يخبر تعالى عن [ تمام ] حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه الإيمان ، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن ، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه .
فإنهم لو كان الأمر كذلك ، لم يتميز الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل ، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة ، أن يبتليهم بالسراء والضراء ، والعسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والغنى والفقر ، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان ، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن ، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة ، والشهوات المعارضة للإرادة ، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل ، ويدفعها{[619]} بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب ، أو الصارفة عن ما أمر اللّه به ورسوله ، يعمل بمقتضى الإيمان ، ويجاهد شهوته ، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته .
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا ، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات ، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه .
والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا اللّه ، فمستقل ومستكثر ، فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأن يثبت قلوبنا على دينه ، فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير ، يخرج خبثها وطيبها .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } للإِنكار و { حسب } من الحسبان بمعنى الظن . وقوله : { يُفْتَنُونَ } من الفتن ، بمعنى الاختبار والامتحان .
يقال : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فيها لتعلم الجيد منه من الخبيث .
وجملة " أن يتركوا " سدت مسد مفعولى حسب ، وجملة " أن يقولوا " فى موضع نصب ، على معنى : لأن يقولوا ، وهى متعلقة بقوله : { يتركوا } . وجملة " وهم لا يفتنون " فى موضع الحال من ضمير " يتركوا " .
والمعنى : أظن الناس أن يتركوا بدون امتحان ، واختبار ، وابتلاء ، وبدون نزول المصائب بهم ، لأنهم نطقوا بكلمة الإِيمان ؟ إن ظنهم باطل ، ووهم فاسد ، لأن الإِيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط ، بل هو عقيدة تكلف صاحبها الكثير من ألوان الابتلاء والاختبار ، عن طريق التعرض لفقد الأموال والأنفس والثمرات ، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه .
قال القرطبى : والمراد بالناس قوم من المؤمنين كانوا بن ربيعة ، والوليد بن الوليد . . . فكانت صدورهم تضيق بذلك ، وربما استنكروا أن يمكن الله الكفار من المؤمنين . قال مجاهد وغيره : فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هى سيرة الله فى عباده ، اختبار للمؤمنين وفتنة .
قال ابن عطية : وهذه الآية وإن اكنت نزلت بهذا السبب أو ما فى معناه من الأقوال ، فهى باقية فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، موجد حكمها بقية الدهر
وبعد هذا الافتتاح يبدأ الحديث عن الإيمان ، والفتنة التي يتعرض لها المؤمنون لتحقيق هذا الإيمان ؛ وكشف الصادقين والكاذبين بالفتنة والابتلاء :
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا : آمنا وهم لا يفتنون ? ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) .
إنه الإيقاع الأول في هذا المقطع القوي من السورة . يساق في صورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس للإيمان ، وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان .
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا : آمنا وهم لا يفتنون ? ) . .
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ؛ وأمانة ذات أعباء ؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به - وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه - وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب .
هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، في ميزان الله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى : { الَمَ * أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } .
قال أبو جعفر : وقد بيّنا معنى قول الله تعالى ذكره الم وذكرنا أقوال أهل التأويل في تأويله ، والذي هو أولى بالصواب من أقوالهم عندنا ، بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ فإن معناه : أظَنّ الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى المشركين إياهم ، أن نتركَهم بغير اختبار ، ولا ابتلاء امتحان ، بأن قالوا : آمنا بك يا محمد ، فصدّقناك فيما جئتنا به من عند الله ، كَلاّ لنختبرهم ، ليتبين الصادق منهم من الكاذب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله آمّنا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال : يُبْتلَون في أنفسهم وأموالهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ : أي لا يُبْتَلَون .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، في قوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال : لا يُبْتَلَون .
فَأَنِ الأولى منصوبة بحسب ، والثانية منصوبة في قول بعض أهل العربية ، بتعلق يتركوا بها ، وأن معنى الكلام على قوله أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا لأن يقولوا آمنا فلما حذفت اللام الخافضة من لأَنْ ، نصبت على ما ذكرت . وأما على قول غيره فهي في موضع خفض بإضمار الخافض ، ولا تكاد العرب تقول : تركت فلانا أن يذهب ، فتدخل أنْ في الكلام ، وإنما تقول : تركته يذهب ، وإنما أدخلت أن هاهنا لاكتفاء الكلام بقوله أنْ يُتْرَكُوا إذ كان معناه : أحسب الناس أن يُتركوا وهم لا يفتنون ، من أجل أن يقولوا آمنا ، فكان قوله : أنْ يُتْرَكُوا مكتفية بوقوعها على الناس ، دون أخبارهم . وإن جعلت «أن » في قوله أنْ يَقُولُوا منصوبة بنية تكرير أحسب ، كان جائزا ، فيكون معنى الكلام : أحسب الناس أن يُتركوا : أحسبوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.