا مما نهاهم الله عنه بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنكمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ . . . إلى قوله : أوْ أشْتاتا وذلك لَمّا أنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ فقال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام من أفضل الأموال ، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد . فكفّ الناس عن ذلك ، فأنزل الله بعد ذلك : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ . . . إلى قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ . . . الآية ، كان أهل المدينة قبل أن يُبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ، فقال بعضهم : إنما كان بهم التقذّر والتقزّز . وقال بعضهم : المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح ، والأعرج المنحبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والأعمى لا يبصر طيب الطعام . فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ في مؤالكة المريض والأعمى والأعرج .
فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء : ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه ، ولا في الأعرج حرج ، ولا في المريض حرج ، ولا في أنفسكم ، أن تأكلوا من بيوتكم . فوجّهوا معنى «على » في هذا الموضع إلى معنى «في » .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم ، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمّى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير ملكه . ذكر من قال ذلك :
19874حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ قال : كان رجال زَمْنَى قال ابن عمرو في حديثه : عُمْيان وعُرْجان . وقال الحارث : عُمْيٌ عُرْج أولوا حاجة ، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ، فإن لم يجدوا طعاما ذهبوا بهم إلى بوت آبائهم ومن عدد منهم من البيوت ، فكره ذلك المستتبعون ، فأنزل الله في ذلك : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ، وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان الرجل يذهب بالأعمى والمريض والأعرج إلى بيت أبيه ، أو إلى بيت أخيه ، أو عمه ، أو خاله ، أو خالته ، فكان الزّمني يتحرّجون من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم ، فنزلت هذه الآية رُخْصة لهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحو حديث ابن عمرو ، عن أبي عاصم .
وقال آخرون : بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من خَلّفهم في بيوته من الغزاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : قلت للزهريّ ، في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ ما بال الأعمى ذكر ها هنا والأعرج والمريض ؟ فقال : أخبرني عُبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غَزَوا خَلّفوا زَمْناهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، يقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرّجون من ذلك ، يقولون : لا ندخلها وهي غُيّب . فأنزلت هذه الآية رخصة لهم .
وقال آخرون : بل عُني بقوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ في التخلف عن الجهاد في سبيل الله . قالوا : وقوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُيُوتِكُمْ كلام منقطع عما قبله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ قال : هذا في الجهاد في سبل الله . وفي قوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ . . . إلى قوله : أوْ صَدِيقِكُمْ قال : هذا شيء قد انقطع ، إنما كان هذا في الأوّل ، لم يكن لهم أبواب وكانت الستور مُرْخاة ، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد ، فربما وجد الطعام وهو جائع ، فسوّغه الله أن يأكله . قال : وقد ذهب ذلك اليوم البيوت اليوم فيما أهلها ، وإذا أخرجوا أغلقوها فقد ذهب ذلك .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة في مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن مِقْسم ، في قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ قال : كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج ، فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا .
واختلفوا أيضا في معنى قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فقال بعضهم : عُني بذلك وكيلُ الرجل وَقيّمُه ، أنه لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ونحو ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وهو الرجل يوكّل الرجل بضيعته ، فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشربَ اللبن .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : منزل الرجل نفسه أنه لا بأس عليه أن يأكل . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يعني : بيت أحدهم ، فإنه يملكه ، والعبيد منهم مما ملكوا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ مما تحبون يا ابن آدم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال : خزائن لأنفسهم ، ليست لغيرهم .
وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ . . . إلى قوله : أوْ صَدِيقكُمْ القول الذي ذكرنا عن الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله ، وذلك أن أظهر معاني قوله : لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ : أنه لا حرج على هؤلاء الذين سُمّوا في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها ، على ما أباح لهم من الأكل منها . فإذ كان ذلك أظهر معانيه ، فتوجيه معناه إلى الأغلب الأعرف من معانيه أولى من توجيهه إلى الأنكر منها . فإذ كان ذلك كذلك ، كان ما خالف من التأويل قول من قال : معناه : ليس في الأعمى والأعرج حرج ، أولى بالصواب . وكذلك أيضا الأغلب من تأويل قوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتكُمْ أنه بمعنى : ولا عليكم أيها الناس . ثم جمع هؤلاء والزّمْنَى الذين ذكرهم قبل في الخطاب ، فقال : أن تأكلوا من بيوت أنفسكم . وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب ، غلّبت المخاطب فقالت : أنت وأخوك قمتما ، وأنت وزيد جلستما ، ولا تقول : أنت وأخوك جلسا ، وكذلك قوله : وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ والخبر عن الأعمى والأعرج والمريض ، غلّب المخاطب ، فقال : أن تأكلوا ، ولم يقل : أن يأكلوا .
فإن قال قائل : فهذا الأكل من بيوتهم قد علمناه كان لهم حلالاً إذ كان ملكا لهم ، أَوَ كانَ أيضا حلالاً لهم الأكل من مال غيرهم ؟ قيل له : ليس الأمر في ذلك على ما توهمّتَ ولكنه كما ذكرناه عن عبيد الله بن عبد الله ، أنهم كانوا إذا غابوا في مغازيهم وتخلف أهل الزمانة منهم ، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلى المتخلف منهم ، فأطلق له في الأكل مما يخلف في منزله من الطعام ، فكان المتخلفون يتخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب ، فأعلمه الله أنه لا حرج عليه في الأكل منه وأذِن لهم في أكله . فإذ كان ذلك كذلك تبين أن لا معنى لقول من قال : إنما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة المستتبع أكل طعام غير المستتبع لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك : لقيل : ليس عليكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم ، أو من طعام آباء من دعاكم ، ولم يقل : أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم . وكذلك لا وجه لقول من قال : معنى ذلك : ليس على الأعمى حرج في التخلف عن الجهاد في سبيل الله ، لأن قوله : أنْ تأْكُلوا خبر «ليس » ، و«أنْ » في موضع نصب على أنها خبر لها ، فهي متعلقة ب«ليس » ، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام : ليس على الأعمى حرج أن يأكل من بيته ، ولا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج عليه في التخلف عن الجهاد . فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، تبين أن معنى الكلام : لا ضِيقَ على الأعمى ، ولا على الأعرج ، ولا على المريض ، ولا عليكم أيها الناس ، أن تأكلوا من بيوت أنفسكم أو من بيوت آبائكم أو من بيوت أمهاتكم أو من بيوت إخوانكم أو من بيوت أخواتكم أو من بيوت أعمامكم أو من بيوت عماتكم أو من بيوت أخوالكم أو من بيوت خالاتكم أو من البيوت التي ملكتم مَفاتحها أو من بيوت صديقكم ، إذا أذنوا لكم في ذلك ، عند مغيبهم ومشهدهم . والمفاتح : الخزائن ، واحدها : «مَفْتح » إذا أريد به المصدر ، وإذا كان من المفاتيح التي يفتح بها ، فهي مِفْتح ومفاتح وهي ها هنا على التأويل الذي اخترناه جمع مِفْتح الذي يفتح به . وكان قَتاة يتأوّل في قوله : أوْ صَدِيقِكُمْ ، ما :
حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر ، عن قَتادة : أوْ صَدِيقِكُمْ فلو أكلْت من بيت صديقك من غير أمره ، لم يكن بذلك بأس . قال معمر : قلت لقتادة : أَوَلاَ أشربُ من هذا الحُبّ ؟ قال : أنت لي صديق .
وأما قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : كان الغنيّ من الناس يتخوّف أن يأكل مع الفقير ، فرخّصَ لهم في الأكل معهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قوله : أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا قال : كان الغنيّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصديقه ، فيدعُوَه إلى طعامه ليأكل معه ، فيقول : والله إني لأجنح أن آكل معك والجنح : الحرج وأنا غنيّ وأنت فقير فأُمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا .
وقال آخرون : بل عُني بذلك حيّ من أحياء العرب ، كانوا لا يأكل أحدهم وحده ولا يأكل إلا مع غيره ، فأذِن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده ومن شاء منهم مع غيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم ، فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : كانت بنوِ كنانة يستحى الرجل منهم أن يأكل وحده ، حتى نزلت هذه الآية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : كانوا لا يأكلون إلا جميعا ، ولا يأكلون متفرّقين ، وكان ذلك فيهم دينا فأنزل الله : ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى ، وليس عليكم حرج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا قال : كان من العرب من لا يأكل أبدا جميعا ومنهم من لا يأكل إلا جميعا ، فقال الله ذلك .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، حدثنا نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا في حيّ من في العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده ، كان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكله معه . قال : وأحسب أنه ذكر أنهم من كِنانة .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخّصَ لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن أبي صالح وعكرمة ، قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم ، فرُخّص لهم ، قال الله : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وضع الحَرَج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا ، أو أشتاتا متفرّقين إذا أرادوا . وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوّف من الأغنياء الأكل مع الفقير ، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يَطْعَمون وُحْدانا ، وبسبب غير ذلك ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر ، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه . والصواب التسليم لما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل .
وقوله : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فإذا دخلتم أيها الناس بيوت أنفسكم ، فسلموا على أهليكم وعيالكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ وقتادة في قوله : فسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ قالا : بيتك ، إذا دخلته فقل : سلام عليكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسكُمْ قال : سَلّمْ على أهلك قال ابن جُرَيج : وسُئل عن عطاء بن أبي رباح : أحقّ على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم عليهم ؟ قال : نعم . وقالها عمرو بن دينار . وتَلَوا : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفِسكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْد اللّهِ مُبارَكَةً طَيّبَةً قال عطاء بن أبي رباح ذلك غير مرّة .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني أبو الزّبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تَحيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ مُبارَكَةً طَيّبَةً . قال : ما رأيته إلا يوجبه . قال ابن جُرَيج ، وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخل أحدكم بيته فليسلم .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قلت لعطاء : إذا خرجت أواجب السلام ؟ هل أسلم عليهم ؟ فإنما قال : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا ؟ قال : ما أعلمه واجبا ولا آثِرُ عن أحد وجوبه ، ولكن أحبّ إليّ ، وما أدعه إلا ناسيا . قال ابن جُرَيج ، وقال عمرو بن دينار : لا ، قال : قلت لعطاء : فإن لم يكن في البيت أحد ؟ قال : سلّمْ قل : السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله . قلت له : قولك هذا إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد عمن تَأْثِره ؟ قال : سمعته ولم يؤثر لي عن أحد . قال ابن جُرَيج ، وأخبرني عَطَاءٌ الخُراسانيّ ، عن ابن عباس ، قال : السلام علينا من ربنا ، وقال عمرو بن دينار : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
حدثنا أحمد بن عبد الرحيم ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا صدقة ، عن زُهَير ، عن ابن جُرَيج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، تحية من عند الله مباركة طيبة . قال : ما رأيته إلاّ يوجبه .
حدثنا محمد بن عباد الرازي ، قال : حدثنا حجاج بن محمد الأعور ، قال : قال لي ابن جُرَيج ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : فذكر مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ يقول : سلموا على أهاليكم إذا دخلتم بيوتكم ، وعلى غير أهاليكم ، فسلموا إذا دخلتم بيوتهم .
وقال آخرون : بل معناه : فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على أهلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ قال : هي المساجد ، يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا دخلت بيتك فقل : السلام عليكم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم ، فليسلم بعضكم على بعض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ أي ليسلم بعضكم على بعض ، كقوله : وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ قال : إذا دخل المسلّم سُلّم عليه ، كمثل قوله : لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إنما هو : لا تقتل أخاك المسلم . وقوله : ثُمّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ قال : يقتل بعضكم بعضا ، قُريظة والنّضِير .
وقال آخرون : معناه : فإذا دخلتم بيوتا ليس فيها أحد ، فسلموا على أنفسكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، قال : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا دخلت بيتا فيه ناس من المسلمين وغير المسلمين ، فقل مثل ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سِنان ، عن ماهان ، قال : إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، قال : تقولوا : السلام علينا من ربنا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة عن منصور ، قال شعبة : وسألته عن هذه الآية : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ قال : قال إبراهيم : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشجّ ، عن نافع : أن عبد الله كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد ، قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، قال : حدثنا منصور ، عن إبراهيم : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسكُمْ قال : إذا دخلت بيتا فيه يهود فقل : السلام عليكم وإن لم يكن فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه : فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين ، فليسلم بعضكم على بعض .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال : فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتا ولم يخصُصْ من ذلك بيتا دون بيت ، وقال : فَسَلّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ يعني : بعضكم على بعض . فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض ، أنه معنىّ به جميعها ، مساجدها وغير مساجدها . ومعنى قوله : فَسَلّموا عَلى أنْفُسِكُمْ نظير قوله : وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ . وقوله : تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ونصب تحية ، بمعنى : تُحيّون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية ، فكأنه قال : فليحيّ بعضكم بعضا تحية من عند الله . وقد كان بعض أهل العربية يقول : إنما نصبت بمعنى : أَمَرَكم بها تفعلونها تَحيّة منه ، ووصف جلّ ثناؤه هذه التحية المباركة الطيبة لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم .
وقوله : كَذلكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ يقول تعالى ذكره : هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم فيبينها لكم ، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحلّ لكم فيها ، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه . لَعَلّكُم تَعْقِلَونَ يقول : لكي تفقَهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه .
اختلف الناس في المعنى الذي رفع الله فيه «الحرج » عن الأصناف الثلاثة ، فظاهر الآية وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم الإتيان بالأكمل ، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص ، فالحرج مرفوع عنهم في هذا . فأما ما قال الناس في هذا «الحرج » هنا فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخرهم ، وقوله : { ولا على أنفسكم } الآية معنى مقطوع من الأول ، وقالت فرقة الآية كلها في معنى المطاعم قال وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار فبعضهم كان يفعل ذلك تقذراً لجولان اليد من { الأعمى } ولانبساط الجلسة من { الأعرج } ولرائحة المريض وعلاته وهي أخلاق جاهلية وكبر ، فنزلت مؤيدة ، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجاً من غبن أهل الأعذار إذ هم مقصرون في الأكل عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية في { الأعمى } وللعجز عن المزاحمة في { الأعرج } ولضعف المريض فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم ، وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس لأجل عذرهم فنزلت الآية مبيحة لهن ، وقال ابن عباس أيضاً الآية من أولها إلى آخرها إنما نزلت بسبب أن الناس ، لما نزلت { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }{[8760]} [ البقرة : 188 ] قالوا لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من أن يأكل أحد مع هؤلاء فيغبنهم في الأكل فيقع في أكل المال بالباطل ، وكذلك تحرجوا عن أكل الطعام القرابات لذلك فنزلت الآية مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة تلك إنما هي في التعدي والقمار وكل ما يأكله المرء من مال الغير والغير كاره أو بصفة فاسدة ونحوه ، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قوله في الأصناف الثلاثة إنما نزلت بسبب أن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو ، خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم ، فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب ، فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك ، وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك ، فنزلت الآية وذكر الله تعالى بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء ، فقال المفسرون ذلك داخل في قوله { من بيوتكم } لأن بيت ابن الرجل بيته ، وقرأ طلحة بن مصرف «إمهاتكم » بكسر الهمزة وقوله : { أم ما ملكتم مفاتحه } يعني ما حزتم وصار في قبضتكم ، فعظمه ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه وذلك هو تأويل الضحاك ومجاهد ، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف ، وقرأ جمهور الناس «مَلَكتم » بفتح الميم واللام ، وقرأ سعيد بن جبير «مُلِّكتم » بضم الميم وكسر اللام وشدها ، وقرأ جمهور الناس «مفاتحه » ، وقرأ سعيد بن جبير «مفاتيحه » بياء بين التاء والحاء الأولى على جمع مَفتح والثانية على جمع مُفتاح{[8761]} ، وقرأ قتادة «ملكتم مفاتحه » وقرن تعالى في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق ، قال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الجب{[8762]} ؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان ؟ قال ابن عباس في كتاب النقاش : الصديق أوكد من القرابة ، ألا ترى إلى استغاثة الجهنميين
{ فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }{[8763]} [ الشعراء : 100 ] وقوله { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفراداً البتة ، قاله الطبري ، ومن ذلك قول بعض الشعراء : [ الطويل ]
إذا صنعت الزاد فالتمسي له . . . أكيلاً فإني لست آكله وحدي{[8764]}
وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت هذه الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خلفها من سنة العرب ، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرماً نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت في إلزامه وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم الانفراد ، وقال بعض أهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام : «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام »{[8765]} وبقوله تعالى : { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا }{[8766]} [ النور : 27 ] وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه » الحديث{[8767]} ، ثم ختم الله تعالى الآية بتبيينه سنة السلام في البيوت ، واختلف المتأولون في أي البيوت أراد ، فقال إبراهيم النخعي : أراد المساجد ، والمعنى سلموا على من فيها من صنفكم فهذا كما قال { لقد جاءكم رسول من أنفسكم }{[8768]} [ التوبة : 128 ] فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء السلام على رسول الله وقيل السلام عليكم يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قوله { تحية } مصدر{[8769]} ووصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه والكاف من قوله { كذلك } كاف تشبيه وذلك إشارة إلى هذه السنن أي كهذا الذي وصف يطرد تبيين الآيات { لعلكم } تعقلونها وتعملون بها ، وقال بعض الناس في هذه الآية إنها منسوخة بآية الاستئذان الذي أمر به الناس وهي المقدمة في السورة ، فإذا كان الإذن محجوراً فالطعام أحرى ، وكذلك أيضاً فرضت فرقة نسخاً بينها وبين قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }{[8770]} [ البقرة : 188 ] .
قال الفقيه الإمام القاضي : والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات بل هي كلها محكمة ، أما قوله { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] ففي التعدي والخدع والإغرار واللهو والقمار ونحوه ، وأما هذه الآية ففي إباحة هذه الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة ، وأما آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشف فإذا استأذن الرجل خوف الكشفة ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة وليس يكون في الآية نسخ فتأمله .
{ لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } .
اختلف في أن قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج } الخ منفصل عن قوله { ولا على أنفسكم } وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت ، أي فيكون من تمام آية الاستيذان ، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد .
فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان . وقال ابن عطية : إنه ظاهر الآية . وهو الذي نختاره تفادياً من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة ، ولأن في قوله : { أن تأكلوا من بيوتكم } إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض ، فتكون هذه الآية نفياً للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال ، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم ، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم . فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب ، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو . ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجِبهِ . ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجاً وإتماماً لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى .
وقال بالثاني جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عدّ هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية .
والجملة : على كلا الوجهين مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .
{ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } .
مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى ، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين ، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج ، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل ، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا البيوت للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذٍ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم .
هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم . وقد ذكر المفسرون وجوهاً أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » إلى ثمانية ليس منها واحد ينثلج له الصدر .
وأعيد حرف ( لا ) مع المعطوف على المنفي قبله تأكيداً لمعنى النفي وهو استعمال كثير .
والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضراً دون المختزن .
والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل : ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره ، فالخطاب للأمة .
والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد ، أي أن يأكل أكلاً لا يشاركه فيه بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجه غائبة ، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها .
وعطف على بيوت أنفسهم بيوتُ آبائهم ، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم . قيل : لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم ، ولا يصح ، فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتاً كما في خبر عبد الله بن عمر . فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم « أنت ومالك لأبيك » .
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القرابة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالباً .
و ( ما ) في قوله : { ما ملكْتُم مفاتحه } موصولة صادقة على المكان أو الطعام ، عطف على { بيوت خالاتكم } لا على { أخوالكم } ولهذا جيء ب ( ما ) الغالب استعمالها في غير العاقل .
ومِلك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط . والمفاتح : جمع مَفْتح وهو اسم آلة الفتح . ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح .
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل كل منهم مما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه وذلك للعرف بأن ذلك كالإجارة فلذلك قال الفقهاء : إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده .
و ( صديق ) هنا مراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين ، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفاً أو خبراً في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل ، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى : { فما لنا منْ شافعين ولا صديق حميم } [ الشعراء : 100 ، 101 ] ومثله الخليط والقطين .
والصديق : فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة . وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء . وسئل بعض الحكماء : أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : إنما أحب أخي إذا كان صديقي .
وأعيدت جملة : { ليس عليكم جُناح } تأكيداً للأولى في قوله : { ولا على أنفسكم } إذ الجناح والحرج كالمترادفين .
وحسّن هذا التأكيد بُعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله : { أن تأكلوا من بيوتكم } ، ولأجل كونها تأكيداً فصلت بلا عطف .
والأشتات : الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه ، قال تعالى : { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } [ الحشر : 14 ] .
والأشتات : جمع شَتّ ، وهو مصدر شتّ إذا تفرق . وأما شتّى فجمع شتيت .
والمعنى : لا جناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله ؛ أو أن يأكل وحده متفرقاً عن مشارك ، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه ، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت . أو أن يأكل وحده .
وتقدم قراءة { بيوت } بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } في هذه السورة ( 27 ) .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكَّرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } [ النور : 27 ] لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنَّه قول الناس : إذا استوى الحب سقط الأدب .
ومعنى { فسلموا على أنفسكم } فليسلم بعضكم على بعض ، كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] .
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب . وأما ما ورد في التشهد من قول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضاً عما كانوا يقولون : السلام على الله ، السلام على النبي ، السلام على جبريل ومكائيل ، السلام على فلان وفلان . فقال لهم رسول الله : « إن الله هو السلام ، إبطالاً لقولهم السلام على الله » ثم قال لهم : « قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض » .
وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله : { تحية من عند الله مباركة طيبة } ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه .
والتحية : أصلها مصدر حيّاه تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفاً وهي قول : حياك الله . وقد تقدم في قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } في سورة النساء ( 86 ) .
فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل ( حيّا ) مثل قولهم : جزّاه . إذا قال له : جزاك الله خيراً ، كما تقدم في فعل { وتسلموا على أهلها } [ النور : 27 ] آنفاً .
وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة :
حيّاكِ ربي فإنا لا يحل لنا *** لهو النساء وإن الدين قد عزَما
وكانت تحية الملوك « عم صباحاً » فجعل الإسلام التحية كلمة « السلام عليكم » ، وهي جائية من الحنيفية { قالوا سلاماً قال سلام } [ هود : 69 ] وسماها تحية الإسلام ، وهي من جوامع الكلم لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه وباللطف له إن كان معروفاً .
ولفظ « السلام » يجمع المعنيين لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسالم له فكان الخبر كناية عن التأمين ، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير لأن السلامة لا تجامع شيئاً من الشر في ذات السالم ، والأمان لا يجامع شيئاً من الشر يأتي من قِبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهداً بالأمن يجب الوفاء به . وفي كلمة { عليكم } معنى التمكن ، أي السلامة مستقرة عليكم .
ولكون كلمة ( السلام ) جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علّمها رسوله بالوحي .
وانتصب { تحية } على الحال من التسليم الذي يتضمنه { فسلّموا } نظير عود الضمير على المصدر في قوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
والمباركة : المجعولة فيها البركة . والبركة : وفرة الخير . وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية .
والطيِّبة : ذات الطيِّب ، وهو طِيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس ووجه طِيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة . ووزن { طيبة } فيعلة مبالغة في الوصف مثل : الفيصل . وتقدم في قوله تعالى : { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } في آل عمران ( 38 ) وفي قوله : { وجَرَيْن بِهِمْ بريح طيبة } في سورة يونس ( 22 ) .
والمعنى أن كلمة « السلام عليكم » تحية خيرٌ من تحية أهل الجاهلية . وهذا كقوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] أي تحيتهم هذا اللفظ .
وجملة { كذلك يبين الله لكم الآيات } تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بياناً لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم .